يحضر كتاب «إسماعيل باشا» (هاشيت أنطوان/ نوفل) لكاتبه الصحافي الفرنسي روبير سوليه (نقله إلى العربية أدونيس سالم)، بمثابة تأريخ لإحدى الشخصيات الأكثر إشكاليةً في التاريخ المصري. وإذا كان بعضهم يرى في محمد علي باشا (جد إسماعيل) والد مصر الأول (وإن كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والد مصر ومشروعَي تأميم القناة والسد العالي، بالتالي والد مصر كما نعرفها اليوم)، فإن إسماعيل ـــ بحسب الكتاب وكثيرين ــــ يستحق أن يضاف إلى ذات المقام والمركز والدور. يأتي إسماعيل باشا، بوصفه الرجل الذي افتتح عصر التعليم (أمر علي مبارك بوضع قوانين للتعليم)، والحياة الديموقراطية في مصر (من خلال تأسيس مجلس شعب منتخب من الشعب)، واهتم بالفنون (أنشأ دار الأوبرا المصرية)، واستخدم سكة الحديد للبريد والرسائل، وجعل لمصر «نظاماً» قانونياً رسمياً.

إنه كتاب سيرة يروي حياة إبراهيم باشا «الخديوي المجيد» و«القائد العظيم»، كما يسميه محبوه.... الرجل الذي بنى مصر بالنسبة إلى كثيرين، فيما رآه آخرون بمثابة الكارثة التي حلّت على مصر جرّاء إنفاقه الملايين على مشاريع فاشلة، وهزائم عسكرية مذلّة، وطموحاتٍ لا طائل منها. أمر أدى بالسلطان عبد الحميد الثاني إلى عزله في نهاية المطاف. «من بين كلّ الذين خلفوا محمد علي في الحكم، لا شك في أن إسماعيل كان أكثرهم طموحاً ونشاطاً واتقاداً»، فهو قد رأى في أبيه إبراهيم وجدّه محمد علي الرجلين الأكثر قوةً ومهابةً؛ ما دفعه إلى صناعة تمثالين كبيرين لهما على صهوة جواديهما على الرغم من معارضة رجال الدين لذلك. كان إسماعيل باشا محبوباً شعبياً، قد رأى فيه المصريون، بحسب المراحل المختلفة، ضحيةً للإمبريالية الأوروبية أو تركيّاً بيع للغرب. على أي حال، يبقى لقب «الخديوي» أكثر التصاقاً بإسماعيل دون غيره، فهو أوّل من نال اللقب، وأوّل من مارس الوظيفة مع ما تفترضه من هيبة واستقلالية، وفي عهد لم تترك مصر أفريقيا لتلتحق بأوروبا كما كان إسماعيل يؤكد أو يحلم، ولكن لا شكَّ في أن مصر انتقلت في عهده من حقبةٍ إلى حقبة وفق الكتاب.
يتألّف الكتاب من ستة وعشرين فصلاً، تتناول مراحل حياة إسماعيل باشا؛ ابتداءً من اللحظة التي وصل فيها إلى الحكم وصولاً إلى لحظة عزله: «إنه رجل عاقل، منهجي وصبور، لا يشرع في أمرٍ إلا بعد أن يشبعه تفكيراً، وحين يقر رأيه على فكرة، فهو يتشبث بها». ينقل سوليه هذا الكلام عن أوغست مارييت، مدير مصلحة الآثار المصرية في فترته. هذا الرجل الصبور العاقل، بدأ حكمه بالكثير من التحديات، بدءاً من الديون الثقيلة التي خلّفها له والده سعيد باشا، و«التي تقدّر 279 مليون فرنك (و 88 مليون فرنك بدل شراء أسهم في قناة السويس)»؛ وصولاً إلى وباءٍ غريبٍ ضرب ماشية مصر بأكملها، فخلّف ملايين الحيوانات النافقة، ناهيك بوباء الكوليرا الذي جعله يقضي وقتاً من فترة حكمه على متن قاربه المعروف «المحروسة».
من يقرأ في تفاصيل الكتاب، يجد أنّ الخديوي بذل مجهوداً كبيراً صوب تحقيق تقدمٍ مصري، فأنشأ ثلاث شركات كبرى: «الشركة المصرية للملاحة»، «شركة التجارة المصرية» (تختص في تطوير السودان)، أما الثالثة فهي «الشركة الزراعية والصناعية في مصر». ولو أنَّ الشركات الثلاث فشلت في تحقيق أهدافها وكلّفت الدولة الكثير، إلا أن التفكير التقدّمي بهذه الطريقة، والإصرار على صرف الأموال على التطوّر والتطوير أفادا البلد بجميع الأشكال. يتحدّث الكتاب بصراحة عن وحشية ما حدث في قناة السويس، وكيف أنّها كانت مصدر عذابات لا نهائية للمصريين، وخصوصاً عمّال السخرة الذين كانت اتفاقية قناة السويس «تجبر الدولة المصرية على تأمينهم بحسب حاجات مدير القناة فردينان دو ليسيبس» بحسب الكتاب؛ «رسمياً كانت الشركة مصرية، ومقرها الإسكندرية، لكنها في الواقع أديرت من باريس، وكان مهندسوها فرنسيين، وكذلك معظم مساهميها. أما عمّالها، فقد كانوا من الفلاحين المصريين الذي طُبِّقَ عليهم نظام السخرة».
يشير الكتاب إلى أنّ عددهم قد بلغ نحو ستين ألف عامل في أقل من عامٍ واحد، مضيفاً أن اقتلاع هذا الكم الهائل من العمال/ الفلاحين من أرضهم في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة هو رقم كبير للغاية. كل ذلك لم يغيّر طبيعة العلاقة التي جمعت بين دو ليسيبس والخديوي، فقد كانت جيدة إلى درجة أن المهندس الفرنسي نفسه أصر على تسمية المدينة الجديدة التي كانت تقام على ضفاف القناة آنذاك باسم «إسماعيل» لتصبح الإسماعيلية «تذكيراً بهذا الوالي العظيم الذي سيواصل مشروعنا العظيم حتى نهايته». هذا الأمر الذي حدث على الرغم من فداحة ما دفعته مصر والشعب المصري من أثمان، حقّق نجاحاً كبيراً. وكان الاحتفال بافتتاح القناة الذي كانت نجمته الإمبراطورة الفرنسية أوجيني، زوجة نابليون الثالث الذي لم يأتِ إلى الافتتاح لأسباب صحية و«أوبرا عايدة» التي لحنها الإيطالي الشهير فيردي وألّفها ميريت باشا عالم المصريات الفرنسي المعروف.
اعتبره بعضهم ضحيةً للإمبريالية الأوروبية أو تركيّاً بيع للغرب


على جانب آخر، «ناضل» إسماعيل باشا في مواجهة السلطنة العثمانية: لقد كان أخوه مصطفى طامحاً في وراثته، لكنه -أي إسماعيل- يرغب في توريث ابنه. هذا التوريث لم يكن ليحدث من دون رضى السلطنة، لذلك كلفه ذلك مراراً إرضاءها من خلال إرسال ثمانية عشر ألف جندي مصري إلى جزيرة كريت -كمثال- لتأديبها، أو دفع مال وفير للعرافين والمنجمين الذي يعرف بأن السلطان عبد العزيز الأوّل ووالدته يحبانهم ويصدقان ما يقولونه لتأييده عندهما وإعطائه اللقب الذي يحلم به منذ بدايته أي «عزيز مصر». لكن لأن اسمه عبد العزيز، رفض السلطان العثماني الأمر جملةً وتفصيلاً، فكان اللقب هو «الخديوي» الذي كان «بعض الكتاب الأتراك يستعملونها للإشارة إلى السلطان... وتعني السيّد أو المولى أو الملك». لقب الخديوي لم يأتِ وحيداً، «فقد نال الحق بإدارة مالية مصر حسبما يشاء، وسك عملة خاصة به وإبرام اتفاقيات مع البلدان الأجنبية، ولو لم ترتق إلى درجة المعاهدات».
هو كتابٌ تأريخي يروي سيرة وإن كان على شكل قصةٍ بتواريخ متلاحقة. وقد حاول الكاتب أن يغوص في عوالم شخصياتٍ صنعت التاريخ الحالي لمصر والشرق الأوسط بشكله الحالي.