هل «اكتشف» كولومبوس أميركا؟ تبدأ كارولين دودز بينوك الصفحة الأولى من كتابها الشجاع حول وصول أبناء حضارات الأزتيك والمايا والتوتوناكس والإنويت وغيرها من سكان الأميركيتين الأصليين إلى أوروبا الحديثة، بالتنبيه إلى خطورة اختيارنا للكلمات والمصطلحات عند مقاربة الحدث التاريخي. السرديّة المغرقة في أورومركزيّتها التي تروي قصة كريستوفر كولومبوس وغيره من المستكشفين والمستعمرين والمستوطنين، تصف مثلاً وصول طلائع الغزاة الإسبان إلى «الأميركيتين» بـ «اكتشاف» أميركا عام 1492، كأنّ تلك البلاد الشاسعة كانت غير مأهولة بالسكّان. وراء فكرة «الاكتشاف» تلك، يكمن خيال ديبلوماسيّ مريض يعود تاريخه إلى «معاهدة توردسيلاس» عام 1494، التي قسمت «العالم الجديد» بين الإسبان والبرتغال، وسمحت للأوروبيين باستيطان الأراضي «المكتشفة» من دون أدنى إشارة إلى أصحابها الأصليّين.تحطيم هذا التأطير التاريخيّ التقليديّ المنحاز في استعادة الحدث منطلق لا بدّ منه لفهم أبعاد حكاية سكان «أميركا» الأصليين الذين «اكتشفوا» أوروبا، كما يؤطرها عنوانها الفرعي لكتاب بينوك الجديد «على شواطئ متوحّشة» (On Savage Shores: How Indigenous Americans Discovered Europe- W&N, 2023)، وهم مئات الآلاف من أبناء الحضارات العريقة لما سمّي بـ «العالم الجديد» التي سافرت شرقاً، بعيداً عن أوطانها، بداية عام 1492. ولأن تلك مهمّة ضخمة سها عنها طويلاً التاريخ الأورومركزيّ، تركّز بينوك على أول 100 عام من ذلك التّبادل «المعكوس» بين أوروبا والأميركيتين، بخاصة على شخصيّات أولئك الذين ظهروا كغرائب إكزوتيكيّة: ملك برازيلي في بلاط العاهل الإنكليزيّ هنري الثامن؛ أميرة الإنكا، دونا فرانسيسكا بيزارو يوبانكي، التي عملت كسفيرة للسكان الأصليين؛ ودييغو دي توريس إي موياشوك، الذي أصبح مدافعاً في إسبانيا عن حقوق سكان الأميركيتين الأصليين في أواخر القرن السادس عشر.

مارتين غوتيريز ـــ «كريستوفر كولومبس كان بيدوفيلياً. ص 78 امرأة من السكان الأصليين» (طباعة كروموجينية ــــ 2018)

بالنسبة إلى مئات الآلاف من أبناء الأميركيتين الأصليين، فإنّ «الاكتشاف» ذهب في الاتجاه الآخر تماماً لرحلة كولومبوس. وعندما وصل هؤلاء إلى البرّ الأوروبيّ اكتشفوا مجتمعات اختلطت غرائبها مع وحشيتها، وثرواتها الباذخة مع تفاوتاتها الطبقيّة الحادّة، وصدمتهم من شدّة تعصبّها.
غالبيّة هؤلاء لم يعبروا المحيط الأطلسي نحو أوروبا بمحض إرادتهم. رغم أنّه كان - نظريّاً - لا يمكن استعباد أبناء الشعوب الأصلية وفق القانون إلا في ظل استثناءات معينة (مثلاً إذا كانوا من آكلي لحوم البشر، أو تم إنقاذهم من الاستعباد لدى غير المسيحيين، أو تم أسرهم في حرب «عادلة»)، إلا أن تفسير تلك الاستثناءات كان دائماً مرناً ورحباً. ويقدّر أنّ ما حوالى مليونين من سكان الأميركيتين الأصليين قد تم استعبادهم قبل عام 1600 منهم ما لا يقلّ عن 650 ألفاً إلى أوروبا. كولومبوس وحده استعبد ما بين 3000 و6000 رجل وامرأة وطفل من سكان الكاريبي. هناك كثير من العتمة التي تكتنف تفاصيل جرائم الاستعباد تلك، وبالكاد تجد عنها شذرات متفرقة هنا وهناك في سجلات أوروبا العصور الوسطى. يقول أحد المغامرين الغزاة مثلاً ألونسو دي أوجيدا في مذكراته في عام 1499 إنّه «حصل على بعض نساء «الهنود الحمر» ذوات جمال خارق». وفي سجلات رحلة كولومبوس الثانية وصف تفصيليّ لاغتصاب امرأة كاريبية حسناء من قبل صديقه المقرّب ميشيل دا كونيو.
بينوك واضحة وصريحة بشأن هذا التحدي في كتابة تاريخ ما «تغافل» عنه التاريخ. هذا يعني البحث عن إبر في أكوام من القش، والتعامل مع قصص غير مؤكدة أو تلميحات غير حاسمة، مع انحياز مخلّ في توثيق جوانب الحدث ومنهجيّة تأطيره. لكنّ روايتها المعاكسة لحكاية «الاكتشاف» التقليدية تسهم بمجملها في إعادة موضعة سكان الأميركيتين الأصليين في قلب الحدث التاريخيّ، وتنبهنا إلى الطرق المشوهة التي تشكلت بها صورتنا المغرقة في أورومركزيّتها عن الماضي.