وقف أمام مرآته النصفيّة التي تعكس قسمه العلويّ، يراقب خصلات شعره، فيُعيد تصفيفها، ويغيّر التّسريحة التي اعتمدها بعد طول وقت من غياب مقصّ الحلّاق عن شعره، فالحَجْرُ فرضَ عليه البقاء في البيت أياماً وأياماً.وتنتقل عيناه إلى ياقة قميصه، فيعيد ترتيبها مراراً، ثمّ يستقرّ أمره لتعود إلى ما كانت عليه. وتمرّ أنامله على شاربه ممسّداً إياه بحنوّ ورقة.
ويخطو خطواته بعيداً من المرآة ليعود مجدّداً، متسائلاً هل يظلّ مرتدياً بذلته السوداء أو يغيّر فيرتدي البذلة الرّماديّة.

الواقعي والافتراضي (رسمة أنفوغرافية من تصميم موقع www.duvarkagididenizli.com)

وتطول حيرته إلى أن ينتبه إلى التّوقيت، فيدرك أنّه سيتأخّر؛ ينادي مرافقه، ليأخذه إلى المناسبة التي دعَا إليها المنتدى الثّقافي المشهور في قاعته الكبيرة وسط البلد.
هذا المنتدى الثّقافي الذي اشترك في ندوات أعماله الثقافيّة عبر العالم الافتراضيّ ومواقع التّواصل الاجتماعي. فقد نشط هذا العالم الافتراضيّ، وأصبح بديلاً عن الحياة الواقعيّة، بعد أن انتشرت جائحة الكورونا في العالم، وأدّت إلى شلّ الحياة اليوميّة وتعطيلها، واختفاء مظاهر التّفاعل بين الأفراد، والصّخب النّاتج عن ازدحام السّير، وحركة الغادي والعائد.
سكنت الشّوارع، وعادت إلى سيرتها الأولى. والمدارس أُغلقت، وهدأت ساحاتها، فبدت لمساتها البكر، وساد فيها الصّمت.
وهدأت مكاتب الإدارات، فلا حركة مراجعين ولا توتر موظفين، وظلّت الحجرات تردّد صدى الأيام الخوالي.
أشهر مضت والأوضاع تسوء، وحدها المشافي والمراكز الصّحيّة تعجّ بالصّخب والحركة الدّائمين، ورائحة الموت تعبق في المكان، ورداء الحزن يغطي الوجوه.
خواطر عديدة راودته في لحظة خروجه، وتذكّره تلك اللّحظات الصّعبة التي بدأت تخفّ تدريجيّاً، بعد التّكيّف مع هذه الجائحة إمّا وقاية عبر اللّقاحات، أو تقبّلها ضيفاً ثقيل الهمّة، يزورنا رغماً عنّا.
ويلمع في خاطرة سؤال.. هل فعلاً يرى هذه الجائحة ضيفاً ثقيلاً؟!! فبفضل هذه الجائحة.. نعم بفضلها.. يتردّد صدى هذه الكلمة على فمه، ويتابع: بفضلها أصبحت له هذه المكانة الأدبيّة! فقد وصلت أشعاره وقصائده إلى عالم المثقفين.
كم من مرّة في زمن ما قبل الجائحة أرسل قصائده إلى الصّحف، فكان موقعها سِلال النّفايات!!
لكنّه مع الرغبة في قضاء وقت الحجر نشط على صفحات التّواصل، وبدأ ينشر كتاباته على حائط الفايسبوك، وكَثُر الإعجاب بما ينشر، خصوصاً إذا أرفقها بصورة بهية، أو صورة جريئة يخترق (تابو) المجتمع فيها، وبدأت الدعوات تأتيه من كلّ صوب وحدب، ليشارك في أمسيات شعريّة عبر موقع zoom، وغيره.
نعم، تحوّل العالم من عالم واقعيّ إلى عالم فضائي، حتّى دور النّشر بدأت تلاحقه، وتقدّم له الإغراءات لينشر ديواناً إلكترونيّاً.. فالزمن زمن التّكنولوجيا وعلينا أن نستفيد من هذا العالم الجديد.
ارتسمت ابتسامة على محيّاه، فقد تذكّر الرسائل التي بدأت تصله على حسابه الخاص، فيها أرقُّ الكلمات من فتاة من هنا وفتاة من هناك..
ما أجمل هذا الشّعور الذي عاشه مع الكورونا في هذا العالم الافتراضيّ.. وها هو الآن سيتوّج هذا النّجاح في هذه الأمسية التي دُعيَ إليها، ليقول من شعره في عالم الواقع بعيداً من العالم الافتراضي.
ويأتيه صوت مرافقه يخبره عن الوصول إلى القاعة، فينشله من عالمه السّاحر، ويساعده على الانتقال من مقعد السّيارة إلى مقعده المتحرّك ذي العجلات، وبإشارة منه يطلب منه أن يتركه ليدخل بمفرده من دون مساعدة، فالقاعة أرضيّة وليس فيها درج يعيق تحرّكه.
ويبدأ بجرّ الكرسي، وصخب الحاضرين يصله، وأصوات تعوّد أن يسمعها عبر أثير الشّبكة العنكبوتيّة، فيتابع المسير ويدخل واثقاً من نفسه، ينتظر أن يحتفي به الجميع.
ها هو أصبح في وسط القاعة، ينتظر تهافت الجميع عليه، وكم أدهشه أنّ لا أحد يلتفت إليه، وإذا حانت نظرة صوبه، كان فيها الكثير من العطف والشّفقة.. ينتحي جانباً ينتظر بدء الاحتفال..
يسمعُ أصواتاً تتساءلُ عن سبب تأخّر الشّاعر الفذّ الموهوب، فالجميع بانتظاره ليعتلي المنبر شامخاً يصدح بصوته، مطلقاً العنان لأشعاره..
عندها يتراجع قليلاً إلى الوراء وينزوي في زاوية بعيدة لا يراه فيها أحد.. يعود إلى هاتفه متّصلاً بمن دعاه، معتذراً عن عدم الحضور .. متحجّجاً بأنّه على الرّغم من اللقاحات، فإنّه يشعر وكأنّ عوارض (الأوميكرون) قد أصابته.
وهنا يعلو صوت محدّثه قائلاً.. لن نفوّت هذا اليوم، وإن لم تستطع أن تكون بيننا حضوريّاً، فيمكنك أن تبرز معنا عبر الشّاشة، فالقاعة مجهّزة إلكترونيّاً ومتّصلة بالشّبكة العنكبوتيّة، ويسمع أصوات الحاضرين مهللين مصرّين على مشاركته، وآسفين على عدم وجوده بينهم.
يستعدّ للأمر ويعود من جديد إلى الدّخول عبر الرّابط الذي أُرسل إليه..
يرتجل قصيدة مطلعها: شكراً كورونا.

* بيروت