يقول لوكاتش إنّ البطل الإشكاليّ هو الشخص الذي يقوم ببحث منحط أو شيطاني عن قيم أصيلة في عالم منحطّ. أما باختين، فقد عُني بوعي البطل وإدراكه لذاته، وبعبارة أخرى عُني بكلمته الأخيرة حول العالم وحول نفسه. ونحن إذا أردنا أن نجمع بين آراء الباحثَين وغيرهما حول الشخصية الروائية، لواجهتنا مشكلات كثيرة وآراء متقابلة، ولكن إذا أردنا أن نجد آراء هؤلاء النقاد، على اختلافها في الظاهر والجوهر، مجتمعةً في شخصيات روائية في نصّ واحد، لوجدنا تلك الشخصيات في رواية «اسمي زيزفون» (منشورات الربيع ـ القاهرة) للسوريّة سوسن جميل حسن. هي رواية الشخصيات من دون منازع، على الرغم من الحضور المكثَّف للمكان والزمان في الكثير من الأحيان. ولو كان الأمر عائداً إلينا، لوضعنا «التنّور» عنواناً للرواية، لما للتنور من رمزية وتكثيف في سير الأحداث. لكن شخصيات الرواية هي الأساس، وهنا يأتي رأي الكاتبة نفسها حول الأمر ليؤكّده، إذ اختارت أن يكون العنوان هو «الشخصية».

تبدأ الرواية باستعادة زيزفون/ جهيدة وعيها بعد إغماءة طويلة ظنّ من حولها أنها ماتت جرّاءها. تعود بعدها إلى القرية، بعد انفجار يحصد بعض الأرواح، وهو أمر اعتاده السوريّ منذ سنوات، لكن زيزفون التي تهرع للاطمئنان على والدها، فتُفاجأ بخبر موت سعيد، الذي لا تطلعنا الرواية بحضوره وعلاقة زيزفون به إلا بعد وقت ليس بقصير.
أثناء سردها وقائع الحاضر الممزوج باسترجاعات كثيرة، تقرّر زيزفون أن تكتب مذكراتها. خلال السرد بين الدفتر والواقع، نتعرّف إلى طفولتها وصباها، وحياة جميع الشخصيات التي تشكّل مجتمعةً نسخة مصغّرة عن واقع المجتمع السوري، وإن ركّزت الرواية على العاديين منهم، الذين لا يبقون عاديين مع الاستمرار في القراءة. نصل مع نهاية النص إلى احتراق البيت الذي كان حاضناً لطفولة زيزفون وكل مراحل حياتها... البيت الذي أراده «المعلّم» شعبان، الضابط الكبير، أخو زيزفون، بعد وفاة الأب، لهُ ولأبنائه.
السرد شائق، لغة سهلة يتخللها العاميّ عند الضرورة بشكل لطيف وسلس إلى الحد الذي لا يشعرك بوجوده، يتداخل فيه الألم والفرح والخيبات والأمل والأحلام والموت... حتى تكاد تعيش صراعاً شعوريّاً بوصفك متلقّياً، لم تكن تظنّ أن عملاً أدبيّاً قد يملك القدرة على خلق ذلك الصراع لدى المتلقّين، ولا تُخفي الرواية بين السطور ما تريد أن تثيره من قضايا اجتماعية ودينية وسياسية، بل تقولها بكلّ وضوح، حتى تكاد تسمع نفسك وأصدقاءك من خلال النصّ، الذي حمّلته الكاتبة آراءها مما يحصل في بلادها، من دون أن تخوض في التفاصيل، ومن دون أن تنفّر منها من قد يخالفها الرأي. ولكن هل كانت ديبلوماسية ليقبلها المتلقّي مهما كان انتماؤه؟ بالطبع لا!
هي رواية الشخصيات كما قلنا، وإذا أردنا التوقّف عند بعضها، لا بدّ لنا من البدء مع زيزفون، جهيدة، التي غيّرت اسمها ليحمل عبق رائحة شجرة تشتهر به بلادنا الجميلة بذاتها، الزيزفون، ولتقول إنّها ضدّ النظام صحيح، لكنّها ضدّ الجهاد الإسلامي وغيره. لذلك كانت ضدّ جهيدة، وتستمرّ بالإفصاح عمّا يدور حولها، حياتها في المدرسة، موت أمها، عملها في الجامعة، قصّتها التي لم تدم مع حمادة، وقصّتها مع عبد الجليل «نقّيش التقارير» الوصولي الفاسد، الذي استطاعت حماية نفسها منه، مروراً بقصة أختها التي انتحرت بسبب تحرّش مدير مدرسة التمريض بها، وقصّة والدها الذي أصبح مقعداً بسبب ذلك المتحزّب الفاسد... كلّها أحداث تُحدّثنا عنها زيزفون لتقول إنّ ما أوصل البلاد إلى ما هي عليه، هو مجموع تلك الأحداث بوصفها نماذج عن نظام اجتماعي حكم بهذه الطريقة منذ تسلم «البعث» الحُكم.
ولكن ما حملته شخصية زيزفون من رمزية أعطت الأحداث المرتبطة بها قوة وعمقاً، بدءاً بموضوع رضوخها للمرور من جدار مزار «أبو طاقة» لإثبات عفّتها، فنجدها عادت وأحرقت المزار. لكن هل تكمل الشخصية بالقوة نفسها؟ تقول الرواية «لا»، فإن الكلام سهل لنحمّل المرأة في مجتمعنا انتصارات وهمية على الورق، ولكن الواقع أقوى وسلطة المجتمع الذكوري أعنف، فتبقى زيزفون الضعيفة التي ترضخ للكثير من قرارات الرجال، إلى أن تصل الرواية إلى نهايتها، فتقف في وجه أخيها، الذي أراد أن يخرجها من البيت بعد وفاة الأب.
هي رواية الشخصيات من دون منازع رغم الحضور المكثَّف للمكان والزمان


شخصيتان اثنتان كانتا أساساً في بناء هذا العمل، سعيد من جهة، والأب من جهة أخرى، على الرغم من تعدد الشخصيات الأخرى، إلا أن دورها كان عاديّاً، فالأخ الجبان كإبراهيم، والوصولي كشعبان نعرفهما وقرأنا عنهما، ومْنيَّر المجنون الذي يظهر بأنه يخبِّئ حِكمة خلف الجنون نعرفه أيضاً، ولكن ما حملته شخصية سعيد من رمزية، كانت هي الأعمق، بالإضافة إلى الأب. سعيد هو الشاب الذي ترك الضيعة وعاش مع كلابه في الجبل، تظهر كلابه عندما تهجم على الشيخ عباس الذي أشرفَ على موضوع مرور زيزفون من «طاقة» المزار، نظنّه حدثاً هامشيّاً في البداية، لكن عندما تعلن الرواية عن دور سعيد في حماية «الثوار»، نعرف أنه الشخصية الأقوى، لأنّه السوريّ الذي كان فاهماً واقع بلاده. شخصية الأب الذي أقعدته مواقفه وركلة من متنفّذ فاسد منذ عشرات السنوات، وهو ابن البلاد التي ينتمي إليها بعاطفته وطيبته، تصوّره الرواية بأنه الساذج الذي اقتنع بفكرة المؤامرة الكونية، وبأن النظام هو الحامي له ولأبناء طائفته ولكل البلاد، هذا «الساذج» أرادته الرواية أن يرمز إلى التخلّف، ولكن برأينا كان رمزاً للكثيرين من أبناء البلاد الذين آمنوا حقّاً بأنّها مستهدَفة، أولَيسَت مستهدَفة؟ إلا أنه بموته، يجمع أبناء المنطقة، والطائفة، في بيته، بيت زيزفون.
رواية قالت ما يقوله كثيرون منا عن الوضع في الشام وفي جميع بلادنا المأزومة، لكنها صاغت الأفكار بشكل مقنِع، إذا كنت واحداً ممن أعملوا العقل والمنطق، وليس العاطفة والغريزة في شؤون بلادنا ذات المصائر التي يجمعها أمر واحد: الضَّيَاع.