لم يرد أيّ ذكر في المصادر العربية ما يشير إلى استخدام أداة للصيد تشبه الأداة التي تُدعى بوميرانغ Boomerang، وتُترجم أحياناً على أنها «المرتدة» بالعربية، لأن بعض نماذجها ترتد باتجاه مطلقها إذا لم تصب هدفها.
نماذج من البوميرانغ- المرتدة


والأداة تأخذ شكلاً هلالياً عموماً، وهي تُصنع من الخشب بهدف الصيد أو اللعب. وحين تُستخدم للصيد فهي أداة شديدة الفعّالية، إذ إن سرعتها ودورانها يتضامنان مع سرعة الحيوان فتحدث إصابة بليغة. ولا تزال تُستخدم للصيد من قبل بعض السكان الأصليين في أستراليا، وبعض الصيادين في بعض مناطق جنوب أفريقيا. والنماذج الأكثر شهرة لهذه الأداة هي التي أتت إلينا من السكان الأصليين في أستراليا. وقد صارت في الواقع رمزاً لهؤلاء السكان. لكن عُثر في الحفريات على نماذج منها في أفريقيا وأميركا ومصر وغير ذلك.

نماذج من البوميرانغ- المرتدة


لكن يمكن القول إنّ الأداة تحوّلت في العصر الحديث إلى أداة شائعة جداً للعب. وكأداة للعب، فهي تُصنع من مواد مختلفة جداً.
غير أنه بدا لي أن هذه الأداة كانت تُستخدم قديماً في الجزيرة العربية انطلاقاً من بعض الصور المحفورة، مثل الصورة أدناه من منطقة تيماء.



وكما نرى، فهناك في الصورة رجلان في حركة تبدو راقصة يرفعان فوق رأسيهما أداة قريبة جداً من شكل المرتدة. لا نستطيع بالطبع تأكيد أنها مرتدة. لكنه أمر محتمل أن تكون كذلك. ولا يُعرف تاريخ مثل هذه المحفورات للأسف. غير أنه يمكن افتراض أن للرجلين وملابسهما طابعاً أفريقياً ما. وإن صح ذلك، فلا بد أن الحفر يعود إلى آلاف عديدة من السنوات.
عليه، فربما كانت المرتدة موجودة ثم اختفت من الجزيرة العربية.

هلال الصيد
غير أن هناك أداة مذكورة في المصادر العربية باسم: هلال الصيد ربما تكون آخر نماذج المرتدة في الجزيرة العربية. وهي تُستخدم لصيد حمر الوحش على الأخص:
«هلال الصيد: وهو شبيه بالهلال، تُعرقب به الحمير الوحشية... قال الشاعر: فأبدى الهلال لنا إذ بدا/ جواراً كريماً وعيراً عقيراً/ يعرقبهنّ الفتى بالهلال/ كعرقاب ذي الصيد ذبحاً جحيراً» (ابن دريد، جمهرة اللغة).
يضيف جواد علي: »ولعرقبة الحمير الوحشية تُستعمل آلة خاصة تشبه الهلال يقال لها: هلال الصيد» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام).
أما ابن منظور فيشير إلى أنها أداة عامة للصيد كله وليس لحمير الوحش، ويقول إنها تُصنع من الحديد: «الهِلال: حَدِيدَةٌ يُعَرْقَب بِهَا الصَّيْدُ» (ابن منظور، لسان العرب).
وكما نرى فالمعلومات ضئيلة جداً عن الأداة. فهي لا تخبرنا سوى أنها أداة صيد شبيهة بالهلال، وأنها تُستخدم لعرقبة حمير الوحش خاصة، أي لصيدها عبر ضربها في عراقيبها، أي من الخلف. وأغلب الظن أن هذه المعلومات، إذا استثنينا معلومة «لسان العرب»، استقيت من بيت الشعر الذي استشهد به ابن دريد (يعرقبهن الفتى بالهلال). بل هي في الحقيقة مجرد تفسير للبيت لا غير. وهو ما يعني أن اللغويين الذين تعرّضوا لهذه الأداة لم يكونوا يملكون معلومات خاصة عنها، الأمر الذي يشير إلى أنّ استعمال هذه الأداة كان قد انحسر في وقتهم في بقع صغيرة كانت لا تزال تعيش على الصيد.
وليس هذا غريباً أبداً. فقد شهدنا انهيار الصيد في بعض الفترات في الجزيرة العربية. فقد توقف استخدام المصائد الصحراوية، التي تمثل منشآت ضخمة ومهيبة في وقت من نهايات العصر البرونزي في أغلب الظن. وأدناه صورة لنموذج بسيط منها عُثر عليه محفوراً على حجر في جنوب سيناء.



ويجري في هذه المصيدة حشر الحيوانات بين الضلعين، ثم دفعها للسقوط في الحفرة التي تبدو كحلقة في الصورة. لكنّ هناك نماذج أكثر تعقيداً بكثير من النموذج المصوّر أعلاه. وأدناه صورة حديثة لمصيدة متوسطة الحجم من الجزيرة العربية.



وكما نرى في الصورة، فهناك ثماني حفر- آبار في الأعلى وسبع حفر عند الرجلين. أي أن هناك 15 حفرة أُعدت لكي تقع فيها الظباء. وهناك مصائد فيها عشرات الحفر. وهو ما يعني أن حجم الصيد كان هائلاً، وأن مجموعات كبيرة جداً من البشر كانت تشارك فيه. لكن يبدو أن المبالغة في الصيد انطلاقاً من تقنية المصائد التي عرضنا لها، أدّت في نهاية الأمر إلى دمار مهنة الصيد ذاتها. فقد استنزف الصيد، واختفت قطعان الظباء من كل نوع، فانهار عالم الصيد والصيادين. ولعلّ مجتمعاتهم قد انهارت أيضاً. ومع انهيار الصيد، لم يعد أحد يعرف وظيفة المنشآت المهيبة التي استُخدمت لصيد الحيوانات.
يصعب أن تكون هذه المرتدات قد وُضعت في القبر لغرض الصيد، إلا إذا كان إله الفرعون المصري صياداً


ولعلّ دمار الصيد الكبير هو الذي جعل الصيد بالمرتدة، أي «هلال الصيد»، يسود. فهو صيد بسيط تشارك فيه أعداد قليلة من البشر تصطاد أعداداً محدودة من الحيوانات. وقد حفظ لنا بيت الشعر أعلاه آخر ذكر لهذه الأداة في الجزيرة العربية.
على أي حال، فقد كانت هناك أدوات أخرى غير «هلال الصيد». هناك أداة تُدعى الخاطوف الذي هو «شبيه بالمنجل يشد بحبالة الصائد ليختطف به الظبي» (ابن سيده، المخصص). لكنّ هلال الصيد كان في ما يبدو هو الأداة الوحيدة التي ترميها يد الصائد فتطير وحدها إلى هدفها. بالطبع ليس هناك شيء في المصادر العربية يتحدث عن ارتداد الهلال إلى من أطلقه حين يخطئ هدفه.
أخيراً، يبدو أن هلال الصيد- المرتدة كان يُستخدم لأغراض طقسية. فقد عُثر على عدد منها في قبر الفرعون المصري توت عنخ آمون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كما تظهر الصورة أدناه.



ويصعب أن تكون هذه المرتدات قد وُضعت في القبر لغرض الصيد، إلا إذا كان إله الفرعون المصري صياداً.

* شاعر وباحث فلسطيني