في كتابه «استراحة بين شوطين- عن كرة القدم أثناء الحرب اللبنانية 1975-1990» (المتوسط)، يلتقي فوزي يمّين مع الآخر له، يصافحه، ومن ثم يبدل معه اليد، فيكتب فيها ما سبق أن كتبه في محاولات متقطّعة، خافتة، تُوّجت على الرغم من ذلك، بطابعها السريالي في القسم الثاني (السردي) من ديوانه «كلاب العزلة» (2007). في عمله الجديد، تنكشف، مع يمّين، مقولة رامبو «أنا هو الآخر» حيث العبور يجيء بوساطة السرد. العبور عنده هو انتقال وليس تحوّلاً، يبدأ بالبتر مع الحاضر والدخول في منطقة بينيّة أسماها استراحة، ما يعني أنه لجم الزمن وقرّر الركود والتريث. سنجد أن استراحته ليست هدوءاً بل فسحة فائضة بنوستالجيا تجاه تجربة غابرة، لا تخلو من الأحداث والحركة، وأحاسيس تطوف وتخبو. عبوره، أيضاً، هو تبنٍّ لوجهة من دون التخلي عن أخرى، أي أن بوحه الآتي في كتابٍ مصنَّف ضمن أدب اليوميات، ليس انحلالاً لشعريته إنما ممارستها بحرية أكثر، في نثر مطاط، متفلّت، لا تحدّه كثافة الشعر. الأخير قرّر أن يدع الشعر جانباً وأن يسرد وقائع تخص الشاعر نفسه. كأنه ارتأى أن السرد باعتباره نمطاً كتابيّاً سيّالاً جريانه يشبه جريان الكرة، يمكّنه من الإفصاح بطلاقة عن أحواله، بالتالي، يتيح له إظهار ذلك «الآخر له»، أي فوزي يمين اللاعب وليس الشاعر، فتركنا نشاهد لعبه الحر بحماسة ونقرأه كفرجة صافية غير آبهين بالمجاز بل بما يصلنا منه من أخبار وقصص.

ربما تعمّد يمين أن يُظهر الجانب الآخر الكامن فيه لنلقاه نحن، فنقرأه سارداً مسهباً وحكواتياً ممتعاً، وليس شاعراً ساخطاً كرّس قصيدته لموضوعات تخص العابر، والمعطل، والمنكسر. ثمة انعطافة تخص غرض الكتابة مرافقة للأسلوب في تجربة يمين السردية. هناك ترميم للذاكرة بدل الاشتغال على ما هو تالف، وهناك بناء مدفوع بغاية وقصد بدل المجانية التي قامت عليها قصيدته. سرد يمين في عمله هذا جائع. السارد يريد أن يكتب عن كل شيء أو فليكن صمتاً. كأنّ اليد التي يكتب بها تمارس سلطتها عليه، تقوده، تجرّه، تحوّل النص إلى ما يشبه الثقب الأسود بحيث يصير الإفلات من الكتابة ومقاومة انجرافها أمراً غير ممكن. يبدو السارد مثل حبيب بقي وفياً لحبّه بعد مضي عمر على الفراق، متعلّقاً بتجربة مضت، عاجزاً عن الانفكاك منها. وعندما يتكلم ـ وفي حالة يمين عندما كتب ــ يبدو شاعرياً للغاية. غير أن شاعريته في نهاية المطاف، هي ملاذه الآخر، لأن الكتابة عن التجربة تعني القطيعة معها. والحال، أن القطيعة عند يمّين لا تعني انطواء التجربة في طيّ النسيان أو تعمّد محوها، إنما هي تدوين ومعاودة قولها، ليكون المراد من القطيعة خلق حالة انصهار ومواءمة بينه وبين ذلك الآخر له ينجزه فعل الكتابة.
على أن لقاء يمين أو التقاءه مع الآخر له، لا يتوقف عند الحدّ الأسلوبي إنما يطاول الموضوع. بل إن موضوع كتابه هو شغله الشاغل. العنوان «استراحة بين شوطين» يحيلنا إلى فهم تموقع يمين وشيء من مزاجه. بما أن الزمن يجري، نعلم أنّ الشوط الثاني جاء شعراً، أو هو كذلك. هو بطاقة تعريف صاحبه: فوزي يمين الشاعر. أما الشوط الأول، فلم نكن نعلم بوجوده، ولم يكن في حسباننا أصلاً لو لم يقسم الأخير زمانه. وفيما الاستراحة بين شوطين تعني دخول غرفة تغيير الملابس فتغيير الخطط أو التعديل عليها، فهي تعني مع يمين الدخول إلى حيّز شخصي خاص، فاستبطان أحواله وتقمّصها. المستريح متريث من هموم الشعر وتجتاحه رغبة بالدردشة والإخبار. على هذا النحو، يركض كاتب «القمر فوتبول... شوط» (المستلقي على طابقه السفلي) نحو الإفصاح الذاتي حيال أوقاته في شوطه الأول، فيسرد لنا تجربته كلاعب كرة قدم نشأ في ظروف سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، لنستقي من هذا السرد بعضاً من الذي صنعه شاعراً والكثير من متعة القراءة. بيد أن العنوان جاء مذيّلاً بإيضاح ليس في مكانه «عن كرة القدم في سنوات الحرب الأهلية 1975-1990» حتى يكاد يخطر في بال أحدنا أنّ الكتاب عبارة عن دراسة سوسيولوجية تخص كرة القدم وليس سرداً غزيراً عن أحوال لاعب كرة قدم في تلك السنوات.
«استراحة بين شوطين» سبر لأغوار الذاكرة وتطويع الكتابة كأنها خارجة من رحم كرة القدم. يعود فوزي يمين 40 عاماً إلى الوراء، إلى أيام مقاعد الدراسة وأحوال الملاعب وحواجز أهل الحرب وعرّابيها، ليحكي لنا بانسيابية الشغوف بحكايته، أخباره وأخبار كرة القدم، اللعبة التي بفرط حماسته للكتابة عنها لم ينتظرنا لنستنتج أنها كانت حياته، بل صرّح عنها منذ البدء في الصفحة الأولى المخصّصة لإهدائه (لابنه جاد). وطأة هذه اللعبة ثقيلة على كاتبها. كرة القدم، ولغتها، تنتصران على يمّين. يعلم الأخير أنها لعبة شعبية، ممارسة يعتنقها الكل، وشأنها هذا سينسحب على كتابته، أي أعلى لغته، فنراه متخفّفاً من استعماله لأدواته المجازية، واضحاً كخط التسلسل، مسترسلاً لكن بانضباط، بأسلوب يتماهى إلى حد الامّحاء مع طريقة لعبه: سيطرة على الإيقاع: «أعتقد الآن أنّ الكرة تشبهني أكثر من الشجرة. الكرة تأخذ وتعطي. أطلبها فأجدها. تصغي لي وأفهم لغتها. أفكر كيف عليّ أن أمررها لتتسبب بتسجيل هدف. وأسدّدها، فتدخل في المرمى». جمل قصيرة كتمريرات لاعبي خط الوسط وجمالية فنية تنسلّ من المناخ الواقعي المسرود، تتيح للقارئ اكتشاف المنابع الشعرية التي كوّنت يمين وصقلت أدبيته. فإذا كانت الغاية من السرد هي الفضح وإماطة اللثام عن المطموس، فالفاضح ساعد على تأكيد الشبهة.
تطويع الكتابة كأنّها خارجة من رحم كرة القدم

يعطينا يمين الخيط «اللعب والكتابة، والاثنان بحاجة إلى موهبة أولاً» نمسكه، نتحسسه، فنجد بملمسه هيئة الشاعر الخارج عن القصيدة. يغدو الملعب عند يمين فضاءً حقيقياً يُمارَس فيه الشعر، ويدنو من أن يكون مكمن انبثاق القصيدة أو صفّارة انطلاقتها. فالسرد هنا يفضح صلة القربى بين الشاعر وشعره، ويزودنا بدليل قاطع أن اللاعب في متن ملعبه لا يختلف عن الشاعر أمام قُصاصة ورقه. اللاعب هو نفسه الشاعر والعكس تماماً. في أحد المقاطع، يقارن يمّين بين الكتابة وكرة القدم «وتكون التسديدة عادة منخفضة غير عالية تماماً مثل كتاباتي. كتاباتي إفصاح خفيض. أرهق الكرة وأنا أركلها. أرهق الصفحة وأنا أكتبها». يأخذ يمّين على عاتقه التعريف بالكتابة، أو الكتابة عن الكتابة، ويبرزها على أنها تماه مطلق مع طريقة لعبته، بيد أن ما أفصحت عنه ذاكرته، يكشف لنا المخبوء، وهو الفصل الثاني من القصة، أي الشاعرية التي امتاز بها كلاعب. فالأحداث المسرودة بلقطات مشهدية (من حيث أنا جالس أمام المقهى المقابل للمكتبة أرى الانفجار قبل سماع صوته بثوان معدودة. النار تهبّ والسيارات تعلو)، والحساسية المفرطة تجاه مفارقات نافرة اجتذبته (نتعاطف دون أن نقرر مع اللاعب الفردي الذي يخرق اللعبة، يزلزل نظامها وقوانينها وحساباتها على مرأى الجميع. نتعاطف معه لأنه يلبي رغباتنا وأمنياتنا بخرق النظام، النظام الذي لا نستطيع نحن خرقه في بلداننا الفقيرة المقموعة) عناصر مكمّلة لما يشترطه الشاعر. فما يُشكل جوهر الشعر هو ما يثير العين والغرابة التي تعتمل داخل الشاعر الذي يمتهن اللعب داخل أسوار الدهشة التي تأسره. لا تكتمل استراحة فوزي يمين من دون إنهاء شوطه الأول. كأنّ وداع كرة القدم لا يصير سوى بالكتابة عنها، وتأريخ مرحلته معها. وها قد انتهى الوقت الفاصل، بات بإمكاننا، على الأرجح، قراءة الشوط الثاني بعيون أكثر تفحّصاً.