ضمن مشروعه الفكري المتكوّن من مجالات عدة تشتمل على فلسفة اللغة، وفلسفة العلوم، والفلسفة السياسية والاجتماعية، صدر أخيراً كتاب «السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية» (دار سؤال ـــ بيروت) للباحث الجزائري الزواوي بغورة، أستاذ الفلسفة المعاصرة في «جامعة الكويت». يعدّ الكتاب بمثابة تطوير وتعميق لقراءاته في فلسفة ميشال فوكو، ومحاولة لتطبيقها على مجموعة من القضايا الفكرية والأحداث التاريخية، أبرزها ما شهدته البشرية بين عامَي 2019 و2022 من جائحة كورونا، وتوظيف مفهوم السياسة الحيوية في دراستها. مفهوم قديم نسبيّاً، استُخدم في وصف الممارسات والآليات التي اتخذتها السلطة في منتصف القرن الثامن عشر لإحكام السيطرة على جسد الأفراد، وعلى الحياة بصفة عامة، من خلال التدخّل في حياة السكان، ومراقبة معدَّل الولادات والوفيات، ووصف الأوبئة وتحدياتها.

في تقديره، فإنَّ ثمَّة «انفجاراً خطابياً» لهذا المفهوم في الفكر السياسي والاجتماعي المعاصر «الذي استعمله فوكو في سبعينيَّات القرن العشرين، والذي يعرف حضوراً مكثَّفاً في معظم الدراسات والبحوث والمناقشات التي تناولت هذه الجائحة، وقُدِّمت حوله قراءات وتأويلات ومقاربات عديدة، حاولت، قدر الإمكان، التوقُّف عندها، وتحليلها، ومناقشتها». وعليه، فقد أضحى كتاب «السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية»، منجزاً فكريّاً متكاملاً قدَّمه الباحث الجزائري حول هذا الموضوع، باعتباره دراسةً شاملةً تتعدّد مفاهيمها، لتلامس السياسة الصحية، والجسد والمرض والعنصرية، والعدالة في النظام الدولي الجديد. يتكوَّن الكتاب من مقدِّمة وثمانية فصول وخاتمة. تبيّن المقدمة مكانة هذا الكتاب ضمن أعمال المؤلف وأبحاثه الفلسفية، خصوصاً كتابه «مدخل إلى فلسفة ميشال فوكو» (2013). في هذا العمل، دافع عن فكرة العلاقة بين أبحاث فوكو وأبحاث مدرسة فرانكفورت، خصوصاً عند الفيلسوف ثيودور أدورنو، قبل أن يتوقَّف الزواوي عند الفيلسوف أكسيل هونيث ممثل الجيل الثالث لهذه المدرسة في كتابه «نقد السلطة» (2016)، وكذلك في كتابه «الاعتراف، من أجل مفهوم جديد للعدل» (2012)، الذي حلَّل فيه الوجه الجديد للعدل الثقافي أو الرمزي مقارنة بالعدل المادي أو التوزيعي، ودوره في تأسيس نظرية الاعتراف عند مجموعة من الفلاسفة المعاصرين، على رأسهم: بول ريكور، وتشارلز تايلور، ونانسي فريزر، واكسيل هونيث، و إمكانية تأسيس فلسفة اجتماعية عربية تُعنى بمختلف الأمراض الاجتماعية التي تعرفها المجتمعات العربية. من هنا يمكن القول إنَّ المؤلِّف قدَّم، في «السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية»، مقاربةً نظريةً وتطبيقيةً في الوقت ذاته، متّخذاً من الفلسفة الاجتماعية إطاراً منهجيّاً عامّاً لها، ومن مفهوم السياسة الحيوية مثالاً أنموذجياً. ميّز تحليلات العديد من الفلاسفة والباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: ديدييه فاسين، وبول ربينوف في مجال الأنثروبولوجيا، ونيكولاس روز وطوماس ليمك في علم الاجتماع، وموريزيو لازاراتو في الاقتصاد، وغيوم لو بلان وأنطونيو نيغري وجيورجيو أغامبين، وروبرتو ايسبوزيتو في الفلسفة. كما طبّق قراءته على مفاهيم المرض، والجسد، والشعبويّة، والعنصرية، كاشفاً عن أهمية العدالة الصحية في النظام الدولي، لأنَّه، كما يقول عن حق «سواءً تحدَّثنا عن النظام الدولي الجديد أو عن السياسة الحيويَّة بما هي سياسة معنيَّة بصحَّة السكان، فإنَّ قيمة العدل حاضرة في الحالتين، فخصوم ونقَّاد النظام العالمي الجديد، إنَّما ينتقدونه ويعترضون عليه باسم هذه القيمة، ولما يعدُّونه مصدراً لكثير من المظالم. كما أنَّ الاحتجاجات على مختلف السياسات الحيويَّة، وخاصَّة تلك التي صاحبت جائحة كورنا، إنَّما تقوم على تصوُّر معيَّن للعدل، وخاصة العدل الصحي، و لما يعتبرونه تفاوتاً غير مقبول عندما يتعلَّق الأمر بصحَّة الإنسان وحياته». لا شكّ في أنَّ جائحة كورونا لا تطرح المسألة الصحيَّة بوصفها وباءً عالميّاً، إنَّما تطرح ما هو أبعد من ذلك: البُعد الوجودي للإنسان المتّسم بالهشاشة. من هنا برزت بعض الإسهامات الفكرية في الفلسفة الاجتماعية التي تولي أهميَّة كبرى لما تسمِّيه بـ«الضعف والهشاشة». لم يعد الأمر مقتصراً على هشاشة الأفراد وضعفهم، بسبب ما يتعرَّضون له من أمراض أو حوادث، وإنَّما الهشاشة أصابت وجودنا كلَّه، وشملت البيئة، والمجتمع، والدول، والنظام الدولي نفسه، وليس أدلُّ على ذلك من جائحة كورونا وما ألحقته من انهيار للنظام الدولي، جعل بعض المحلِّلين يرون في هذه الجائحة علامة على القطيعة التي سيعرفها العالم، وبداية لعصر جديد من العلاقات الدوليَّة، ربَّما تكون معالمه اندلاع حرب باردة بين الولايات المتَّحدة الأميركية والصين الشعبيَّة، وروسيا أو أكثر من ذلك!
رأى المحللون في جائحة كورونا بدايةً لعصر جديد من العلاقات الدوليَّة


مهما كانت قيمة هذه التحليلات السياسية الآنيَّة، فالمؤكد أنّ هذه الجائحة كشفت حدود النظام الدولي، والإقليمي معاً من جهة، كما كشفت من جهة أخرى محدوديَّة معارفنا وإمكاناتنا التدبيريَّة، وعجزنا، رغم ما تحقَّق من إنجازات علميَّة وتقنيَّة. يختم الباحث كتابه ببعض تأمُّلاته حول جائحة كورونا وما بعدها، خصوصاً لجهة علاقتها بالبحث العلمي والسياسات العلمية التي تتبعها الدول، ومنها الدول العربية؛ على اعتبار أنَّ السياسة الحيوية ترتبط بالدولة القومية التي تمارس سياسة اجتماعية؛ هدفها إحكام القبضة على الجسد الاجتماعي، عبر برامج حيوية وانضباطية لمراقبة المجتمع والتحكم به. وعن مستقبل ما بعد الجائحة؛ يرى المؤلف أنّها جعلتنا نعيد النظر في النماذج الجاهزة، خصوصاً كعرب، إذ اضطررنا لإعادة صياغة توجهاتنا البحثية بما يناسب واقعنا الفعلي، والعمل على تبيئتها بعيداً عن الأحكام الجاهزة، والتحّرر من النماذج الغربية المسيطرة. دعوة صريحة من الكاتب لرفض الاجترار والتقليد، والعمل على حلّ المشكلات، وجعل الفلسفة، والفلسفة الاجتماعية تحديداً، أداةً في خدمة واقعنا المعاصر، ووسيلة لتشخيص أمراضنا الاجتماعية الحاضرة، أملاً في إيجاد حلول للأزمات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، ومنها المجتمعات العربية. ما طرحه الزواوي بغورة من أسئلة في نهاية بحثه في السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية، يحتاج حقّاً إلى بحث متواصل، كون تلك الأسئلة بحدّ ذاتها تفرض نفسها على المؤلف بصفته باحثاً قبل سواه، ومنها على وجه التحديد التساؤل الآتي: «هل يسعفنا مفهوم السياسة الحيويَّة في صورته الجديدة بما هو مفهوم أساسي في الفلسفة الاجتماعيَّة، على فهم طبيعة الدولة في مجتمعاتنا العربيَّة؟ هل تكفي هذه القراءة النظريَّة للمفهوم، أم أنَّ الأمر يتطلب دراسة تجارب اجتماعيَّة وسياسيَّة محددة؟». إنَّ شكل الإجابة على التساؤل السابق، وتساؤلات أخرى، هو ما سيؤسِّس لما يسمّى «الفلسفة الاجتماعية العربية المعاصرة» التي نحن في أشدِّ الحاجة لها معرفيّاً وفلسفيّاً وثقافيّاً.