يشكّل ديوان «تفاح» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) للشاعر سلمان زين الدين مفتتحاً إشكالياً وعنواناً لافتاً في مقاربته قصّة/ أسطورة آدم وحواء. فهو، في تداولاته وتحكيكاته نصٌّ متجاوز، ينكشفُ وينحجبُ في آنٍ. وحين تقرأ في تضاعيف سطوحه، تأخذك الصفحات والحواس إلى سهول الخطيئة، وإلى شجرة النار المتوقّدة منذ البدء، وإلى الثمرة المشُتهاة والمحرّمة في آن. وفي ذلك دلالاتٌ تحيلُ إلى مسألةِ الخلق والإبداع والوجود، وإن كنتُ أتحفّظ على بعض الأساطير، فـ«الأسطورة في عمقها وهمٌ ينبغي تبديده وفضحه» بحسب رولان بارت، لكبحِ جماحِ الثّقل الحاسم للتّاريخ، في حين تنزاح أسطورة الخلق عن معنى الخطيئة والتّوبة إلى معنى الإبداع والقدر الجميل.

على مرّ الأزمنة، اكتسبت التفاحة دلالات متعدّدة، وارتبط اسمها بالمرأة (ظلماً) دون الرجل منذ حوّاء المتمرّدة الثانية بعد ليليت، والمنتصرة على عنجهيّة الرجل وذكوريّته، لا الخاطئة التي سبّبت «الشقاء» الدائم لبني البشر... منذ حواء إلى فينوس إلى بوبون إلهة الفاكهة في الميثولوجيا الإغريقيّة، إلى أتلانت التي اشترطت على مَنْ يتزوّجها أن يسبقها، فمَن سبقتهُ قتلتهُ، إلى أن جاء لسباقها شابٌّ يُدعى ماهان، فكانت كلّما سبقتهُ رمتْ خلفها تفّاحة وعادت لالتقاطها إلى أن تمكّن الشّاب من أن يسبقها فتزوجته... وصولاً إلى مريم العذراء التي تضعُ تفّاحةً في يد ولدها الجالس في حضنها، مروراً بفينوس وأفروديت التي تسبّبت تفّاحة ذهبيّة من دون قصد في حرب طروادة؛ فقد كان على «باريس» الشّاب أن يختار أجمل إلهات الحفل ويعطيها التّفاحة الذّهبيّة المكتوب عليها «إلى الأجمل» من بين أفروديت وهيرا وأثينا. واختار أفروديت من بين الجميلات الثّلاث التي وعدته بدورها أن تقدّم له أجمل امرأة في أثينا، وكانت المرأة الموعودة هيلين زوجة ملك أسبارطة التي اختطفها الشاب باختطافها، ما تسبّب في حرب طروادة الشهيرة.
والتّفاح أكثرُ فاكهة محاكاةً للحبّ، وهي ترمزُ إلى الخلود والسّلطة، وأشهرها التّفاح الذّهبي الموجود في حديقةٍ تحرسها فتيات رائعات الجمال، هنّ، بنات أطلس. ويعرض هِرَقل على أطلس أن يحمل عنه العالم مقابل أن يذهبَ الأخير لقطفِ التّفاح الذّهبي. يقبل أطلس العرض للتخلّص من العقاب بعودته سعيداً بالتّفاح، ثمّ يطلب منه هِرَقل أن يحمل العالم مجدّداً ريثما يعود، فيقبل، لكنّه يكتشف أن هِرقل خدعهُ ولم يعدْ، وفرَّ بالتّفاحات. وحين أرادت إحدى الجواري أن تتودّد إلى الخليفة المأمون، بعثت إليه تفّاحة مصحوبة برسالة تقول فيها: «إذا وصلتْ إليك فتناولها بيمينك، واصرفْ لها يقينك، ولا تخدشها بظفرك، ولا تبعدها عن عينيك، ولا تبذلها لخدمك، فإذا طال مقامها بين يديك وخفتَ أن يرميها الدّهر بسهمه فيُذهب بهجتها، فكُلها». وأظن أنها بذلك كانت تقصد نفسها. وفي حكاية شعبيّة أن الشّمس تشرقُ من تفّاحة مسحورة، وأن تقاسم تفّاحة بين ذكرٍ وأنثى يعني عرض الزواج، وقد وضع الله التّفاح والحور العين في كفّةٍ واحدة جزاءً للصّالحين.
إذا كانت تفّاحة قد تسبّبت بكل هذا الشّغف، فكيف بـ«تّفاح» في صيغة الجمع؟ هذا الديوان فيه من الشّجن الخافت والمعاناة الدافئة وحمرة التّفاح والأجساد البضّة ما ينطبق على هذه التّسميّة من باب تسمية الكل بِاسْم الجزء، فالعناوين تنزاح من دلالة إلى أخرى، وفي كلّ مرة تحاذي جدار الأسطورة وتحايثها بحيث تنفرد العناوين وتتخلّص من السياقات المحيطة بها لخدمة الأسطورة. تتزيّن النّصوص بلازمةِ الانتظار على قارعة الزمن، فالشاعر يُلقمُ قصائده حطبَ الرّوح لتعويضِ الخساراتِ الوجوديّة (المواجع، العمر، الشّباب، الجناح، القيم...) ويطلقُ كلماته معقّمة، مطيّبة، متعفّفة، وهو الطّاعنُ في التّعفّف حتى الانخطاف. وحين يبحثُ عن ذاته الملتبسة بين هذه السّياقات، إنّما يبحثُ عن هويّة، شأنه في ذلك شأن المولودين لغيرِ أزمنتهم، لأن الهويّة شأن متغيّر يختارها الإنسان كما يختارُ مكان إقامته كما يقول أدونيس.
في قصيدة «ليل» تتجلّى الغربة بأبهى صورها. يكرّس الشّاعر اغترابه من خلال الشخوص المتعدّدة، كاشفاً عن قسوة الانفصال عن المتخيّل المطلوب، فيعرضُ معاناتِه على قارعة المنافي؛ فلا «هاتفه يصحو من سباته، ولا قنديلهُ ينام، ولا فجرهُ قادم» (ص 89)، وهذه الشّواهد أقنعة تُخفي خلفها حزناً عميقاً، وإحساساً باذخاً بالغربة. وإذ يقفُ على ساحل العمر، فإنّه يتطلّعُ إلى رفيقٍ أو وردةٍ أو فتاة شعرٍ تطارحهُ الغرام، أو وجه إنسانٍ يمنحه معنى وجوده. وكثيراً ما يُسقطُ على شخصهِ حمولاتٍ من عوالم أخرى، ويراكم المشاهد واللقطات كي يمنحها فرصة المناورة ومنافحة هذا الهجوم الشّرس، فيهرب إلى الغابة (ص93)، غابة الكلمات التي يفيء إليها من ظلم الزمان وقسوته وعزلته ليفضي إليها بسرٍّ دفين، ويقف بين يديها وقفة العائد المنكسر الذي استقرأ الأماكن والفصول، فلم يظفر بغير الرّيح وشمس الهجير، وبرد الصّدور، ولا يخفّف من معاناته هذه سوى الشّعر يُلهبُ في روحه عرائس الخيال التي افتقدها في الواقع.(ص 95).
التّفاح أكثرُ فاكهة محاكاةً للحبّ، يرمز إلى الخلود والسّلطة


شخصيّات ديوانه متحرّكة يتوارى خلفها، ويُشرعُ أبوابها على الحياة بكل جوانبها وتناقضاتها. وإذ تبدو هذه الشّخصيّات لصيقة بالمعاناة، فإن الشّاعر يحاول استنطاقها بوصفه السّارد لمعاناتها وغربتها، والراوي الذي يحيا معها ويعايشها بتفاصيلها كلّها مُوظّفاً حركتها في خدمة قلقه الوجودي وشعوره بالخيبة والاغتراب. وهناك بانوراما الرؤى المتداخلة، والأحاسيس المشبوبة، وهناك التّجربة التراجيدية التي نضجت في مِصهر المعاناة، وهناك الخطاب التّداولي البراغماتي الذي يفتقر إلى الكثافة بوصف اللغة كائناً يعوم على بحرٍ من المجازات التي تجنّب الشّاعر الخوض في غمارها كي لا يحرقَ أصابعه في حفلة النار هذه، وليقينه أن كل ما يجري حوله وهمٌ وسراب. (ص 36)
ديوان «تفاح» يشبه شاعره مع فارقٍ أن الشّاعر واحدٌ في التّعدّد، والقصائد تتعالقُ في مستوياتٍ متعدّدة، والمفردات تتجاوز الواحديّة إلى خطابٍ متعدّد الوظائف، فالطبيعة الإسفنجيّة للّغة تكنزُ المكشوف والمستور من دلالاتٍ ومعانٍ، وبين انكشاف المعنى وانحجابه تتوزّع الكلمات. لذلك، من المفيد أن ننظر إلى الخطاب الأدبي وفق مستوى التجديد والإبداع فيه، وهذا ما فعلناه في مقاربة هذا الديوان.