يرصد الروائي اللبناني حسن داوود، في «فرصة لغرام أخير» نوفل – هاشيت أنطوان)، التغيّرات التي طرأت على حياة الناس وسلوكياتهم خلال فترة الإغلاق التام والالتزام داخل البيوت، التي أعقبت انتشار فيروس كورونا عبر العالم، من دون مباشَرةٍ يقع فيها بعض الكُتّاب عند تناولهم أحداثاً كبرى، إذ يقوم داوود بذلك من خلال ثلاثة نماذج لأشخاص متفاوتي الوحدة، غيّرتهم الوحدة الجديدة المرتبطة بالوباء والموت، دافعةً إياهم إلى العيش والمغامرة في رد فعل عكسي، ومُخرِجةً منهم جوانب لم يعهدوها في أنفسهم، أو ظنّوا أنّهم ودّعوها بعدما أصبحوا في عمر متقدّم.الكاتب الذي يقوّي وقع أفعال شخصياته بإيراد فعل ناقص معقوباً بفعل تام، يبرع في السرد من داخل الغرف التي ضاقت بساكنيها، كما برع في التنقّل في مدى حياة كاملة لأبطال رواياته السابقة، مثل العجوز الذي ضلّه الموت في «أيام زائدة»، والشيخ المريض والمتخلّي عن عمامته في «لا طريق إلى الجنة»، مستخدماً في ذلك تقنية تعدد أصوات الرواة، الذين يحكي كلٌّ منهم ما يراه من نافذته، في فصول قصيرة رشيقة، ما يجعلنا نرى المشهد ذاته مرتين أحياناً ومن زاويتين مختلفتين. أمر يرسّخه في الذهن، قبل أن يبدأ من يُروننا إياه بالخروج والتقابل بل التعارف الجديد، مستخفّين بالمرض ومستهترين بخطر الإصابة به، أو ناسين إياه رغم حذرهم الشديد منه في بدايته.


لا تعلم الشخصيات للوهلة الأولى أنّها في استراقها النظر إلى حياة الآخرين، إنما ترى نفسها وتراقب أفعالها وتقف أمام حقيقتها العارية، فالخائف سيصل إلى اللحظة التي ينكشف فيها خوفه، والمستهتر استهتاره، والراغب في العيش توقه إلى الحياة ورغبته في استدراك أيامه.
يكون عزّت منذ البداية الأكثر تلصصاً ورصداً للواقع الجديد، على الطرقات وداخل بيوت الأبنية المقابلة لشقته، كما يظلّ الأدق ملاحظة والأنجح في استشراف التغيرات التي ستحصل، إذ تُثقل الوحدة التي لم يعتَدها عليه، بعدما فاتته الطائرة إلى أستراليا حيث تعيش ابنته وحيث سبقته زوجته، بسبب إغلاق المطار وتعطّل حركة الملاحة الجوية. يُكثر من الاتصال الهاتفي بتامر، زميله من أيام الدراسة الجامعية وجاره في البناية نفسها، الذي يعيش وحيداً في الأصل بعد طلاقه.
تُعيد امرأة في البناية المقابلة الكهلَين إلى أيام تعارفهما الأولى، بل إلى فترة المراهقة التي سبقتها في بعض المواقف، وتتحول إلى محرّك للسرد، فأحاديث عزت وتامر تتمحور حولها وتحاول تفسير تصرفاتها وإيماءاتها، بعدما لجأ عزّت الذي رأى شبحها أولاً إلى صديقه لإرشاده في كيفية التعامل معها، ثم صار يضعه في صورة ما يتبادلانه من أحاديث، ويتباهى أمامه بما يجري بينهما خلال لقاءاتهما، قبل أن يبدأ بالابتعاد عنه عندما يتحول فضول تامر إلى تدخل مزعج.
لا يخفف من وحدة إلسا كونها تعيش مع حماتها وخادمتها الإثيوبية، بل يجعلها نوعاً آخر من الوحدة، وحدة وسط آخرين فُرِض عليها العيش معهم، إذ اختفى زوجها في أفريقيا من دون ما يؤكّد خبر موته، بعد سنوات من تركه لها، وسنوات سابقة من التناوب بين الاستقرار في البلد والتنقّل بين البلدان ونسائها. يخرج جسد إلسا الذي لم يبلغ الأربعين من حرمانه، كأنّ الموت المحيط والمجاور أيقظ فيه الحياة التي كانت مغيّبة ومدفونة تحت الجلد الأبيض الزهري، ولا يرتوي من رجل واحد شاءت الظروف أن يكون غير قادر على الإرواء. ولم يشأ أن يضيّع «الفرصة السانحة»، التي اندفعا إليها من دون حسابات، مدفوعَين بملل السَّجن وحصار الموت.
يرصد التغيرات التي طرأت على الناس خلال فترة الإغلاق التام جراء فيروس كورونا


تولّد علاقة عزت وإلسا التي يعرف تامر تفاصيلها الدقيقة غيرة لديه، ما يجعله يُعيد التواصل مع دينا، زميلته في الجامعة وآخر امرأة كانت له علاقة بها. تتشتت هذه العلاقة منذ بدايتها بسبب عجز تامر عن عدم إقامة مقارنة بين الجسد الحاضر لِدينا، والجسد الذي كان لها في شبابها المبكر، كما بتأثيرٍ من تقرُّب إلسا منه بعدما لفتها الألق الذي طالعها في صور ماضيه، وإثر إبعادها عزت عنها، أو انتهاء «الغرام الخفيف» كما وصفه هذا الأخير.
تقطع الخادمة ساماواتي التناوب في السرد الثلاثي، من خلال مقاطع معدودة تحكيها بلغتها العربية الخاصة، مبرزة بذلك التشابه في لغة الأصوات الثلاثة الأخرى وأسلوب سردها، مع الإشارة إلى أن الصوت الخاص لسماواتي لا يجيء من لهجتها فقط، بل كذلك من نمط تفكيرها البسيط والخائف. يأتي تدخلها في السرد مرةً لتوضح أنّها تلاحظ التغيّر الذي دخل إلى حياة إلسا، هي التي لا ترى بعينيها فقط، بل بعيون كل زميلاتها في البيوت المجاورة، ومرة أخرى ليضيء داوود من خلالها على الظلم الذي تعرّضت له هؤلاء الخادمات، بعدما تخلّت عنهن الأسر التي يعملن عندها خوفاً من حملهن للوباء، أو أنهن من قررن الهرب بأنفسهن كما فعلت ساماوتي، بعدما اضطرت لتقوم بدور الممرضة الذي لا تجيده عند إصابة العجوز عِطاف بالفيروس، ليتشردن بعد ذلك في الشوارع ويبتن تحت الجسور، قبل القبض عليهن وإجلائهن إلى بلدهن.
في نهاية الرواية، تعود الأوضاع الشخصية للشخصيات الثلاث إلى ما كانت عليه قبل بدايتها؛ تستمر إلسا في انتظار زوجها الغائب، الذي يتساوى احتمالا عودته وعدم عودته، ويتخلّى تامر عن عزمه العودة إلى الكتابة، مع بقائه وفياً لمخيلة الكاتب التي تُتمَّم فيها الأشياء وتتحقق الأماني، على عكس ما يجري على أرض الواقع، فيما يحافظ عزت على دأبه في ترصّد أحوال الناس ومراقبة طِباعهم المتغيرة، بعدما صار يملأ وقته إثر ابتعاده عن تامر وإلسا بجولات مشي طويلة في شوارع المدينة، التي بدأت تعود إليها الحياة تدريجاً. كأن كل ما شهدته الرواية من أحداث لم يكن إلا وقتاً مستقطعاً من عمر الزمن الثقيل للوباء، أو فترة لهو أتاحتها رغبةٌ في تفسير المسائل بحسب أهواء من تتعلق بهم.