في قصص منتصر القفاش، لا مكان لفوضى المخيّلة، أو مصادفة اصطياد حكاية ما وتوثيقها، إنما يعتمد القصّاص والروائي المصري المعروف، برنامجاً سردياً صارماً في هندسة الفضاء القصصي، وكأنه يقع على كنوزه مما هو متاح على الدوام، لكننا لا ننتبه إلى وجوده لفرط حضوره، أو أننا عبرناه خطفاً، ومن دون اكتراث. في مجموعته القصصية الجديدة «بصورة مفاجئة» (دار الكتب خان)، يُخضع مفردات مألوفة للمساءلة، وتقليب الكتلة موشورياً لاكتشاف منطقة الدهشة حيناً، والعطب طوراً، في متتاليات قصصية يجمعها البيت، ثم يضيّق فتحة العدسة إلى محيط غرفة، ثم الاعتناء بجدار المكتبة، والأدراج، والصناديق المقفلة، ثم حين يتناول كتاباً من أحد الرفوف، سيعتني برسالة مخبّأة بين صفحات الكتاب، ثم هناك ذلك الحضور الطاغي لطيف الأب الغائب.

كأن الطفل يعيش حياته ثانية، ما بين غرفة المكتبة والشرفة، مستدعياً صوتاً لا يسمعه سواه، وظلال كلاب شرسة في مدخل العمارة لا يراها أحد، ورسائل عشق تفضح الحياة السرّية للأب، وصندوق مقفل على أوراق عتيقة. الطفل، ثم الصبي، سيرمم سيرة الأب بما يرويه أصدقاؤه عنه، بالإضافة إلى هذيانات الابن وذكرياته، وإذا بمجلة قديمة، أو موضوع إنشاء مدرسي، أو طعم القبلة الأولى تشعّ في مخيلته، كما لو أنها لم تغادره يوماً: «كنت كلما فتحت الصندوق أمرّر يدي ببطء على البطانة القطيفة، وأثق في إخفائها شيئاً ثميناً لم ينتبه إليه أي أحد من قبل. وأتوقف عند مواضع أحس فيها بوجود شيء صلب تحتها. وأتخيله أحياناً عملة ذهبية أو رصاصة أو نسخة أخرى للمفتاح» (فتح الصندوق). بشكل ما، يشتغل صاحب «مسألة وقت» على تعزيز جماليات المكان الضيّق، ومحاصرته بذكريات شخصية تمنح الخواء حياة جديدة. هكذا تحضر شخصيات القصص تباعاً «الأم، الأخ، الخال، الجدّ، الجدّة وأصدقاء الدراسة»، بما يشبه صورة تذكارية لشجرة العائلة. هذه التحديقة المركّزة لموجودات الداخل، تبدو كما لو أنها الضفة المقابلة لمقترحه القصصي السابق «في مستوى النظر»، إذ اعتنى الراوي بما يدور في الخارج من شرفة الدور الأول، حركة الشارع، وصخب العابرين في نظرة متبادلة، إذ يتيح الشبّاك الموارب كشف جزء من حركة الداخل خطفاً.
من موقعٍ آخر، يرصد منتصر القفاش بتأملات دقيقة عمل الحواس لجهة الإنصات والتخيّل والملامسات الأولى للجسد، والتشكلّات الأولى للشهوة: «في الشهور الأخيرة من حياة جدّي، اعتدنا على أن يرجع إلى البيت بعد قضائه مشواراً، ويحدثنا عن جمال شيء لم ينتبه إليه بالقدر الكافي، مثل ظل الشجرة الموجودة خلف بيتنا، الصور الفوتوغرافية في فاترينة الاستديو الذي يملكه ابن عمي، ميدان الجيزة وهو يراه من الدور العاشر حيث يسكن أعز أصحابه، أصوات الطلاب الصاخبة» (في رؤية الأشياء). انطفاء الجدّ يشعله الحفيد بالتذكّر أولاً، وتمجيد ما يبدو عادياً ومألوفاً بما يشبه المباغتة، فيما تكتفي الجدّة بتفسير الأحلام التي تقتحم لياليها بوصفها وقائع مؤكدة لجهة البشارة أو الشؤم. هكذا يستدرج صاحب «أن ترى الآن» أغراضاً وحالات تبدو نافلة للوهلة الأولى، لكنه بمغناطيس سردي لافت يضعها في الواجهة، كأن يدير حرباً وهمية تنتهي بتحطيم كل ما في الغرفة من قنابل وصواريخ وبنادق متوهمة، لكن في ساحة معركة لا تتجاوز الكنبة والسرير: «كانت تنهي حكايتها باستيلائها على كل الأسلحة التي جمعها على مدار فترات طويلة ولم تترك له سوى مشبك غسيل مكسور».
في قصته «أماكن الكنز»، يعيدنا منتصر القفاش إلى مجلات الألغاز وكيفية حلّ المتاهة، وإذا به يعيد صوغ الحكاية مجدداً بنوع من الحنين إلى فترة الصبا بعدما طوى فترة الطفولة: «ظللت سارحاً في الصور الكثيرة دون قلق من الوقت، وفجأة رأيت الكتاب يكاد أن ينغلق عليّ، أسرعت بالفرار متعثراً في صناديق كثيرة، كشف كل منها عما يضمه من كنوز» (أماكن الكنز).
برنامج سردي صارم في هندسة الفضاء القصصي

سنقع على متاريس جانبية في تفسير ما يحدث في الظل، فالكتابة هنا تعمل على سرد الحكاية المعلنة أولاً، وتأويل ألغازها ثانياً، وفقاً لذاكرة الصبي أو الرجل الأربعيني في محاولاته ترميم المسافة بين ملعب الأمس وتشظي اللحظة الراهنة، وبمعنى آخر إغلاق فجوات الحكاية بوعي آخر: «كنت أعلم أن وراء كل جُملة مشفّرة حكاية لم يحكها لي» (رسائل). لعل فتنة الراوي لا تتحقق إلا بفكّ الشيفرة، لكل حكاية على حدة، كما لو أننا في لعبة شطرنج، كتلك التي كان يلعبها مع الخال، الخال الذي كان ينسى أين أضاع حاجاته، إلى أن يجدها أحدهم في مكانٍ ما، بمن فيهم زوجته الراحلة في محادثات يرى أنها اعتيادية حتى في غيابها: «أقنعت نفسي بأن توهّمه التحدّث مع زوجته سببه شدّة الشوق إليها، وللأيام التي كانت تعثر فيها على ما يضيّعه» (دور شطرنج). نسيان الخال يرمّمه الراوي بالتذكّر، كما لو أننا أمام لعبة شطرنج تحتاج إلى الدقّة والانتباه، في توزيع شجرة العائلة فوق رقعة اللعب بنقلات مضبوطة هي جوهر برنامج منتصر القفاش في رواية القصص، بالإضافة إلى استعمال الفرجار والمسطرة في رسم الخطط السردية كترجيع لولع قديم في اللعب. في قصص «بصورة مفاجئة»، يطوي صاحب «تصريح بالغياب» بحذق، الأصول الأولى للسيرة، في مروحة واسعة من الاحتمالات التخييلية، تجنباً لما هو ذاتي صرف أو مما يقع في باب سيرة الطفولة والصبا.