يُعدّ كتاب «دفاتر السجن – مُختارات» لأنطونيو غرامشي الذي عرّبته أخيراً «منشورات الجمل» (ترجمة معز مديوني وصبا قاسم)، إحدى كلاسيكيات الفكر السياسي في القرن العشرين، إذ ترك تأثيراً كبيراً على جميع مجالات الفكر الاجتماعي والسياسي والنظرية الثقافية. أضف إلى ذلك أنّ غرامشي (1891-1937) أحد أعضاء الحزب الشيوعي الإيطالي، شارك في المؤتمر التأسيسي للحزب في كانون الثاني (يناير) 1921، ويُعتبر مِن أهم المفكّرين الإيطاليين الذين تمّت ترجمتهم ودراستهم في مختلف أنحاء العالم.ترك غرامشي موطنه الأصلي في سردينيا لدراسة فقه اللغة في «جامعة تورينو»، وانخرط في سياسة الحركة العمالية الإيطالية. ابتداءً من سنوات الحرب العالمية الأولى، عمل صحافياً وناقداً مسرحياً مع الصحف الاشتراكية في تورينو. في تلك الفترة، تزامل مع بينيتو موسولّيني الذي كان مُحرّراً للجريدة الاشتراكية Avanti. من اللافت أيضاً معرفة أنّ في الكتابات الصحافية المبكرة لغرامشي عداءً واضحاً للديمقراطية، سيظهر في «دفاتر السجن» عبر الإشادة باليعقوبية باعتبارها السياسة التي دفعت فقراء المدن في الثورة الفرنسية إلى دعم مطالب الفلاحين، ودفعت الثورة إلى الأمام. ارتبط هذا بنقده «الديمقراطية»، التي ينظر إليها على أنها فكرة مجرّدة. وقد ذكر أنّ «الديمقراطية هي أسوأ عدو لنا»، لأنّها حاولت تهدئة أو تخفيف حدة أفكار الصراع الطبقي.

(تصوير ماركو بوريلّي)

في تلك الكتابات الباكرة، كان غرامشي يحتقر المدافعين عن الديمقراطية، الذين اعتبر أنّهم يعبّرون عن أفكار مجرّدة بطريقة عاطفية، مستحضرين المبادئ المقدّسة للثورة الفرنسية مثل العدالة والأخوّة والحرية من دون أن يروا كيف تشكّلت هذه الأفكار تاريخياً بحيث لم تكن حقائق عالمية. توصّل غرامشي إلى أنّ المدافعين عن الديمقراطية منافقون، إذ دافعوا عن الحرب العالمية الأولى، وأضفوا الشرعية عليها باعتبارها حرباً ديمقراطية، بشّروا بإنجيل الديمقراطية الذي رفع هذه المُثُل الغامضة إلى مرتبة الحقائق الأبدية.
الثورة الروسية (1917) وتجربة مجالس المصانع وموجة ثورة الطبقة العاملة التي بلغت ذروتها في استيلاء العمال على مصانع تورينو عام (1920)، تركت أثراً بالغاً على فكر غرامشي الذي شدّد على الحاجة إلى القيادة، وضرورة الانضباط والنظام من قبل دولة ثورية، في حين أن موقفه السابق كان إلى حد ما مناهضاً للدولة. جاء ليقول إنّ «المجتمع لا يمكن أن يعيش بدون الدولة»، وخصوصاً الدولة البروليتارية من النوع المنظّم للغاية وذي الطابع العسكري بالضرورة. وشدّد على الدور الإبداعي لأقلية ثورية تقود الجماهير، معتبراً لينين «أعظم رجل دولة في أوروبا المعاصرة».
لقد ذهب موقف غرامشي السابق الأكثر إيجابيةً تجاه الليبرالية، إذ كان يرى أنّها فكرة غير ذات صلة بالتحدي المتمثل في بناء نظام بروليتاري جديد، وكان يعتقد أنه قد تمّ وضعه على جدول الأعمال من قبل الثورة البلشفية التي كانت ذات صلة مباشرة بإيطاليا. أظهرت الثورة الروسية الحاجة إلى نوع جديد من الدولة، ديكتاتورية البروليتاريا، وأشارت إلى الإطار المؤسسي لتحقيق تلك الدولة، أجهزة السوفياتات ومجالس العمال والجنود والفلاحين. في سياق مشاركته مع مجالس المصانع (1920)، طوّر غرامشي فكرته عن نوع جديد من الدولة، مع مجالس المصانع (أو اللجان الداخلية) والنضال ضد الرأسمالية ونواة شكل من أشكال الدولة يختلف عن الديمقراطية البرلمانية. وبدلاً من المواطن العام، صاحِب الحقوق المتساوية، كانت النقطة المرجعية هي الإنسان كعامل، بحيث تتزامن الوظيفة الاقتصادية مع القدرة السياسية.
انعكست معاداة غرامشي السابقة للديمقراطية في اهتمام جديد بأهمية القيادة السياسية، كما يتضح من تأييده البلاشفة، وإظهار الحاجة إلى حزب سياسي لتنظيم وانضباط الحركة الجماهيرية التي نشأت في الثورة الروسية وعلى نطاق أوسع في أزمة أوروبا ما بعد الحرب. ومن خلال السيطرة على الإنتاج والتعبئة الجماهيرية التي شهدها العامان الأحمران، كانت الجماهير العمّالية تطور الثقافة الجديدة والثقة التي اعتبرها غرامشي ضروريةً لمجتمع اشتراكي. لكن هذا يحتاج إلى استكماله بالقيادة السياسية وتنظيم الحركة الجماهيرية، من خلال وكالة الحزب السياسي. هذه كلها موضوعات تناولتها «دفاتر السجن» من منظور تاريخي وفلسفي أوسع أيضاً.
في عام 1922، أرسل الحزب الشيوعي الإيطالي غرامشي إلى موسكو باعتباره مندوبه في «اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية» (كومنترن). أثناء وجوده في موسكو، التقى جوليا شخت، التي ستصبح زوجته وأماً لطفليه. في تشرين الثاني (نوفمبر) 1923، غادر غرامشي موسكو متوجهاً إلى فيينا، وعاد إلى إيطاليا في أيار (مايو) 1924، بعدما انتُخب نائباً (عضواً في البرلمان) عن منطقة فينيتو في انتخابات نيسان (أبريل) 1924، ليصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي الديمقراطي في آب (أغسطس) 1924.

في كتاباته الباكرة، ذكر أنّ «الديمقراطية أسوأ عدو لنا»، لأنّها حاولت تهدئة أو تخفيف حدة أفكار الصراع الطبقي

قُبض على غرامشي في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1926، عند العاشرة والنصف مساءً. كان هذا توقيفاً غير قانوني حتى بموجب القوانين الفاشية، إذ كان حينذاك عضواً في البرلمان، وبالتالي يتمتع بامتياز الحصانة البرلمانية من الاعتقال. لكنّ هذا الامتياز سُحب منه من قبل أعضاء البرلمان الشيوعيين والاشتراكيين الذين شكّلوا المعارضة احتجاجاً على مقتل النائب الاشتراكي ماتيوتي. لكنّ القانون الذي صادق على سحب الامتياز البرلماني، مُرِّر مِن مجلس النواب في 9 تشرين الثاني، أي في اليوم التالي لإلقاء القبض على غرامشي. في البداية، كان محتجزاً في روما، ثم أُرسل إلى سجن جزيرة أوستيكا، قبالة سواحل صقلية، حيث مكث قرابة العام، قبل نقله إلى ميلانو، حيث تم استجوابه من قبل قاضي التحقيق الذي شكّل قضية الادعاء، ليواجه محكمةً صورية خاصةً، وسيئة السمعة. يومها، قال المدعي العام: «علينا أن نوقف هذا الدماغ عن العمل لمدة عشرين عاماً». حُكم على غرامشي بالسجن لمدة عشرين عاماً وأربعة أشهر وخمسة أيام. وفي 8 تموز (يوليو) 1928، نُقل إلى الرحلة الطويلة إلى سجن تورينو في جنوب إيطاليا.
بدأت المرحلة الأخيرة من سجن غرامشي في آذار (مارس) 1933، عندما تمّ فحصه والتأكد مِن تدهور حالته الصحية، ليُغادر سجن تورينو إلى عيادة كوسومانو في فورميا، لكنه ظلّ يخضع لظروف عقابية للاحتجاز والمراقبة. في آب (أغسطس) 1935، سُمح له بالانتقال إلى عيادة في روما، حيث كان يعاني من اعتلال صحته الشديد بسبب سنوات السجن. وفي الأشهر الأخيرة من حياته، حثّ غرامشي زوجته على القيام بالرحلة من روسيا إلى إيطاليا. كما نظر في إمكانية العودة إلى سردينيا على الرغم من أن غرامشي وافق في النهاية على تقديم طلب للسماح له بالذهاب إلى المنفى في الاتحاد السوفياتي، ليكون مع عائلته وبسبب حالته الصحية الخطيرة. تمّت صياغة هذا الطلب من قبل صديقه بييرو سيرافا، لكن لم يتم تقديمه لأن الموت سبقه نتيجة إصابته بسكتة دماغية في 27 نيسان (أبريل) 1937.

انعكاسات متشظّية
لسنوات بقيت دفاتر غرامشي مُختفية حتى استردّتها من السجن شقيقة زوجته تاتيانا شخت وأرسلتها إلى الاتحاد السوفياتي، وبقيت في أرشيف موسكو لغاية إعادتها إلى إيطاليا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. ونُشرت أقسام كبيرة من الدفاتر للمرة الأولى باللغة الإيطالية بين عامي 1948 و1951، في حين ظهرت أول طبعة إيطالية كاملة عام 1975.
لكن ما هي بالضبط «دفاتر السجن»؟ هي نصوص غير سهلة القراءة: مقيّدة بظروف سجن غرامشي، وغالباً ما أُجبر على أن تكون أفكاره تلميحاً. تتألف «الدفاتر» من مئات الفقرات بعضها طويل، وبعضها قصير، وتغطي نطاقاً هائلاً من الموضوعات. بالمقارنة مع النصوص الكلاسيكية الأخرى للنظرية السياسية والاجتماعية، فإنها تظهر كتجمّع من الانعكاسات الفكرية المتشظية، وبالتأكيد ليست نصاً مصقولاً تمّت مراجعته للنشر، مع بداية ووسط ونهاية متماسكة.
لذا، لفهم «دفاتر السجن» الخاصة بغرامشي، من الضروري أن يكون لدى القارئ بعض المعرفة بالمواضيع الأساسية التي تم تطويرها في تأملاته حول السياسة والتاريخ والثقافة والفلسفة. هي محاولة، مهما كانت مجزّأة ومبهمة في بعض الأماكن، لفهم الحقبة التاريخية التي تزامنت مع الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية والأزمة المستمرة في المجتمع في تلك الحقبة على المستوى العالمي. هذه المحاولة لتحليل طبيعة تلك الحقبة التاريخية ونقاطها الحاسمة، هي في الوقت نفسه استكشاف لشكل جديد من المعرفة السياسية والاستراتيجية المناسبة لتلك الحقبة، رافضة أشكال العمل والتحليل السياسي التي لا تؤثر على المجتمع الحديث. في المقابل، يعتمد هذا الفهم السياسي الجديد، من منظور غرامشي، على قيام حركة الطبقة العاملة بتطوير فلسفتها السياسية المستقلة. فلسفة بالمعنى الأوسع، تشمل أفكار الإرادة والعمل الإبداعي، ويُنظر إليها على أنها شرط ضروري لأي مجموعة تابعة لتصبح بدورها مهيمنة وقائدة.
الأفكار الرئيسية التي طوّرها غرامشي في «دفاتر السجن» الخاصة به مُهمّة لتطوير فهم الحقبة التاريخية الخاصة بها، والسياسة والفلسفة المناسبة لها. وليس مستغرباً أنّ هذا المسعى يتطلب لغة سياسية جديدة، ولغة مختلفة. لذا مثّلت «دفاتر السجن» معجماً سياسياً للمصطلحات والمفاهيم التي يمكن من خلالها التعبير عن المعرفة السياسية الجديدة والاستراتيجية السياسية المقابلة وتحليلها.
في الواقع، معظم المفاهيم لم يخترعها غرامشي، بل استُخدمت في النظريات السياسية السابقة، سواء أكانت ماركسية أم لا. هذا ينطبق على «المفهوم الرئيسي» للهيمنة والمجتمع المدني، وبالطبع مفهوم الدولة، أو الفكرة الهيغلية عن الدولة الأخلاقية. في هذه الحالات، يأخذ غرامشي مصطلحات مألوفة للنظرية السياسية والاجتماعية، ويعطيها استخداماً وتعريفاً جديدين، ويملؤها بمحتوى مختلف، ويستخدم لغة سياسية قديمة بطرق مبتكرة جذرياً. ينطبق ذلك على المصطلحات الرئيسية الأخرى المستخدمة في تحليل السياسة، مثل الثورة السلبية، والنزعة الأميركية والفردية، وما يبدو أنه اختراعه الخاص، مثل حرب المواقف مقابل حرب الحركة أو حرب المناورة، لوصف أشكال مختلفة من الاستراتيجية السياسية.
استخدم مصطلح الثورة السلبية للإشارة إلى محاولات احتواء الضغط الشعبي والتكيّف مع الحداثة من دون تحدي هيمنة الجماعات الحاكمة


ترتبط ابتكارات غرامشي المفاهيمية الأخرى بإعادة صياغته الجذرية للماركسية، ولا سيما استخدامه لمصطلح «فلسفة الممارسة» للإشارة إلى الماركسية، وهو مصطلح ذو أهمية حاسمة لنهجه بالكامل في السياسة والفلسفة. لم يتم استخدام هذا المصطلح كوسيلة لتجنّب لفت انتباه الرقيب الذي ربما أثيرت شكوكه باستخدام كلمة «الماركسية». إنه مصطلح جاء ليحلّ محل «المادية التاريخية» في سياق كتابة الدفاتر، ويقترح الطريقة التي ذهبت بها نسخة غرامشي للماركسية إلى ما هو أبعد من الحتمية الاقتصادية التي اتخذتها الماركسية الأممية الثانية (1889 - 1914) وبالمثل الماركسية اللينينية في شكلها الشيوعي الأرثوذكسي أو الأممية الثالثة.
هذا يعني أنّ «دفاتر السجن» تهدف إلى تطوير علم السياسة بشكل كامل، واستكشاف العمل السياسي الذي يُنظر إليه على أنه مجال إبداعي للعمل البشري لا تحدده العوامل الاقتصادية بشكل صارم أو فوري. ولهذا نقد غرامشي بشكل مُكثف «الاقتصادوية»، وفكرة أن القاعدة الاقتصادية تحدّد بشكل مباشر البنية الفوقية السياسية والإيديولوجية. في الواقع بينما أخذ بشكل متكرر ملخّص ماركس الشهير والكلاسيكي لمذهبه كنقطة انطلاق له في مقدمة عام 1859 لنقد الاقتصاد السياسي، رفض غرامشي ما يسمّى «الاستعارة المعمارية» للقاعدة والبنية الفوقية، مستبدلاً ذلك الثنائي بفكرة جديدة تماماً لـ«الكتلة التاريخية». تركّز «دفاتر السجن» على دور المثقفين والحزب السياسي (الذي يُنظر إليه على أنه «الأمير الحديث») بوصفهم الوكلاء الرئيسيين لتحول الوعي والإيديولوجيا. يُنظر إلى هذا التحول على أنّه ضروري لأي تجمع اجتماعي يسعى للتغلب على حالة التبعية والتبعية الفكرية، بمعنى آخر بهدف تحقيق الهيمنة.

تركّز «دفاتر السجن» على دور المثقفين والحزب السياسي بوصفهم الوكلاء الرئيسيين لتحول الوعي والإيديولوجيا


تناولت «دفاتر السجن» أحياناً بطريقة تلميحية ومشفّرة موجة الإضرابات ومصادرة المصانع في إيطاليا في سنوات ما بعد الحرب مباشرة، وفشل اليسار وما تلاه من صعود الفاشية، وتأملات في الستالينية والفاشية كمنظمتين سياسيتين واجتماعيتين، وانتقاد السياسة الخاطئة التي اتبعتها الحركة الشيوعية العالمية بعد عام 1929 (ما يسمى بالفترة الثالثة أو الطبقة ضد السياسة الطبقية التي أعلنت الانهيار الوشيك للرأسمالية نتيجة للأزمة الاقتصادية)؛ وطبيعة الأساليب الجديدة للإنتاج الرأسمالي الضخم، ومحاولة إنشاء دولة ومجتمع جديدين في الاتحاد السوفياتي.
قدّم غرامشي فكره في سياق منظور تاريخي واسع النطاق، مع إشارات إلى المسار الكامل للتاريخ الإيطالي والأوروبي، من الإمبراطورية الرومانية عبر كوميونات العصور الوسطى ومقارنات عصر النهضة والإصلاح، مع مناقشات موسّعة حول حركة الاستقلال الوطني الإيطالية، وهي نفسها مرتبطة بتطور الأفكار المنبثقة عن الثورة الفرنسية. والهدف من هذا التحليل السياسي بشكل مكثف: فهم طبيعة المجتمع المعاصر واستخدام هذا الفهم لتطوير استراتيجية سياسية يمكن أن تكون مناسبة لذلك المجتمع، ورفض أنماط العمل السياسي التي أدّت إلى الهزيمة في الماضي القريب وفشلت في استيعاب الخصائص المميزة والمعقّدة للعصر الحديث.
ومن أجل التعبير عن هذه الاستراتيجية السياسية الجديدة، كان من الضروري استخدام مفردات مختلفة. هذا ما طوّره غرامشي من خلال صفحات «دفاتر السجن»، متخلّياً عما يراه عوائق وعقبات أمام رؤية واضحة للواقع المعاصر. تكشف الدفاتر رفضاً واضحاً للنسخ المبسّطة والفجّة من الماركسية والاستراتيجيات السياسية (مثل تلك الخاصة بـ«الثورة الدائمة» لتروتسكي وفكرة الانتفاضة المباشرة ضد الدولة، «حرب المناورة«) التي يُنظر إليها على أنه عفا عليها الزمن وغير ذات صلة بالحقبة التاريخية للعالم المعاصر.
أحد أهم المفاهيم الجديدة التي تم تطويرها في الدفاتر هو مفهوم «الثورة السلبية»، التي يُنظر إليها في سياق تاريخي واسع على أنها سمة لمعظم الفترتين اللتين فتحتهما أولاً الثورة الفرنسية عام 1789 ومن ثم الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية عام 1917. يستخدم غرامشي مصطلح الثورة السلبية في المقام الأول في سياق تحليله للحركة الوطنية الإيطالية، وهي حركة لتحقيق الاستقلال السياسي والوحدة للأمة الإيطالية. لم يخترع غرامشي المصطلح، بل استخدمه لتحليل الطرق التي عزّزت هيمنة المجموعات الليبرالية والمعتدلة، ووصلت إلى نتائج شكّلت طبيعة الدولة الإيطالية، والمجتمع بعد الوحدة. وتم استخدام مصطلح «الثورة السلبية» لوصف عصور تاريخية بأكملها، ولا سيما الفترة التي تلت عام 1815، حيث رسّخت الأحزاب الليبرالية والليبرالية هيمنتها الفكرية والسياسية، وبالمثل في الفترة التي أعقبت الانتفاضة الثورية التي أطلقتها الثورة البلشفية في روسيا والموجة اللاحقة من نضال الطبقة العاملة والنضال الطبقي في إيطاليا وأماكن أخرى. فالثورة السلبية مصطلح يستخدمه غرامشي للإشارة إلى محاولات احتواء الضغط الشعبي والتكيّف مع الحداثة من دون تحدي هيمنة الجماعات الحاكمة بشكل أساسي. ويسمّي غرامشي هذا «الثورة بلا ثورة»، ويرى الفاشية والأميركية والفردية كأمثلة للثورة السلبية بطريقتهما المختلفة.
من الناحية التاريخية، رأى غرامشي الثورة السلبية على أنها تميّز «الفترة التي أعقبت سقوط نابليون، وتلك التي أعقبت حرب الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) والتي يعتبر بأنها تشكل استراحة حاسمة فتحت حقبة تاريخية جديدة. مع ذلك، يدرك الجميع أن سلسلة كاملة من الأسئلة التي تراكمت بشكل فردي قبل عام 1914 شكّلت «كومة»، تطلّبت تعديل الهيكل العام للعملية السياسية. يستشهد غرامشي بمجموعة كاملة من المشكلات التي تميز هذه الفترة، ويصنفها على أنها: «البرلمانية، والتنظيم الصناعي، والديمقراطية، والليبرالية...». ما جعل الموضوع الأساسي لـ«دفاتر السجن» هو كيف يمكن «للقوة الاجتماعية الجديدة» أن تضع حداً للثورة السلبية وتحقق العكس، أي ثورةً كاملةً أو نشطة. هذه القوة الاجتماعية الجديدة هي قوة الجماهير والطبقة العاملة والفلاحين، بشكل عام جماهير المجموعات الخاضعة التي ينطوي تحررها الثقافي والسياسي على تحول جذري.
لذا ينبغي النظر إلى «دفاتر السجن» على أنها محاولة طموحة، مكتوبة في ظروف شديدة التقييد في زنزانة السجن، لفهم العالم الحديث، أي ظروف العمل السياسي بعد وصول الفاشية إلى السلطة، أولاً في إيطاليا عام 1922 ولاحقاً في ألمانيا عام 1933. في ذلك الوقت، كان غرامشي في السجن بالفعل لمدة سبع سنوات. من خلال الجهاز المفاهيمي الجديد المنتشر في الدفاتر (حتى لو كان يستخدم مصطلحات مألوفة، ولكن مع معانٍ مختلفة ومبتكرة)، فإن الهدف هو شرح ميزات حداثة القرن العشرين، ورسم أشكال من الإستراتيجية السياسية تمكّن المجموعات الخاضعة حتى الآن من تحقيق الهيمنة، وهو شكل من أشكال القيادة الفكرية والسياسية التي تثقف وتحوّل أعضاء تلك الجماعات إلى «قوة اجتماعية جديدة».
هكذا يسعى غرامشي إلى طريق للمضي قدماً. يتجاوز الثورات السلبية للفاشية والليبرالية، وفي الواقع ما يسميه «الأميركية والفردية»، أي محاولة استخدام الوسائل الحديثة للإنتاج بالجملة من دون تغيير هيكل العلاقات الطبقية. من الناحية الفلسفية وكذلك السياسية، وبالنسبة إلى غرامشي، لا يمكن الفصل بين الاثنتين. بالنسبة إليه، فإن الماركسية، أو «فلسفة الممارسة» هي «الفلسفة سياسة، والسياسة هي أيضاً فلسفة». وهذا يعني منظوراً يرفض أشكال الحتمية التي ترى العمل السياسي محدداً بشكل مباشر ومبسّط من قبل البنية الاقتصادية للمجتمع. تتمثّل حجته الأساسية في «دفاتر السجن» في التحقيق في العملية التي يمكن من خلالها ظهور إرادة جماعية تتشكل من قبل مجموعات خاضعة تهدف إلى تغيير ظروف وضعها. على حد تعبير غرامشي، علينا أن نتحرى «مشكلة تكوين الإرادة الجماعية». ومن أجل التحليل النقدي لما تعنيه هذه المُشكلة، مِن الضروري إجراء دراسة دقيقة لكيفية تشكّل الإرادة الجماعية الدائمة، وكيف تحدد هذه الإرادة لنفسها نهايات محددة قصيرة وطويلة المدى، أي مسار عمل جماعي.
لذلك، تفتح «دفاتر السجن» عالماً فكرياً مع أفكار جديدة جذرية، تم تطويرها كأدوات لفهم السياسة والمجتمع في القرن العشرين، مفاهيم ضرورية أيضاً لفهم العصر الذي نعيش فيه اليوم. هذا العالم الفكري الجديد، والمفاهيم المصاحبة له، يستلهم بالتأكيد نقطة انطلاقه من الماركسية.