في 6 شباط (فبراير) الماضي، ضرب زلزال مدمّر تركيا وسوريا، مُخلفاً آلاف الضحايا والجرحى والمشرّدين، لتعتبره الأمم المُتحدة أكبر كارثة طبيعية تضرب المنطقة مُنذ قرن. في هذه الأثناء نشرت «شارلي إيبدو» رسماً كاريكاتورياً جديداً للفنان بيريك جوان بعنوان «زلزال في تركيا» يظهر أكواماً من الأنقاض والمباني المنهارة، إلى جانب تعليق: «لا داعي حتى لإرسال دبابات». كان رد فعل الجمهور غاضباً، راوح على موقع التواصل الاجتماعي (باللغات التركية والفرنسية والإنكليزية) بين استنكار ما يُعتبر «خطاب كراهية» ووصفه بـ«الغبي» و«العنصري» ووصف المجلة بـ«وصمة عار على الإنسانية». في عام 2015 بعدما نشرت المجلة الفرنسية الساخرة رسوماً كاريكاتورية عن النبي محمد، نفّذت مجموعة من المُتطرفين الإسلامويين هجوماً على مقرّها في باريس راح ضحيته 12 شخصاً. على إثر هذا الحادث، احتشد آلاف الأشخاص، إلى جانب العديد من قادة العالم، في عرض مشترك للتضامن والدعم للضحايا. أدّى هذا الاندفاع الهائل للعاطفة إلى موجة من التأثير المشحون بالتأكيدات الدرامية مفادها أنّ هناك هجوماً على الحرية والديمقراطية والإبداع. لم يقتصر الأمر على الغضب والاشمئزاز من المهاجمين، ولكن أيضاً سادت حالة مِن التماثل مع الضحايا، ليظهر شعار «أنا شارلي» بصفته الرد الطبيعي والأخلاقي واللائق الوحيد. ترك هذا مجالاً ضيقاً للتفكير والكتابة حول عمل «شارلي إيبدو» نفسها: هل محتواها عنصري ومعادٍ للإسلام ومستشرق ومتحيّز جنساني ويحمل فكراً استعمارياً أم لا؟
سُخرية تخاف القوي
يتم تقديم «شارلي إيبدو» على أنّها تمثل حرية التعبير كقيمة مركزية فرنسية وأوروبية و«غربية» تعتمد عليها جميع الثقافات الأخرى، ومن ناحية أخرى، يتم تقديم الإسلام و«المسلمين» (سواء بشكل مباشر أو ضمني) وغيرهم من الأشخاص الملوّنين والمهاجرين وشباب الضواحي الفقيرة، على أنهم عدو أساسي غير متمايز وغير إنساني وعنيف ومتعصّب ورافض لقيم الغرب التحررية. وكان هُناك دائماً ربط يساري (وربما يميني) بأن السُّخرية ممارسة تهدف إلى هدم السلطة. لكن في الواقع، ومع الممارسة التي تقوم بها «شارلي إيبدو»، تظهر السخرية بوصفها فعل سُلطة.

فرنسا (لوران سيبرياني)

تحول رسم «شارلي إيبدو» إلى تمرين سُلطة تدّعي التفوق الأخلاقي والقيمي، وبالتالي تستهدف سخريتها الضعيف دوماً. في الواقع، تبريرات المجلة حول رسومها عن المسلمين والملوّنين وغيرهم، تُخالف قاعدة أنّ «ما يُضحك لا يحتاج إلى تفسير»، لكن في الوقت نفسه تأكّد شيء آخر تاريخي، هو أن السخرية منذ آلاف السنين وقفت إلى جانب الطرف الأقوى الذي يمكن الاعتماد عليه، أي مع السلطة. لم تتجرد المجلة مِن ميراث الاستعمار الاستبدادي، وخبثه غير العنيف، حيث تستدعي الرسومات الأخيرة تعليقات فرويد المختصرة حول السخرية كشكل من أشكال المزاح «المغرض». فالدافع الأخلاقي للسخرية لا ينفصل، في هذه الحالة، عن دافعها السادي.
يستمر تقديم الحجج لدعم استخدام «شارلي إيبدو» للصور التي تعيد تعبئة الصور النمطية الاستعمارية العنصرية: المسلمون والعرب المدجّجون بالسلاح وبجلبات قصيرة، ورجال ونساء ملوّنون بأجساد قرود. فالتنصل واضح من ارتباط صور مماثلة بما يُطلق عليه «عوالم الموت» للمستعمرة وما بعد الاستعمار، حيث يتم التنصل من العرق والعنصرية والمستعمرة وما بعدها في سياق فرنسي وأوروبي أوسع. وهذا التنصل هو أمر جوهري في تخيل الجمهورية الفرنسية. هذه النظرة الأسطورية للجمهورية تعتمد في الوقت نفسه على المنطق الثنائي الذي هو أيضاً جوهري في ميراث التنوير وتمايزه الجنساني والعرقي بين الذات/ الآخر: التناقضات الثنائية المألوفة الآن بين العالمية والخصوصية، والاستيعاب والاختلاف، والمواطن والذات، والحضارة والهمجية، والعلمانية والدين، والعام والخاص، والفرد والجماعة. هذا المنطق يدعم الجمهورية، والمثل التحررية المزعومة تعمل على إنكار العنصرية الاستعمارية المعتمدة على الانتماء القومي.
ولتأطير «شارلي إيبدو» وتحليل منهجها، يجب فهم الإيديولوجية التي يقوم عليها الاستعمار الفرنسي، إذ إنّها تلعب دوراً رئيساً في الإمبريالية الفرنسية والبناء الجمهوري للمواضيع الاستعمارية. انبثقت ما تُسمى «المهمة الحضارية» للدولة الفرنسية من الإطار الجمهوري الذي تطورت من خلاله النزعة التوسعية الفرنسية نفسها. وجد الاستعمار الفرنسي دعمه في مصدرين: مصدر محافظ وآخر إنساني. يعتقد المحافظون المؤيدون للاستعمار أن الناس من المناطق المستعمرة، يجب أن يتحولوا إلى رعايا مستعمرين. وبالتالي، يجب معاملة الناس من المناطق المستعمرة على أنهم أقل شأناً من المستعمرين البيض. هدف فرنسا لم يكن تحقيق المساواة، بل فرض هيمنتها بحيث يصبح عدم المساواة قانوناً اجتماعياً في البلدان المستعمرة. في المقابل، غالباً ما تم تقديم الاستعمار الفرنسي على أنه استثناء ضمن المشاريع الاستعمارية الأوروبية بسبب «النزعة الإنسانية» للجمهورية. عملت الأخيرة على دمقرطة النظام المدرسي، والسيطرة على الصحافة. وشهد عام 1932 خلال مؤتمر في فيشي بعنوان «الاستعمار وحقوق الإنسان»، إعلاناً عن تنقية الاستعمار ليصبح مُفيداً، ففرنسا الحديثة تمثل نموذجاً يجب أن ينتشر في جميع أنحاء العالم. لم تكن هذه الخطابات مجرد معارك خطابية، لكنها دعمت الأنظمة الفرنسية في أفريقيا وآسيا. وهكذا، إذا لم تكن مثالية الجمهورية الفرنسية حقيقية، فإن تأثيرها على الموضوعات المستعمَرة كان شديداً إلى حدّ كبير.
الآن، تختلف الإمبريالية والاستعمار الجديد الفرنسيان عن مظاهرهما في الماضي، لكن من المهم إدراك الصلة المستمرة بين الإمبريالية والعنصرية الفرنسية كما تُجسدها رسومات «شارلي إيبدو»، حيث لم يكن «الاتحاد المقدس» الذي أراده الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند مجرد اتحاد داخلي، بل كان أيضاً تحالفاً بين الدول الغربية من أجل محاربة العدو من الداخل والخارج. يسهل تحديد العدو من الخارج: «داعش» هو الهدف الرئيس، وتُعتبر الخسائر المدنية من حملات قصف التحالف في جميع أنحاء الشرق الأوسط ثمناً ضرورياً لحماية الجمهورية. لكن يصعب تحديد «العدو في الداخل». مع ادّعاء «داعش» أنها منظمة دولية لها «جنود» منتشرون في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك فرنسا، يصبح كل عربي أو مسلم أو مُلوّن مشتبهاً به محتملاً، وهو، على المستوى الإيديولوجي على الأقل، مؤيد للإرهاب.
كما تفعل ضد العدو من الخارج، تستخدم الدولة الفرنسية جهاز الدولة الإيديولوجي والقمعي ضد هذا «الطابور الخامس». لذلك، لا يكفي لشخص عربي أو مسلم في فرنسا ألّا يبايع «داعش»، بل يجب أن يبايع الجمهورية إذا كان يأمل أن يتبرّأ من الشبهات. وهكذا، تهيّأ مناخ صعود الإسلاموفوبيا وكراهية الآخر وتأطيرهما في نموذج معرفي مقبول مثل «شارلي إيبدو» التي تُصبح محصّنة مِن النقد بسبب رغبة المُختلف/ الآخر في دفع تهمة الإرهاب عنه.

حداثة التطرف المعكوس
في ظل الحداثة الاستعمارية، كما ورثنا منطقها في نظام العلاقات العالمية الذي يعطي شكلاً لعالمنا اليوم، كان للغرب امتياز رسم العالم وإعادة تشكيله لاختراق الآخر بشكل غير متكافئ كما يشاء. هذا المنطق المتأصّل بعمق في الهياكل والهويات والقصص والرسومات الغربية، يتعرض الآن لضغوط داخل الغرب من تيارات الهجرة الجديدة والهويات العالمية الجديدة الوسيطة. إن صعود الحركات الشعبوية المعادية للأجانب والقومية في جميع أنحاء أوروبا هي وسائل لمقاومة كبيرة لمثل هذه التطورات.
إنّ «شارلي إيبدو» وما تُعبّر عنه هي حالة تُظهر ما يحدث عند دمج النظام العالمي داخل دولة قومية. لقد أصبحت فرنسا في الواقع متعدّدة الجنسيات. مع ذلك، فهُناك تنامٍ مُتزايد لتيارات سياسية وفكرية داخلها ترغب في العودة إلى حالة الدولة القومية، ما يعني تناقضاً هيكلياً مفاده أن المجتمعات الغربية تواجه الآن خياراً وجودياً يتمثل في التخلي عن العناصر المحددة لديمقراطياتها (المعولمة)، ولا سيما المساواة والتنوع الشامل أو بدلاً من ذلك، التخلي عن تخيّلاتها عن الوحدة (الوطنية) النقية.
في ظل العولمة، لا فرق جوهرياً أو أساسياً بين العنف الديني والعلماني. التفرقة بينهما جاءت متأخرة تم تشكيلها عبر تأويلات استعمارية، حيث لا تعتبر وجهات النظر السياسية العقائدية المطلقة علامةً على الدين، بقدر ما هي مُسيّسة بشكل مكثف، تعبّر عن صراعات استقطابية تتم فيها تعبئة أطراف مختلفة بحجّة أن أساليب حياتها ومستقبلها الوجودي معرّضان للخطر. لغة هذه التعبئة قد تكون دينية، أو علمانية أيضاً. تؤكد هذه السيولة والتبادلية أن الحاسم هو الجانب الوجودي للتعبئة السياسية، لا الديني. ميل العولمة إلى تحويل السياسة إلى مسألة إيديولوجيات وأساليب حياة متضاربة، هو ما يجعل استهداف الدين مفيداً للغاية، لا العكس. لذا، فـ«شارلي إبدو» هي المقابل العلماني المتطرف من نظيره الديني المتطرف الذي تدّعي المجلة نقده. يمكن تفكيك تطرف «شارلي إيبدو» عبر تحليل بنية العلاقات العالمية التي ورثناها عن الحداثة الاستعمارية ويمكن تلخيصها بالتالي: عدم المساواة العميقة في السلطة والرفاهية والمكانة بين المجتمعات العالمية، والتي تشكّلت على مدار إمبرياليات تستمر في هيكلة العلاقات العالمية المعاصرة بشكل أساسي؛ والتوتر الهيكلي الناتج عن ذلك في الغرب بين مُثُل الديمقراطية الدستورية والتعددية والمساواة «في الداخل» وسياسة القوة الواقعية «في العالم» على حساب حياة وأجساد فقراء العالم والضعفاء وغير المحظوظين (الغرب ينتهك من الناحية الهيكلية مُثله وقيمه الأساسية في الخارج، وفي الوقت نفسه يسعى إلى منع غالبية شعوب العالم التي تعيش في ظل ظروف الاستغلال والضعف والقمع من القدوم إلى الغرب للهروب من مثل هذه الظروف)، احتواء التوترات التي ينتجها هذا الغرب من خلال الروايات والأطر والحساسيات التي تعمل على تطبيع اللامساواة العالمية، وتلقي اللوم بانتظام على فقراء العالم بسبب فقرهم وحروبهم وسوء حظهم من خلال تفسيرات ثقافية. إن موقف «شارلي إيبدو» المتطرف مِن الآخر ليس الخوف على الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وسيادة القانون والتنظيم السياسي والثقافة الاستهلاكية العلمانية، ولكن لأنّ آخرَ قد يعرض فكرة أساسية للخطر مفادها أن للغرب وحده الحق في صنع التاريخ، وتحديد الهياكل الجغرافية، والحكم على شعوب العالم والذهاب «إلى الشرق» مع تقييد حقه في المجيء «إلى الغرب».

جمهورية مأزومة
في فرنسا، ساعدت المعركة ضد الرقابة الدينية على إحياء فكرة الماضي المجيد عندما كانت النسخة الخيالية للأمة طليعة التحرر العالمي (العلماني). إن حقيقة أن فرنسا العلمانية لم تعد مهدّدة من قبل كنيسة كاثوليكية قوية بالكامل، نسيها الجنود الجدد في الحملة الصليبية العلمانية. بدلاً من ذلك، فإن عدوهم الآن هم أقلية، يتم التمييز ضدهم بشكل مستمر ومنهجي. هذا لافت بشكل خاص في ما يتعلق بالحجة ذاتها حول حرية التعبير التي تستثني معارضي الرسوم الكاريكاتورية، مهما كانت أسبابهم منطقية.
وبالتالي، سمحت قضية الرسوم للأصوات اليمينية بإعادة صياغة حجتها العنصرية الجديدة في جزء من مشروع التنوير الغامض: ستكون الحروب الصليبية الجديدة بين المسلمين والملوّنين والعرب والمجتمعات الغربية التقدمية. كان هذا الخط من الحجة ناجحاً في خلق انقسامات عميقة داخل وعبر اليسار، حيث شعر المثقفون والناشطون خطأً بأنهم مضطرون للاختيار بين العلمانية والعنصرية: من أجل الدفاع عن العولمة والعلمانية، كان ضرورياً إضفاء الطابع الجوهري على جزء من السكان وإقصائهم.
تستدعي الرسومات الأخيرة تعليقات فرويد حول السخرية كشكل من أشكال المزاح «المغرض»


لم يعد الجدل عن حرية التعبير يدور حول ما إذا كان ممكناً حتى في مجتمع غير متكافئ حيث الخطاب العام في متناول عدد قليل جداً. بدلاً من ذلك، تركّزت المناقشة على ضرورة دعم حرية التعبير المطلقة ضد تهديد معين. والأهم أنّ وراء الدعم الذي تلقّته «شارلي إيبدو»، خصوصاً من اليسار، لم يكن لنشر الرسوم الكاريكاتورية والدفاع عنها علاقة كبيرة بحرية التعبير؛ لقد كان هجوماً آخر على الإسلام وأي شخص مرتبط بالدين من بعيد.
لن تنشر أي صحيفة كبرى رسوماً تسخر من المكفوفين أو الأقزام أو المثليين أو الغجر، لأنهم يخشون الذوق السيّئ أكثر من خوفهم من الملاحقات القانونية المحتملة. لكن لا يبدو أن الذوق السيّئ يمثل مشكلة مع الإسلام، لأن الرأي العام أكثر قابلية للاختراق من الإسلاموفوبيا (غالباً ما يختبئ وراء رفض الهجرة). ويمكن للمرء أن يلقي نكاتاً عن المسلمين لن تُطلق على الآخرين.
ادّعى أنصار المجلة أن السُّخرية تنال مِن جميع الأديان، لكنهم فشلوا في الاعتراف بعجز وضعف المُستهدف، وجاء التأثير المحتمل على المسلمين والمجتمعات الإسلامية في وقت تتنامى فيه الإسلاموفوبيا والكراهية ضد المسلمين في المجال السياسي ووسائل الإعلام والمجتمع المدني. وهذا هو السياق الذي أفسح المجال لقوة وشعبية الرسومات وقدّم تأطيراً جاهزاً واستجابة لخطاب «الإسلام مقابل القيم الليبرالية الغربية/ حرية التعبير».
إن معنى الحرية والعلمانية في فرنسا، كما في رسومات «شارلي إيبدو»، قد أصبح مشوّهاً يعمل كتقنيات عنصرية واضحة للإقصاء والعقاب. تقنيات تستهدف الآخرين الذين يشعرون بشكل مُتزايد أن العولمة وقيم التنوير ما هما إلا كذبة تخدم فقط القمع، والمشكلة تكمن في جعل الشمولية إثنية.