نظرتُ إلى والدتي متعجّبة، وحين رأتني ابتسمَت ابتسامة هادئة. كم أحبّ ابتسامتها. حين تبتسم أشعر بأن العالم يغدو أجمل.كنت قد رجعتُ إلى البيت بعد يوم شاقّ في العمل، فوجدتها قد أخرجت كل دروع التقدير والشهادات القديمة من خزانتي في السرداب ورفعَت عنها الغبار بحرصٍ وتأنٍّ ورتَّبتها على الرفّ.
لم تسمح لي بقول شيء. بادرتني بحماس:
- مكان هذه الدروع ليس في الخزانة القديمة في السرداب!
ابتسمتُ ولم أقل شيئاً. في الحقيقة لو كان بإمكاني لجمعتُها كلها ونقلتُها إلى السرداب ثانيةً..
ولكن من أجلها ومن أجل ابتسامتها الجميلة لم أفعل.

عايدة بدر ـ «لا شيء للكتابة عنه» (2022)

كنت أنظر إلى الدروع وأنا لا أزال في ثياب العمل، وأفكّر.
تذكرتُ كل تلك السنوات التي مرَّت منذ أن قررتُ أن أبدأ في كتابة القصص. مع كل درع كنت أتذكّر شيئاً. هنا حصلتُ على المرتبة الأولى. هنا الثانية. هنا الثالثة. هنا بكيت.. لأنني كنتُ أرى أنَّ قصَّتي أفضل من القصة التي حازت المرتبة الأولى وأنَّ رأي الحكم كان مجحفاً بحقّي.. هنا بكت صديقتي وقالت إنَّ قصَّتها كانت أجمل من قصتي.
هذا درعي الأول. كم فرحتُ حين استلمته وسط تصفيق الحاضرين. كنتُ أسمع صوت قلبي يخفق بقوَّة. بقيتُ أسبوعاً كاملاً أتأمَّله كل يوم بإعجاب وفخر.. وهذا درعي الأخير.. عندما رجعتُ من المهرجان رميتُه بين دروعي الأخرى ونسيتُه!
كم مرَّة بكيتُ وأردت أن أكسِّر كل هذه الدروع، حين كنتُ أشعر أنه لا خير حتى في أن أكتب أجمل قصة؟ متى رميتُ كل دروعي في الخزانة القديمة، بين الصور المهترئة والملابس القديمة والجرائد التي كنت أشتريها كل يوم قبل ثورة النت وأتركها من دون أن اقرأ منها سطراً واحداً؟ لا أتذكّر..
صديقتي العزيزة..
مع الزمن تتجاوزين كل شيء: الحزن، السرور، النقاشات العبثيَّة، محاولات إثبات كونكِ الأفضل، دفاعكِ عن نفسكِ أمام الذين يقولون إنّ كتاباتكِ ليست جميلة..
تتجاوزين الذين يحرصون على أن تكون نظاراتهم مشابهةً لنظارات كاتب لا يشبهونه في الكتابة ولو كان هو في عصرنا لم يكن ليضع مثل هذه النظارات الدائريَّة المضحكة.. تتجاوزين الحزن، السرور، الغرور، اليأس، البكاء، الضحك..
تتجاوزين كل شيء.
فقط تحبّين أن تكتبي. ترين نفسكِ جزءاً من طريق طويل. طريق يجب أن تقطعيه، ولا فرق إن كان خريفياً جميلاً تحفّ به الأشجار وتغطيه الأوراق اليابسة أو مغروساً بالأحجار المدبّبة. فقط تهتمّين بواجبكِ.. تحاولين أن تكتبي بشكل أفضل. تحاولين أن تقطعي جزءاً من هذا الطريق الطويل. ولو بضعة خطوات فقط..
ابتسمتُ وقلتُ لوالدتي بعد أن بدَّلت ملابسي:
- أتعبتِ نفسكِ عزيزتي..
ابتسمت من جديد وقالت:
- الليلة تزورنا جارتنا الفضوليَّة. هذه الدروع ستقلع عينيها وتجعلها تموت كمداً، لأنَّ ابنتي كاتبة ومثقفة وابنتها ليست كذلك.
احتضنتها وقبَّلتها وأنا أضحك من كل قلبي. كم أحبّها حين ألمح في عينيها طفلة صغيرة مشاغبة، مع أنَّ عمرها تجاوز الستين عاماً.
لم تكن والدتي تعلم أنَّ كل هذه الأمور لم تعد تهمّني، وأنني تجاوزتها منذ زمن طويل..

* لبنان