لدى رواية «منازل الأمس» (دار الكرمة ـــ 2023) لسومر شحادة (1989) مقولةٌ تذكّرنا بذلك المطلع الشهير لرواية «آنا كارنينا»: «كلّ العائلات السعيدة تتشابه، لكن، لكل عائلةٍ تعيسةٍ طريقتها الخاصة في التعاسة». وعائلةُ حنيفة، في إحدى قرى وادي الرميم، المطلة على بحيرةٍ في الساحل السوري، واحدةٌ من الأسرِ التي صنعت تعاستها الخاصة، إلا أننا في الوقت ذاته نستطيع أن نُسقط تلك التعاسةَ على الحقبة التي تغطيها الرواية من تاريخ البلاد، ذلك أن النص يمضي بين الماضي والحاضر، ويتداخل عرضاً مع أحداثٍ جرت في الثمانينيات، وربطت مصائر شخوصه بأحداثٍ قديمةٍ صاغت حاضر الرواية ومستقبلها.

«توجد قصصٌ تحطم البشر، وحياتي بدأت محطمة...». من هنا يصوغ الكاتب السوري عالمَ بطلته نسرين، وينجح في الولوج إلى داخل أبطاله. نراهُ يتحدث بلسان الجميع، ونشعر بذلك الأسى وعمقه في حياة نسرين كطفلةٍ وامرأةٍ تربّت بلا أمّ. ولنا أيضاً أن نعي لغة الصمت الجائرة؛ تلك التي قضاها والدها سليم عبر النص كله. فهو كزوجٍ مهجورٍ من قبل زوجةٍ أحبّها، لم ينجح في التنصّل من حقيقةِ كونهِ ابن عائلة حنيفة القروية، وذاك ما أثرى هروبَ الزوجة المنحدرة من إحدى عوائل مدينة أخرى، لم تجد بدّاً من الرحيل صبيحة ولادتها. ذاك الغياب، عالجه سليم بصمتٍ قوامه عشرون عاماً. وهنا تكمن الجمالية في جعل بطل الحكاية صامتاً ومؤثراً. فقد صاغ عالمَ ابنته بصمتهِ، مثلما نجدهُ في عجزهِ عن ضفرِ جدائل شعرها والميل إلى قَصَةٍ صبيانيةٍ رافقتها، وأمست سبباً في حب كارم وزواجه منها. إذاً سليم عاجزٌ عن تفسير هروب زوجته وداد، ذاك الهروب الذي يشكّلُ مفصلَ الرواية، يؤول بالمشهد إلى أمٍّ عبوسٍ وإخوةٍ متربّصين بسُمعةِ العائلة، إلى جانب طفلةٍ كبرت من غير أن تتعلم كيف توجه خطواتها.
تعترف نسرين بكونها لم تعرف يوماً كيف توجه مشيتها، وفي ذلك إحالةٌ لمدى الضياع الذي عاشته من دون أمّ تأخذ بيدها. وعلى الرغم من عيشها في كنف أبٍ جعل من حياتها عالمه، ومضى يصوغها بعيداً عن أذرع الفجيعة القديمة، لكنه بصمته يوقع الريبةَ في نفسها، مثلما يُوقعُ في قلب القارئ تساؤلاتٍ عديدة عما إذا كانت الطفلةُ ابنته أم لا. قد يُفهَمُ صمتهُ الطويل حرصاً على اطمئنانها، وربما كان شعوراً بالذنب حيال وداد التي طالما اعترف برهافتها. وهنا لحكاية الرحيل أن تمتدّ لما هو أبعد من سيرة أمّ هاربةٍ تغيبُ حتى النهاية، ويظل مصيرها خاضعاً لكثير من التأويل والإيحاءات المتضاربة.
في الرواية ثمة تداخل بين الفردي والعام، وما بين الاجتماعي والسياسي، إذ يؤطر الكاتب زمن اللقاء الأول بين نسرين وكارم بيوم وفاة رئيس البلاد، ويربط زمن هروب الأم بانقلاب أخيه، وهكذا بعد ثمانية عشر عاماً، تشعر نسرين بالمرارة، إذ تقرن رجوعها إلى سوريا بعودة الأخ المغترب. وبمفارقاتٍ عجيبة، نرى قسوة الأحداث تلك وما أفرزته من مآسٍ بعدها. فيعرب أخو سليم، وبوصفه عنصراً لا يتورع عن مهاجمة منزل أسرة وداد لاستعادة سمعة أخيه، ومنهُ نلتقطُ ذلك النفور الذي كان بين يعرب ووداد، ذلكَ العداء مشمولاً بخوفِ العائلة منه، لا يجعل القارئ بمعزلٍ عن مقاربة ما إذا كانت نسرين ثمرة اعتداءِ الأخ على زوجة أخيه. لا إجابةَ تُذكر، بل يَترك النصُّ لنا تقدير الحدثِ من غير أن يبدو بعد مُضي الزمن أمراً مهماً. ذلك أن نسرين تُصابُ باللامبالاة بعد زواجها من كارم، وهنا تضمرُ الرواية نسقاً آخرَ يكشفُ عن مرارة الإنجاب وتأسيس أسرةٍ في مدينةٍ تجري بصورة محمومةٍ نحو الإنجاز. هناك في مدينة دبي العجولة، ووسط الأبراج المضيئة، تكتنف الوحدةُ عالمَها، وتشعرُ بتشابهِ البلدان بعد الرحيل عن بلادها، ولربما قصدت بذلك سليمَ نفسه، كما لو كان البلد الوحيد الذي انتمت إليه. ومن دون أن تتوانى عن إنجاح تجربتها كأمّ لطفلين، يلوحُ الهروب الذي لجأت إليه وداد سابقاً، وتسهم الوحدة في جعله قدرَها. كأن مضيّ ثمانية عشر عاماً مع كارم وطفليها، كان مجرد محاولاتٍ مضنيةً للهروب من حقيقة أنها امرأةٌ بقيت طفلة، ووصلت إلى الأربعين من دون أن يكتشف أحد، بمن فيهم كارم، أن الزمن توقف مذ تركتها أمها على فراش الولادة، ومذ غادرت بدورها وادي الرميم بذاكرةٍ لا تحفظ ما حدث بعده.
تداخل بين الفردي والعام، بين الاجتماعي والسياسي


يمرض سليم، وتغادر نسرين إليه، في وقتٍ تكون العودة إلى البلاد ضرباً من الجنون، لكن نسرين تختار الرجوع، وتعدّهُ نجاةً من عالم كارم الذي انهارَ، وتفلّتَ من زمامِ زوجين اختارهما الحب، وأقصتهُ الغربة والحياة الرتيبة. تعود إلى وادي الرميم، وتحضر مراسم دفن أبيها، ونلتمس هنا بما يشبه المواربة أملها الدفين في ظهور أمها، لكن لا أثر يذكر، إذ نجدها وحيدةً في منزل العائلة الكبير وقد اختارت الانفصال، كأنها بعودتها تدفع ثمن أخطاء كل من صاغ حياتها؛ كارمَ الذي رماها إلى الوحدة، ويعربَ بجبروتهِ، وأمها وهجرانها، وأخيراً سليم الذي صنع عودتها بموتهِ. «تذكرتُ بينما كنتُ أسيرُ في شارع الكورنيش الغربي، الأوقات التي كان سليم يحملني فيها كي يلتقي بعمتي فدوى، ويتركانني أراقب السفن وأنا جالسة على كرسيّ واطئ في مقهى «العصافيري». بقيتُ أجلس على ذلك الكرسي الواطئ لثلاث ساعات خلال يوم في الشهر ولمدة أربع سنوات، قبل أن تنتقل فدوى مع زوجها إلى حمص وتنجب هناك. وأدركُ الآن أن ذلك الكرسي الواطئ كان حصتي من اللاذقية، وربما كان حصتي من العالم برمته».