حدّثنا ابن النديم في «الفهرست» عن صابئة البطائح في جنوب العراق، وهي الطائفة التي يعتقد بقوة أنها التي ورد ذكرها في القرآن باسم «الصابئين». وأخبرنا أن لها رئيساً باسم غريب يدعى «الحسيح»، أو «الحسح»: «هؤلاء القوم كثيرون بنواحي البطائح، هم صابئة البطائح، يقولون بالاغتسال ويغسلون جميع ما يأكلونه، ورئيسهم يُعرف بالحسيح. وهو الذي شرع الملة، ويزعم الكونين ذكراً وأنثى وأن البقول من شرع الذكر وأن الأكشوث [نبات طفيلي] من شرع الأنثى وأن الأشجار عروقه. ولهم أقاويل شنيعة تجري مجرى الخرافة. وكان تلميذه يقال له شمعون، وكانوا يوافقون المانوية في الأصلين وتفترق ملّتهم بعد، وفيهم من يعظم النجوم إلى وقتنا هذا» (ابن النديم، الفهرست).
نقش ألكسامينوس Alexamenos graffito في تلة البالاتين في روما

ويربط الباحثون بين «الحسيح» هذا و«الكسيا» أو «الكسي» Elksai زعيم طائفة الكسيئيين ElKesaites التي كان مركزها في القرون الأولى الميلادية في فلسطين إلى الشمال من البحر الميت، ويرون أنهما الشخص ذاته. وفي رأي أفيفانوس، فإن الاسم الكسيا يعني «القوة الخفية». وهناك من اقترح أن الكسيا مأخوذ من الجذر العبري والآرامي «قصي» الذي يعني: الخفي. أي أن الاسم يعني «الإله الخفي». غير أن آخرين يربطونه بـ «آدم كسيا» في الأدب الصابئي المندنائي في العراق، والذي يُترجم عادة على أنه «آدم النوراني».
وإذا صحّ الربط بين «الحسح» و«الكسيا»، وهو ما نعتقده بقوة، فإن علينا أن نفسر سبب الافتراق الكبير في اللفظ بين «الكسيا» و«الحسيح».
ولو ذهبنا إلى اللغة العربية، فإننا سنجد أنّ كلمة «الحسح» لا تعني شيئاً، إذ ليس هناك جذر (حسح) في هذه اللغة، الأمر الذي يعني أن علينا أن نبحث عن طريق آخر لضبط هذا الاسم وفهمه. فوق ذلك، فإن هذا الاسم «لم يرد عند صابئة جنوب العراق» (عزيز سباهي، أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية، منشورات دار المدى، دمشق، 2002 ص 106). بذا يمكن الافتراض أن هذا الاسم قد صُحّف وحُرّف.

الحسيح المصحّف
بالتالي، فليست لدينا إمكانية للوصول إلى الصيغة الأصلية للاسم إلا عبر المقارنة بين صيغة ابن النديم (الحسيح، الحسح) وبين الصيغة اليونانية. أو قل إنه ليس لدينا من طريقة لفهم الاسم إلا عبر تصحيح صيغة ابن النديم من خلال الصيغة اليونانية. واللجوء إلى الصيغة اليونانية لضبط الاسم أمر مشروع من جهتين:
أولاً: أنها أقدم بكثير من صيغة ابن النديم. فقد وردت عند هيبوليتس منذ القرن الثالث الميلادي وبصيغة Elchasa.
ثانياً: إنها صيغ تواترت في الورود، بشكل متقارب جداً، عند مؤرّخين عديدين، وعلى مدى قرنين من الزمان، الأمر الذي يجعل من الصعب الافتراض أنهم جميعاً أخطؤوا في نقل الاسم، في حين أن صيغة «الحسيح» لم تردنا إلا مرة واحدة يتيمة عند ابن النديم فقط.
وفكرة تصحيف الاسم «الحسيح» ليست جديدة: «فقد أثار خلو الاسم من حروف العلة {أي الحركات} والنقاط بعض التكهنات في تفسيره. وذهب بعضهم إلى أنه «المسيح» وحدث التحريف بفعل الاستنساخ» (عزيز سباهي، مصدر سبق ذكره، هامش ص 105).
عليه، فوضع الاسم في نص ابن النديم يجعل احتمال التصحيف وارداً جداً. لكن بما أن الدلائل تشير إلى أن ابن النديم كان ينقل مباشرة عن ألسنة طائفة صابئة البطائح، التي كانت ما زالت موجودة في عصره، أو عن أناس يعرفونها جيداً، فإن من المنطقي افتراض أن التصحيف حدث بعد ابن النديم، أي عند الكتبة الذين نسخوا كتابه الفهرست، وليس عند ابن النديم نفسه.

الصيغة اليونانية
ولنبدأ بالقول إن الاسم بصيغته اليونانية ورد بادئاً بما يبدو أنه «أل» تعريف العربية في جميع المصادر باستثناء مصدر واحد بدأه بهاء التعريف. وهو ما يشير إلى أن الصيغة التي نقلت عنها هذه المصادر كانت عربية. فالعربية هي اللغة الوحيدة التي تستخدم أل التعريف. ويؤيد هذا أنّ أفيفانوس سمّى المنطقة التي يقيم فيها الكسيئيون في شمال البحر الميت باسم «العربية». وهو ما يعني أنها منطقة ذات طابع عربي ما. وبعد «أل» التعريف، يأتي الاسم في جميع المصادر اليونانية بما يبدو أنه حرف الكاف. وهذا يرغمنا على افتراض أن الحرف الأول في صيغة ابن النديم يجب أن يكون كافاً لا حاء. أي أن الاسم هو «الكسيح»، إذا افترضنا أن الحرف الأخير حاء فعلاً، وهو ما نشك فيه كما سنرى. وتصحيف الكاف إلى حاء أمر ممكن جداً في الكتابة العربية، وخاصة في اليدوية منها. فالكاف فيها تشبه حاء لها عقفة ترتد إلى الوراء. وأي قصر في هذه العقفة، سيجعل ناسخاً ما قادراً على التوهم أنها حاء: «كـ، حـ». ويبدو أن هذا هو ما حصل فعلاً.
إذاً، فالحاء الأولى كانت كافاً في الأصل. أما الحاء الأخيرة، فنجد في مقابلها في أغلب الصيغ اليونانية ما يوحي بعين أو همزة أو ياء مشدّدة (الكسيّا). وهذا يعني أن صيغة ابن النديم يجب أن تكون: «الكسع» أو «الكسي» أو «الكسيء» أو شيئاً قريباً من هاتين الصيغتين. وفي هذه الأحوال كلها، فإن الصيغة اليونانية ستكتب الحرف الأخير ياء، ذلك أن حرف العين غير موجود في اللغات الهندوأوروبية. وعند الذهاب إلى العربية، فسوف نجد أن جذر «كسأ» هو تنويع على جذر «كسع». فكلاهما يعطي معنى التأخر والتبعية: «الكسع: أن تضرِب بيدك أو برجلك بصدر قدمك على دبر إِنسان أو شيء» (لسان العرب). يضيف: «وردتِ الخيول يكسع بعضها بعضاً... وقيل: كسعه إِذا همزه من ورائه بكلام قبيح» (لسان العرب). يزيد اللسان: «كسء كل شيء وكسوءه: مؤخّره. وكسء الشهر وكسوءه: آخره» (لسان العرب). ويقول الجوهري: «كَسَأته: تبعته. ويقال للرجل إذا هزم القوم فمر وهو يطردهم: مر فلان يكْسَؤهم ويَكْسَعُهم، أي يتبعهم. والأكساء الأدبار» (الجوهري، الصحاح).
وهكذا، فالجذران تنويع على بعضهما في المعنى، وهما يعطيان معنى التأخر والتابعية. بالتالي، يمكن للاسم «الكسيا» أن يكون «الكسيع» أو «الكسيء» وبالمعنى ذاته. واعتقادي أن صيغة ابن النديم كانت بالعين في الأصل، أي «الكسيع، الكسع» ثم حرفت إلى «الحسيح». والاسم «الكسيع، الكسع» يضعنا في قلب الميثولوجيا العربية، وفي قلب ديانة العرب قبل الإسلام. فلدينا إله عربي معروف يدعى «الكسعة»، وإن كانت المصادر العربية لا تقدم لنا عن طبيعته شيئاً تقريباً. يقول «لسان العرب» عن الكسعة «وثن كان يُعبد» (لسان العرب). يضيف الزبيدي: «والكُسْعَةُ: اسمُ صَنَمٍ كانَ يُعْبَدُ» (الزبيدي، تاج العروس). ويقال: تكسع في ضلاله انطلاقاً من اسم هذا الصنم على حسب بعض القواميس العربية. إضافة إلى ذلك، فهناك حي من قيس عيلان اليمن يدعى «الكسعة» و«الكسع» بالجمع. ويبدو أن اسم هذا الحي أُخذ من اسم هذا الإله، وهو ما يعني أن هذا الحي كان من عباده في وقت ما. ونحن نعلم أنّ كثيراً من القبائل تسمّي نفسها بأسماء آلهتها، فيصبح الإله ذاته جداً للقبيلة. والكسعة صيغة مبالغة من الجذر كسع. بالتالي، ربما تكون صيغة هيبوليتس Elchasa هي الأقرب إلى الصيغة العربية. فهي توحي بأنها نقل حرفي لكلمة: الكسعة alkas’a. أما صيغة الكسيا Elksai فربما كانت مأخوذة من الكسيع ‘alkasī.

الكسعة والحمار
ويبدو أن الإله الكسعة على علاقة بالحمار. أي أن الحمار هو تجسيده الحيواني. يؤيد هذا بقوة أن الحمير ذاتها، أو الحُمر البرية السائمة، تدعى في العربية: الكسعة: «الكسعة: الحمر السائمة» (لسان العرب). وجاء في حديث نبوي: «ليس في الكسعة صدقة». والغالبية على أن الكسعة هي الحمير: «قال أبو عبيدة: «الكسعة: الحمير» (الأزهري، تهذيب اللغة). وعدم لزوم الصدقة عن الكسعة يوحي بسبب ديني. لكن الأهم أنه حين يتشارك حيوان وإله في الاسم ذاته فإن من المنطقي أن نفترض أن هذا الحيوان هو حيوان الإله.
أكثر من هذا تخبرنا المصادر العربية أن الكسعوم هو الحمار بالحميرية: «الكسعوم: الحمار، بالحميرية. ويقال: بل الكسعوم، والأصل فيه الكسعة، والميم زائدة» (لسان العرب). وهناك شخصية شهيرة في الأدب العربي القديم باسم (الكسعي) على علاقة بحمير الوحش على وجه الخصوص:
(الكسع: حي من قيسِ عيلان، وقيل: هم حي من اليمن رماة. ومنهم الكسعِي الذي يُضرب به المثل في الندامة. وهو رجل رام، رمى بعدما أسدف الليل عيراً [حمار وحش] فأصابه وظن أنه أخطأه فكسر قوسه، وقيل: وقطع إِصبعه، ثم ندم من الغد حين نظر إِلى العير مقتولاً وسهمه فيه، فصار مثلاً لكل نادم على فعل يفعله؛ وإِياه عنى الفرزدق بقوله: ندمت ندامة الكسعِي، لما/ غدت مني مطـلقة نوار... وقيل: كان اسمه محارِب بن قيس من بني كسيعة أو بني الكسعِ بطن من حمير» (الخليل بن أحمد، العين). هذه القصة تبدو قصة دينية ما، ويبدو (الكسعي الصياد) كما لو أنه على علاقة بكهانة ما للإله الكسعة.
إذاً، فهناك صنم- إله يدعى: الكسعة أو الكسيعة. وهناك قبيلة تدعى (كسع، كسعة، كسيعة). يوحي اسمها بأنها من عباد هذا الإله. فجزء كبير من آباء قبائل جزيرة العرب هم آلهة في الواقع. ثم هناك رجل من هذه القبيلة يدعى (الكسعي) له علاقة بالحُمر الوحشية يدعى (الكسعي)، ربما كانت مهمته كصياد لحمير الوحش ذات طابع كهاني.

الأسينيون
وهنا فرقة دينية في فلسطين باسم: الأوسيانيين Osssaeans. وقد ربط أفيفانيوس هذه الفرقة بفرقة الكسيئيين (الكسعيين): وأخبرنا أن الأوسيانيين وفرقة أخرى سماها Sampsaeana وترجمها على أنها تعني «الشمسيين». فرقتان قريبتان من بعضهما، ابتعدتا عن اليهودية واتبعتا مبادئ الكسيئيين. ومن الواضح أن الأوسيانيين هؤلاء هم الأسينيون الشهيرون Essenes . وإذا كان «الكسعيون» مرتبطين بالحمار، فليس غريباً أن يكون إله الأسينيين أيضاً مرتبطاً بالحمار. والحق أن اسم الأسينيين يعني: الحميريون. فالحمار يدعى asinus باللاتينية.
الإله الكسعة على علاقة بالحمار أي أن الحمار هو تجسيده الحيواني


وفي رواية «الحمار الذهبي» للوكيوس أبوليوس، فإن اسم كاهن أوزيريس كان أوسينوس، أي الحمار: «وعندما قدّمت للإلهة صلاتي الصباحية، نظرت إلى كل واحد، علّني أجد قدمه تشبه قدم الشخص الذي رأيته في حلمي. وسرعان ما تأكد ذلك. فقد جلب انتباهي فوراً واحد من بين الكهنة، كان مطابقاً للشخص الذي تراءى لي ليلاً مطابقة تامة زيادة على العرج في رجله. وكان اسمه، كما علمت في ما بعد أسينوس (الحمار) ماتيكيلوس. ولم يكن الاسم عديم العلاقة بتحولي» (لوكيوس أبوليوس، الحمار الذهبي، ترجمة د. أبو العيد دودو، الدار العربية للعلوم، الطبعة الثالثة، بيروت، 2004، ص 231). أي لم يكن الاسم عديم العلاقة بتحول بطل الرواية إلى حمار. فالقصة كلها تقوم على أن البطل كان يريد التحول إلى طائر، فتحول بالخطأ إلى حمار: «كنت غاضباً جداً على فوتيس التي أرادت أن تجعلني طائراً، فحوّلتني إلى حمار» (الحمار الذهبي- لوكيوس أبولينوس).
إذاً، فالكسيا (الكسيع) في نهاية الأمر إله يتجسّد في حمار. كما أن كاهنه البشري يحمل الاسم ذاته. فكما يكون الإله يكون كاهنه. وهذا يغير كل شيء. وهو سيغير حتى فهمنا لنقش ألكسامينوس Alexamenos graffito في تلة البالاتين في روما. فـ«ألكسامينوس» في النقش مرتبط بحمار مصلوب. وإلكسامينوس اسم مركب من اسمين: ألكسا، أي الكسيع، ومينوس الذي يبدو تحريفاً للاسم (ماني) نبي المانويين. بالتالي، فلا يمكن للاسم ألكسامينوس أن يكون قد وُجد قبل أن يربط المانويون أنفسهم بطائفة الكسيئيين (الكسعيين). بذا فالاسم الذي ليس له وجود في اللغة اليونانية أصلاً، ليس إلا انعكاساً لاندماج الطائفتين في حدود القرن الثالث الميلادي.

* شاعر وباحث فلسطيني