أنجز أستاذ الفلسفة المعاصرة في «جامعة الكويت» الزواوي بغورة ترجمةً رصينةً لكتاب «العقلانية الجديدة» لأستاذ فلسفة العلوم في «جامعة السوربون» الفرنسي برتران سان – سيرنين. مؤلف الكتاب، للأسف، لم يكن معروفاً، قبل هذه الترجمة، في أروقة الفلسفة في الجامعات العربية. ودافعه لترجمة هذا الكتاب (صدر عن «المركز القومي للترجمة»/ القاهرة ـــ 2023)، كما يصرّح في التقديم، اشتماله على جملة من الإجابات عن أسئلة مطروحة بحكم واقع المجتمعات العربية المعاش، الموسوم بلعنة التخلّف المعوّق لها للّحاق بركب التقدم، وثانياً، لأن العقلانية تُعدّ من الشروط الثقافية والفكرية اللازمة لدخول رحاب الحداثة. ويجول في تمهيده، على مفاصل تجليات العقلانية وتراكماتها في سياق تاريخي سابق لتشكّل العلم الحديث في بداية القرن السابع عشر، ويميط اللثام عن مميزاتها التي تدور في أفلاك المعرفة العلمية كمنتج من قبل عقول كثيرة غير مرتبطة بشعب أو قارة، وإمكانية تمثل وامتلاك الفرد لها في صيغ كليّة قابلة للتطوير. وغير خافٍ على أحد أن هذه النزعة ضاربة في القدم وملامحها بارزة في «كتاب العناصر» لإقليدس، المغمّسة بنكهة اليقين التجريبي، والكاشفة عن إسهامات الصنّاع والحرفيين في آﻻت الإنتاج والوقائع التجريبية، من دون إغفال دور المنظّر المتأمل القابل للنقد والتجريح والتعديل. وهو ما نتلمّسه في حنايا الميكانيكا الكلاسيكية ومن بُعد في فلسفة الطبيعة ومبادئ الرياضيات لنيوتن، وميكانيكا لاغرانج التحليلية.

يُشير الزواوي إلى حدثين مفصليّين في طبيعة البحث العلمي ترافقا مع الحربين الكونيتين في القرن العشرين وهما القنبلة النووية والبنسلين. إذ تحول البحث من جهدٍ فردي إلى مشاريع علمية كبرى منفصلة وموزعة ومبعثرة على منظمات ومراكز أبحاث ومختبرات عابرة للدول والقارات. اﻷمر الذي مهّد الطريق لمرحلة جديدة، وأي ناتج أو منتج يصبح محصلة لجهود جماعات بشرية، ومن جنسيات ومشارب ثقافية متعدّدة متكاملة، ﻻ تلغي الموروث والطاقات الفردية البحثية. وهذا الجانب من العقلانية العلمية، هو ما أراد تسليط الضوء عليه، وما امتازت به من مصدريها الشرعيين وهما الاتساق المنطقي (الداخلي) وتدقيق التوقعات (الخارجي) كما وصفهما أينشتاين، وقد شكلتا المظلة الحاضنة للكثير من النظريات العلمية المرموقة. والواقع المستجد لا يلغي التفاوت العلمي بين الأمم الناتج عن التفاوت المأساوي في التوزيع والقبض والتنعّم بالخيرات اﻷولية (الغذاء، الصحة، الطاقة، اﻷمن ... ألخ) المرتبطة بالظروف السياسية واﻻجتماعية التي يمكن معالجتها وتفادي احتباساتها التي تهدّد عموم البشرية.
العقلانية الجديدة تنطلق من مسلمة أساسية وهي أن الكفاءات الفردية موزعة على المعمورة بطريقة متجانسة إحصائياً. أما المؤسسات العلمية والتقنية المنتجة فهي موزعة بطريقة غير عادلة، وشطرت العالم إلى عالمين: عالم الدول الغنية أو القوية (مجموعة الثماني الكبار: كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، روسيا، المملكة المتحدة، والوﻻيات المتحدة، التي انفرط عقدها أخيراً بتعليق مشاركة روسيا)، وسائر الدول. علماً أن نقل المعارف العلمية والتكنولوجيا، وبعثرة أريج الرفاهية، ليس بالأمر الصعب كما ظهر في حالات بقيت محدودة (الشرق الأقصى). وهذا التحدي اﻷخير دفع الزواوي إلى استرجاع ملاحظة أفلاطون وقوله في محاورة مينون: إنّ الفكر يبلغ الحقيقة بطريقتين: طريق الرأي السديد الذي يرتبط بوقائع خاصة، وطريق العلم الذي ينظم الوقائع في أنساق، وكل واحدة محفوفة بمخاطر الانزﻻق ما لم يكن التمسك بمفهوم العقلانية أو إعادة بنائها على أسس صلبة. لعل أهمها توسعة مجالات «العلوم البينية» التي تعيد للعلوم تماسكها ووحدتها بعد شطط الاستغراق في التخصصية، والإفادة من الواقع المستجد في عصرنا الراهن، وهو أن الرغبة في الوحدة لم تعد طموحاً فردياً أو إقليمياً، بل أصبحت ضرورة ﻻزمة لجميع اﻷمم. إذ إن التاريخ أصبح تاريخاً عالمياً يتطلب البحث عن عقلانية مشتركة متقاسمة ونشطة على مستوى إنتاج المعرفة وعلى مستوى مسيرة المجتمعات، وهو ما يوجب العجلة في نحت المفاهيم المناسبة، وابتكار المؤسسات القادرة على التثبيت الوجودي الفاعل للعقلانية الجديدة.
يفصل برتران سان – سيرنين في كتابه، وعلى مدى صفحات القسم الأول منطلقات العقلانية الكلاسيكية الفكرية وإنجازاتها في مجالات العلم وبناها الفلسفية، ومقارباتها ومحاكمتها، وضمن عناوين ﻻفتة. تحت عنوان «الكون المتضامن»، يشير إلى دور خبرة الإنسان – كل إنسان - وتجربته في الشعور والتفكّر في وضعيته وصياغة نظرياته حول نشأة الكون، وتفنيد مناهجها المتميزة عن المناهج القائمة في علم الفلك والفيزياء، منذ ظهور النظرية النسبية العامة عام 1915 التي سمحت بقيام علم كلّي للكون، وبلورة معرفة بنيته وتطوره وتكوينه الفيزيائي - الكيميائي والبيولوجي والنفسي اﻻجتماعي للإنسان، وإسهامات علمَي الذرة التركيبية والكيمياء الحيوية، مع الإشارة إلى قصورها عن حلّ جميع المشكلات التي تعرض للإنسان، في انتمائه الكوني، ومنها إمكانية إعادة تركيب أو إنتاج بعض العمليات الطبيعية أو التحكم بها.
وﻻ يغفل عن ذكر ملامح روابط اﻹنسان الثلاثة بالكون: الرمزي، والفيزيائي، والتكنولوجي. ويبسط ما قدمته العقلانية الكلاسيكية في التأسيس لعلم فلك معاصر مدعّم باكتشاف مجرات خارج مجرّة درب التبانة الحاضنة للمنظومة الفلكية التي ننتمي إليها. ومن ثم يشير إلى ما قدّمه علماء الفلك أمثال فريدمان ولومتر وهابل، وغيرهما، من تصورات حول احتمال امتداد للكون متجاوز للفيزياء الكلاسيكية المحصورة بما هو مرئي. وأرفق استعراضه للنظريات المتعلقة بالكون بعرض لانعكاساتها على الصعيد الفلسفي كما تجلت في أعمال هوسرل وبرغسون الذي يُعلي من شأن الحسّ باعتباره طريقة لبلوغ الفكر والديمومة والتغيّر الخالص. كما يوضح مفهوم العلاقات الداخلية عند وايتهد في كتابه «العلم والعالم الحديث». ويمسك بالعوامل التي أسهمت في عملية الانتقال، على مراحل، من الفيزياء إلى علم الفلك، وإسهامات هذا الأخير في تطوير معارف الأنتروبولوجيا، والإضاءة على التركيب الفيزيائي – الكيميائي والبيولوجي والذهني للنوع الإنساني. ويتوّج القسم اﻷول بجملة من المقاربات الفلسفية والعلمية للحياة. ويستخلص من كل ما تقدم التعليمات والدروس الصالحة لعصرنا من الفكر البيولوجي عند كورنو، والفلسفة العضوية عند وايتهد، والحدسية عند برغسون، والنزعة المعرفية القائلة بلا انفصالية الجسد عن الروح عند مالبرنش.
يبين أسباب عدم توسع الحضارة العربية علمياً وتقنياً


وينطلق في القسم الثاني من مسلّمة تقول بأنّ العقل مثله مثل التاريخ الطبيعي الذي ﻻ يزال حديث العهد، وبالتالي فإن تنوّعه محدود، كمقدمة لبحث قضية الوحدة الأنتروبولوجية للإنسانية والتفاوت العلمي بين اﻷمم. ويرد التفاوت، بعد أن يسحبه من عباءة الحتمية والعنصرية الخادعة، إلى أسباب اجتماعية وليس إلى طبيعة العقل نفسه. يميط اللثام عن العقلانية العلمية في أوروبا وفي الشرق الأقصى وفي أرض الإسلام. ويبيّن أسباب عدم توسع الحضارة العربية علمياً وتقنياً. وفي ضوء كل ذلك، وتقييمه للثروة العلمية في أصولها ومنابعها وتنوعها الحضاري، يصوغ تصوّراً لعقلانية جديدة قادرة على رفع تحديات القرن الحادي والعشرين، بوصفنا وكلاء كوكب الأرض الذي نعيش عليه. ويسطّر الفصل الثالث من الكتاب مبادئ عقلانية جديدة، تعمّ البشرية، يمكن لها أن ترسّخ نظاماً جديداً للعقل، يجمع بين الإبداعية الفردية والجمعية، وبين الاستكشاف والتحكم في أشكال غير مسبوقة، من الترابط بين الباحثين العلميين، لحل المشكلات العظمى التي تعانيها البشرية، وتحقيق الوحدة الترابطية الفاعلة للإنسانية في المجال العلمي والتوزيع العادل للرفاهية...