يحيل كتاب «ترويض الاستبداد» بتوقيع أنور الهواري (دار روافد- القاهرة) إلى النسخة الأولى من تفكيك ظاهرة الاستبداد التي ترمي بثقلها تاريخياً على هذه الجغرافيا المحزونة. نقصد كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» للمفكّر الحلبي عبد الرحمن الكواكبي الذي مات مسموماً في القاهرة مطلع القرن العشرين. ورغم المسافة بين الكتابين في معالجة هذا «الداء»، إلا أنّهما يلتقيان في نقطة واحدة هي أنّ «الاستبداد أصل لكل فساد». يبدو الهواري هنا متهوراً في اقتحام المناطق الشائكة وحراثة التربة المستقرة، متخذاً من التاريخ المصري نموذجاً في مواجهة الأسئلة التي تتعلق بالحرية والثورات والديكتاتورية من جهة، والمخاضات العسيرة لفكرة الديموقراطية من جهةٍ ثانية. تتناوب المشهد ديكتاتوريات صلبة، وديموقراطيات هشّة، ذلك أن البنية التحتية للديكتاتورية أكثر قوة، نظراً إلى عطب في «بنية العقل العام»، فالديموقراطية «سلعة» غير مرغوبة، تنتصر عليها فكرة الاستقرار، ومنظومة الأعراف المتوارثة، كما أنها تعيش على الهامش ذهنياً وروحياً، وهو ما يعيد السؤال مجدداً حول «موقع الديكتاتورية الوطنية ودورها التاريخي في رعاية التخلّف وحراسته من منتصف القرن العشرين حتى خاتمة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين».

هكذا بدت «حرية الكلام» ضرباً من الأحلام المستحيلة، وإذا بالعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم ينحصر في كلمتين: «الصمت مقابل الأمان أو الطاعة في مقابل الاستقرار». هذا ما أفرزته ثورة 23 يوليو 1952، ثم ثورة 3 يوليو 2013، إذ اعتبر العسكر أنفسهم أصحاب رسالة أخلاقية وليسوا أصحاب مطامع سياسية، لكن مهمة الإنقاذ الوطني هذه ستتخذ مسلكاً آخر لا يشبه المقدمات التي أتت بهم إلى السلطة، فهم معصومون عن الخطأ. يتتبّع صاحب «الديكتاتورية الجديدة» مصير الفرد في مجتمع محكوم بعنف السلطة، فما يحصل عليه طوال عمره شهادة ولادة ثم شهادة وفاة. أما «شهادة المواطنة»، فتقع في باب «رعايا لا مواطنين» في ظل حكم فردي مطلق، تليه فترة انتقالية قصيرة، ليستأنف مسيرة الاستبداد «لزوم إنجاز العودة إلى المربع صفر» في متاهة لا نهائية. يرصد الصحافي المصري بروح استقصائية التحولات الدراماتيكية التي شهدتها بلاده ما بعد ثورة يناير 2011 وما تلاها، واصفاً العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين بأنها انتقلت بالبلاد من النقيض إلى النقيض، أو من «الحرية السائبة إلى الاضطهاد المتدرج المنظم المحكم بعد 30 يونيو 2013». وبمرآة أخرى، سقطت ديكتاتورية الحاكم الفرد لتحل محلها ديكتاتورية الثوار والنشطاء، ما خلق «حالة من الصداع العام كادت تنفلق منها دماغ البلد». وإذا بالحرية السائبة تسبح في الفراغ من دون بوصلة تهديها إلى الجهة الصحيحة، بإصلاح الدولة من الداخل عن طريق استخدام الزخم الشعبي، خلافاً لأحلام «خلق دولة من الميدان»، وهو ما يعني «دولة هواة» مقابل «دولة طغاة». أمر أوقع حكم الإخوان المسلمين في مأزق بخصوص إدارة الدولة لافتقادهم الخبرة والمعرفة، ذلك أن فكرة الجماعة وفكرة الدولة لا تلتقيان. على المقلب الآخر، تحضر مسألة الحرية بقوة كمحصّلة طويلة للكفاح الشعبي من أجلها. صحيح أنها لم تزل في المهد، ومجرد بند نظري في الدستور، إلا أن ذلك لا يعني غيابها التام، فالتراث النظري المتراكم منذ الثورة العرابية إلى اليوم يشكّل «نصف الطريق إلى الحرية»، من دون تجاهل عمليات التنكيل بها وضبطها وإحضارها والتحقيق معها ومحاكمتها، فكانت النتيجة «رفع الحرية من الخدمة الفعلية تماماً» من خلال إعادة «هندسة وبرمجة كل مؤسسات الدولة والمجتمع وفقاً لتصميم مُحكم يعتبر الحرية مكوناً لا لزوم له». لكن كيف يتفق دستور ليبرالي ديموقراطي مع حكم فردي؟ يجيب بأن فكرة الاستقرار هي نافذة الحكم المطلق في السيطرة على البلاد بمبررات واقعية وأخرى مزيّفة، ما أدى إلى اندحار الديموقراطية خلفاً لدرجة الخوف منها خشية الانزلاق إلى الفوضى، وهو ما أنتج «طبعة جديدة من الاستبداد والديكتاتورية بوصفها حقاً وطنياً»، وبذريعة الخوف على الدولة من الديموقراطية التي لم تولد ولم تحكم يوماً. يقترح أنور الهواري النظر إلى 25 يناير بأثر رجعي، بعد مرور عقد كامل على هبوبها، معتبراً إياها أهم حدث مصري شهده هذا القرن لجهة الإقامة لا الزوال، إذ يطرح سؤالاً جوهرياً هو: ملكية مصر لمن؟ فقد كانت هذه الثورة بمثابة صاعقة - لمن كان يحلم بوراثة الحكم- بإسقاطها هذه المنظومة، في حين أنها- في المقابل- فشلت في إفراز برنامج بديل يضيء طريقها نحو المستقبل. ذلك أنّ الشعب بات كمن «أضاع محفظة نقوده في شبرا ثم راح يفتش عنها في باب اللوق» يقول. بمثل هذه الروح الشعبية، يرسم الباحث خريطة لتضاريس الحالة المصرية مستعرضاً مكمن القوة من جهة، وهشاشة اللحظة، من جهةٍ ثانية. وإذا بالبلاد تتحوّل من «مجرد ديار مصرية إلى وطن للمصريين»، سواء في ثوراتها القديمة أم في ثورتها الأخيرة، من دون أن تتمكن الديموقراطية يوماً، من التخلّص من الإعاقة التي واجهتها في مختلف المراحل. فلطالما استحوذ الحكّام على السلطة المطلقة، فلا فرق واضحاً بين الحكم الملكي أو الحكم الجمهوري في هذا السياق. هكذا يستعرض دولة محمد علي باشا وعهد حفيده الخديوي إسماعيل الذي أثقل الدولة بالديون والقروض والوصاية الخارجية، ما أدى إلى خلعه من الحكم لمصلحة ابنه، من دون أن يحقق حلمه الإمبراطوري: «لا فرق بين باشا وخديوي وسلطان وملك ورئيس جمهورية قديمة أو جديدة».
يرصد التحولات الدراماتيكية التي شهدتها بلاده ما بعد ثورة يناير 2011


في فحص مسار الديموقراطية، لن نجد فسحة هواء لهذا المصطلح عدا لحظات نادرة، فالحفاظ على البنية التحتية للديكتاتورية خنق هذه الكلمة الملعونة طوال تاريخ الدولة الحديثة عن طريق تقنين وشرعنة آليات انتقال السلطة من حاكم سابق إلى حاكم لاحق، فالدولة «كانت وما زالت تعتقد عن يقين أن الديموقراطية لم يأتِ أوانها بعد»، وهو ما فسح المجال لـ «الديكتاتورية التصاعدية» كملمح أساسي منذ تأسيسها الأول على يد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، ثم على يد جمال عبد الناصر، وصولاً إلى «الجمهورية الجديدة»، إذ أُغلق القفص على الشعب تماماً، وتحوّل الحلم إلى كابوس. لكن أنور الهواري لا يعدم الأمل ببزوغ لحظة مضادة توازي المئة ساعة التي فجّرت ثورة الميدان، داعياً إلى «التدريب على الحرية بديلاً عن مصادرتها». ويؤكد أن «ثورة 25 يناير، لم تكن غلطة تاريخية ولا ثمرة خطيئة ولا ابنة سفاح سياسي غير مشروع».