اختيار وترجمة وتقديم: تحسين الخطيب
تحيا قصائد تشارلز سيميك (1938-2023) على الحافَّة، في الحواشي، وعميقاً حولها؛ في التُّخوم، دائماً، وعليها: «حيث كلُّ شيءٍ يترنَّحُ على حافَّة كلِّ شيء». على ذلك الحَرْفِ المعلَّق بين الزَّمن والتَّاريخ، وبين الزَّمن والأبديَّة. كما لو أنَّ اللغةَ، في جوهر وجودها المُعيَّن، حالةٌ مؤقَّتة لما لا يُوصَفُ أو يُقَال. كما لو أنَّ القصيدةَ، في كينونتها الدَّائخة، ليست سوى ذلك الصَّوت الهامس الذي نسمعه، عميقاً، في آخر اللَّيل. القصيدةُ-الظلُّ التي هي كلُّ شيء آخر. كلُّ ذلك الذي لا يتحقَّق إلَّا بأخرويَّة ما سواه. الأنا الغنائيَّةُ في مواجهة العالَم، بأقصى طاقاتها، ضدَّ شروره وفوضاه. كما أنَّ موضوعة الشِّعر، عند سيميك، هي «موضوعة الشِّعر في زمن الجنون»: أن «يُذكِّر النَّاسَ بمخيِّلتهم وإنسانيَّتهم». وليس الشَّاعرُ، عنده، سوى «ميتافيزيقيٍّ في الظَّلام». شاعرٌ يسعى، بالنَّظرة غير العاطفيَّة التي يمتلكها عن العالَم، إلى كتابة قصيدةٍ دنيويَّة أبديَّة؛ قصيدةٍ تتقبَّل التراجيديا، تلك «الكآبة اللَّذيذة»، تعيش فيها، ثُمَّ تمضي قُدماً. الواقعيَّة المتجهِّمة التي تُحوِّل التراجيديا إلى نوعٍ من الشِّعْر الذي هو السَّعادة: «السَّعادة القديمة وقد صارتْ سعادةً جديدة». تشريح الكآبة الذي يُفضي إلى الغُرَف الجوَّانيَّة للنَّفْس التي تَرى. وثمّةَ نظرةٌ مزدوجةٌ في القصيدة التي يكتبها سيميك. من المُتخيَّل والعاديِّ. عوالم سرياليَّة يتصادم فيها الميثولوجيُّ بالمُبتذَل، ويتصادم فيها اليوميُّ بما هو وراءه: يغمض الشَّاعرُ عينيهِ، على قَدْر استطاعته، «كي يرى العالَم على نحوٍ أفضل». كما أنَّ الهَزْل والظُّرْفَ وحضورَ البديهة والتهكُّمَ سماتٌ أساسيَّةٌ في بنية المشروع الشعريِّ الذي يشتغل عليه؛ لأنَّ «الهَزْل، كالشِّعْرِ، مُنتهِكٌ ومُحرِّضٌ». ولا يكفُّ تشارلز سيميك، في قصائده، عن العودة إلى أماكن طفولته، كأنَّه ما زال يحيا هناك. كأنَّ القصيدة، في حدِّ ذاتها، هي «فردوسه المفقود»، أو، بالأحرى، «إيثاكاه» التي يحرص على أن تظلَّ ماثلة في ذهنه. كأنَّه قد كُتب عليه أن يصل إلى هناك، كما يقول كفافيس في قصيدته ذائعة الصِّيت. لكنَّ تلك العودة أشبه ما تكون بالعزلة؛ عزلة المنفرد الذي يُطلُّ على نفسه من ثقب صغير في الذاكرة. عزلةٌ ليست هي عزلة الآخر— البعيد والقصيِّ والغريب والأجنبيِّ— بل هي تلك المرآة الوجوديَّة التي نرغب، نحن قرَّاء شعره، في القفز في أعماقها، وأن نكون جزءاً حيوياً من المشهد كلِّه. أن نفكك طبقات الصَّمت التي تلفُّ القصيدة، لنرى وجوهنا تشعُّ، بلا أيِّ أقنعة، ليس على السطح فحسب، وإنَّما عميقاً في وجود كينونتنا ذاته. أن نرى الكلمات، والصور الشعريَّة، والاستعارات، في كل أحوالها ومقاماتها، وقد أصبحت طريقاً منيراً، تأخذنا في رحلة «جوَّانيَّة»، لنعثر على المعنى؛ معنى وجودنا نحن. وجود الذي لا «يمتلك تاريخاً، بل نوستالجيا لا تنتهي». قِلّةٌ من الشُّعراء المعاصرينَ كانوا بمثلِ تأثير سيميك، أو في مثل فَرادته. وليسَ ثمّةَ، في أميركا اليومَ، شاعرٌ آخرُ يكتب بإحساسٍ عظيمٍ من وضوحِ الصُّورةِ، مثلما يفعلُ هُوَ




1. خوف
جاهلاً،
يعبرُ الخوفُ،
مِن شخصٍ إلى آخرَ،
مثلما تُمرِّرُ أوراقُ الشَّجرةِ رجفتَها
من ورقةٍ إلى أُخرى.

فجأةً ترتعشُ الشَّجرةُ كلُّها
ولا أثرَ للرِّيحْ.

2. قصيدة
تُغنِّي ابنتي الصَّغيرةُ في اللَّيلِ:
آه! آه! آه! آه!
لقد جاءت من أرضِ صَرَّاراتِ اللَّيلِ والمياهِ العميقةِ
وفي غنائها تعودُ.

3. الرِّيح
تلمسيني،
تلمسينَ الوطنَ الذي نفاكِ.

4. مزمور
لا بُدَّ أن تفهموا بأنَّني أكتبُ في اللِّيلِ ما أكتبُ
يطوِّقني نومُهنَّ مثلَ بحرٍ مُحيطٍ.
اسمُها مريمُ، أشدُّ النِّساءِ غموضاً.
هيَ غابةٌ، عندَ أوَّلِ الوقتِ تنتصبُ.
وأنا شخصٌ في ثناياها أرقدُ. هذا الضَّوءُ سائلُنَا المنويُّ.
الغابةُ عتيقةٌ، أعتقُ منَ النَّومِ،
واعتقُ من هذا المزمورِ الذي أنظمُهُ كُلَّما مضيتُ.

5. بطيخ
تماثيلُ بوذا خضراءُ
فوقَ بسطةِ الفاكهة.
نأكلُ الابتسامةَ
ونبصقُ الأسنان.

6. الأثداء
أُحبُّ الأثداءَ، الأثداءَ
المكتنزةَ، النَّاهدةَ، يحرسُهَا
زِرٌ وحيدُ.
تأتي في اللَّيلِ.
كتبُ القدماءِ عنِ الحيواناتِ الرَّامزةِ
التي تضمُّ وحيدَ القرنِ
أبقَتْها بعيداً.

لؤلؤيَّة هي الأثداءُ، كالشَّرقِ
قبلَ ساعةٍ من شروقِ الشَّمسِ،
لا شيءَ يستحقُّ العناءَ
سوى نهدَيْنِ أَتُونَينِ
لحجرِ الفلاسفةِ الوحيدِ.
تجلبُ حلماتِها؛
خَرَزَاتِ التَّنهيداتِ الخافتةِ،
حروفِ عِلَّةِ الوضوحِ اللَّذيذِ،
إلى مَدرسةِ أفواهِنا، المدرسةِ الحمراءَ الصَّغيرةِ.

وفي مكانٍ آخرَ، تُدوِّنُ العزلةُ
في دفترِ الأستاذِ
قَيْداً كئيباً آخرَ، والبؤسُ
يستقرضُ كُوباً آخرَ من الأرز.

تقتربُ الأثداءُ أكثرَ: حضورٌ
حيوانيٌّ. في الحظيرةِ
يرتعشُ في السَّطلِ الحليبُ.

أُحبُّ أن أصعدَ إلى النَّهدَيْنِ
مِن تَحْتٍ، كطفلٍ
يصعدُ فوقَ الكرسيِّ
كي يَطُوقَ جرَّةَ المُربَّى المُحرّمِ.

أفكُّ الزِّرَّ، على مَهْلٍ،
بشفتيَّ.
أجعلهُما ينزلقانِ في يديَّ
مثلَ قَدَحَيّْ بيرةٍ صُبَّتْ للتَّوِّ.

أبصقُ على الحمقى اللَّذينَ أخفقُوا في ضَمِّ
الأثداءِ إلى ميتافيزيقيَّاتهم،
وعلى الفلكيِّينَ، النَّاظرينَ في النُّجومِ، اللَّذينَ لم يعدُّوها
مِن بينِ أقمارِ الأرضِ...

تمنحُ الأثداءُ كلَّ إصبعٍ
شكلَهُ الحَقَّ، مسرَّتَهُ:
الصَّابونَ البِكْرَ، والرَّغوةَ
التي ننظِّفُ بها أيدينا.

وكيفَ يحتفي الفمُ
بهاتَينِ الكعكتَينِ الحامضتَيْنِ،
فالفمُ ريشةٌ
مغموسةٌ في صفارِ البيضِ.

أُصرُّ على أنَّ الفتاةَ
التي تعرَّت حتَّى الخصرِ،
هي المعجزةُ الأولى الأخيرةُ،
وأنَّ البوَّابَ العجوزَ الذي يطلبُ،
وهوَ على فراشِ الموتِ،
أن يرى ثديَي زوجتهِ
لآخرِ مرَّةٍ
هُوَ أعظمُ شاعرٍ على مرِّ العصورِ.

آهِ يا نَعَمِي اللَّذيذةُ، آهِ يا لائِيَ اللَّذيذةُ،
انظرا، كلُّ مَن في الأرضِ ينامُ.

والآنَ، في هذا السُّكُوتِ،
أجذبُ خصرَ
حبيبتي إلى خصري،

سوفَ ألقمُ كلَّ ثديٍ
مثلَ عنقودِ عنبٍ ثقيلٍ داكنٍ
في قَفِيرِ
فمي النَّاعسِ.

كولاج غلاف الطبعة الأميركية لديوان «العالم لا ينتهي» (1989)


7. تشارلز سيميك
تشارلز سيميك جُملةٌ.
جملةٌ لها بدايةٌ ونهايةٌ.

أَهُوَ جملةٌ بسيطةٌ أمْ مُركَّبةٌ؟
الأمرُ مرهونٌ بالطَّقسِ،
مرهونٌ بالنجومِ التي في الأعالي.

ومَن الفاعلُ في الجملةِ؟
الفاعلُ حبيبُكِ تشارلز سيميك.

وكم فعلاً في الجملةِ؟
الأكلُ والنَّومُ والمضاجعةُ بعضُ الأفعالِ.

ومَنِ المفعولِ بهِ في الجملةِ؟
المفعولُ بهِ، يا صغيراتي،
لم يظهر بَعْدُ.

ومَنِ الذي يكتبُ هذهِ الجملةِ السَّمِجَة؟
مُبتزٌّ، فتاةٌ عاشقةٌ،
وطالبُ وظيفةٍ.

وهل سيُنهونَ الجملةَ بنقطةٍ أَمْ بعلامةٍ استفهام؟
سينهونَها بعلامةِ تعجُّبٍ وبقعةٍ من الحبر.

8. عُزلة
هُنَاكَ في هذي اللَّحظةِ، حيثُ كسرةُ الخُبزِ
الأولى التي تسقطُ مِن على الطَّاولةِ
فتظنُّ بأن لا أحدَ يسمعُها
وهي ترتطمُ بالأرضِ،

بَيْدَ أنَّ النَّملَ في مكانٍ
قَدِ اعتمرَ للتَّوِّ
قُبَّعاتهِ التي يرتديها الصَّاحبيُّون
مُنطلقاً كي يزورك.

9. إمبراطوريَّة الأحلام
في الصَّفحةِ الأولى من كتابِ أحلامي
دائمًا هُوَ المساءُ
في بلدٍ مُحتَّلٍ.
ساعةٌ قبلَ حظرِ التجوالِ.
مدينةٌ إقليميَّةٌ صغيرةٌ.
واجهاتٌ المتاجرِ فارغةٌ.

وأنا في زاويةِ الشَّارعِ
حيثُ لا ينبغي أن أكون.
وحيداً بلا معطفٍ
خرجتُ أبحثُ
عنِ كلبٍ أسودَ يستجيبُ لصفيري.
لديَّ قناعُ عيدِ القدِّيسينَ
أخافُ أن أرتديهِ.

10. ملحوظة
ظهرَ جرذٌ على خشبةِ المسرحِ
في أثناءِ عرضِ
مسرحيَّةِ المدرسةِ في موسمِ عيدِ الميلاد.
صرخت مريمُ
فأسقطتِ الرَّضيعَ
على قدمِ يوسف.
ظلَّ المجوسُ الثَّلاثةُ
مُتجمِّدينَ
في أرديتهم الملوَّنة.
تستطيعُ أن تسمعَ دبوساً يسقطُ
والجرذُ يستكشفُ المِذوَدَ
قبلَ أن يواصلَ طريقَهُ إلى الكواليسِ
حيثُ خبطَهُ شخصٌ،
دُونَ تهاوُنٍ،
مرَّةً، ثُمَّ مرَّتَيْنِ،
بشيءٍ ثقيل.

11. طفولة پارمينيدس
إلى إلكترا هافياريس
ولأنَّهُ قد سألَ: لماذا يُوجَد شيءٌ
بدلاً منَ اللَّاشيء؟
أرسلَ المُدرِّسُ الوقحَ الصَّغيرَ
لرؤيةِ المدير.

لحسنِ الحظِّ، ليسَ لديهم مديرٌ بَعْدُ.
ليسَ إلَّا الملكُ مينوس ومتاهتُهُ.
وفيلمونُ، بالطَّبعِ، الذي على وشكِ أن يموتَ من الضَّحكِ
حينَ رأى حماراً يأكلُ التِّين.

12. كتابات الصُّوفيِّين
على المنضدةِ بينَ كتُبٍ
كثيرةٍ، مستعملةٍ جداً،
الكتابُ النَّادرُ الذي يتوجَّبُ أن تقتنيهِ
على الفورِ، الكتابُ
الذي يجعلُ خفقَ قلبكَ يتسارعُ

وأنتَ تنتظرُ فكَّةَ النقودِ
بابتسامةٍ سخيفةٍ
سوفَ ترافقكَ إلى الشَّارعِ،
ثُمَّ تمرُّ، لاحقاً، بصاحبةِ البنايةِ
التي تراقبُكَ وأنتَ تمسحُ حذاءكَ،

ثُمَّ تصعدُ إلى الشقَّةِ المستأجرةِ
التي تجاورُ شقَّةَ نادلةٍ تعملُ في ملهى ليليٍّ
تحلقُ ساقَيْها
والبابُ مواربٌ،

وحينَ تقلبُ الصفحةَ الأولى
التي تتحدَّثُ عنِ حُدوسِ
كينونةٍ ساميةٍ
في أشياءَ مألوفةٍ ومبتذلةٍ...

في منزلٍ سوفَ يُهدَمُ عمَّا قريبٍ،
عَمَّهُ الصَّمتُ فجأةً حتَّى كأنَّهُ قد باتَ في عالَمِ الغيبِ...
عليكَ أن تهمسَ باسمِكَ
وكلماتِ النَّاسكِ.

حيثُ لا بُدَّ أنَّهُ قد مرَّ وقتٌ طويلٌ على تناولِ العشاءِ،
العشاءِ الذي التهموهُ سريعاً،
سعيداً لأنَّ حصَّتكَ الصغيرةَ
كانتْ مِن نصيبِ الكلبِ ذي الأرجُل الثَّلاثِ.

13. العالَم لا ينتهِي: قصائدُ نثر
كانتْ أُمِّي جديلةً مِن دخانٍ أسودَ.
حملَتْنِي مُقمَّطاً فوقَ المُدُنِ التي تحترقُ.
كانتِ السَّماءُ رحبةً ومكاناً تعصفُ بهِ الرِّيحُ كي يلعبَ طفلٌ.
قابلنا آخرينَ كانوا مثلَنا تماماً. كانوا يحاولونَ ارتداءَ معاطفهم بأذرُعٍ خُلِقَتْ مِن دخانٍ.
كانتِ السَّمواتَ العُلَى طافحةً بآذانٍ صغيرةٍ منكمشةٍ صمَّاءَ بدلَ النُّجومِ.
■ ■ ■

الحَجَرُ امرأةٌ عقيمةٌ. لا شيءَ فيهِ سوى العتمةِ. عتمَتِكَ أمْ عتمتِهِ، مَن يدري؟ كصرارِ ليلٍ أسودَ يصخبُ قلبُكَ في السُّكونِ.
■ ■ ■

آلافُ الكهولِ، وقد أنزلوا سراويلَهم، ينامونَ في المراحيضِ العامَّة، أنتَ تبالغُ، أنتَ تهذي! آلافُ المَريَمَاتِ، آلافُ المَجدليَّاتِ ينتحبنَ عند أقدامهم.

14. بابل
كلَّما صلَّيتُ
يكبرُ الكونُ،
وأصغرُ.

كادتْ زوجتي أن تدوسَ عليَّ
رأيتُ ساقَيْها الهائلتَيْنِ
تصعدانِ إلى مرتفعاتٍ شاهقةٍ
ومثلَ لحيةِ إلهٍ
تلألأَ بينهما الشَّعرُ.

بابليَّةً تراءتْ.

«إنِّي أصغرُ، في كلِّ دقيقةٍ»،
صرختُ... فلم تسمعني
بينَ الزَّقُّوراتِ والأُسْدِ المجنَّحةِ،
والمُنجِّمينَ الصَّاخبينَ لعينَيْها المرسومَتْينِ.

15. في اللَّيل
كانتِ الرِّيحُ تُعِدُّ الحساءَ
للَّذينَ طارَ النَّومُ مِن عيونهم

حساءَ ديكِ الرِّياح

16. شطرنج مسائي
الملكةُ الغاضبةُ مرفوعةٌ عالياً
في يدِ أبي الغاضبة.

17. قِسطٌ منَ الرَّاحةِ في مستشفى المجانين
كانوا قد علَّقوا دموعَ المساءِ على زجاجِ النَّوافذِ.
كانَ الجنرالُ مشغولاً بمزرعةِ النَّملِ في رأسهِ.
وكانَ القدِّيسونَ الشُّفعاءُ يتحرَّقونَ في قبورهم، يتحرَّقونَ جميعاً سوى الذي كان سجينَ نجمٍ سينمائيٍّ أسودِ الشَّعرِ.
ارتدى موسى لحيةً مستعارةً وكذلك لِنْكِن.
أعادَ أحدهم إنتاجَ المنهجَ السُّقراطيَّ في الاستفهامِ بإظهارِ جهالةِ السَّقفِ.
أسرَّ آدمُ: «لقد سرقوا سرَّ علبةِ الثِّقابِ الموسيقيَّةِ منِّي».
قالت حوَّاءُ: «كانَ أكبرُ ديكٍ في العالَم سيجعلني مشهورةً».
يا للرَّكضِ عارياً فوقَ مرجٍ مُعتِّمٍ بعدَ حمَّامٍ بارد!
كانتِ الممرِّضةُ في الخيمةِ البيضاءَ تُحوِّلُ الماءَ نبيذاً.
أسرعي إلى البيتِ، أيَّتها الغيمةُ السَّوداءُ.

18. الصَّوت في الثَّالثة صباحاً
مَن أضافَ ضحكاً مُعلَّباً
في مشهدِ صَلْبِي؟

19. متجر الملابس العتيقة
مخزونٌ هائلٌ من حيواتٍ سابقةٍ
كي تُفتِّشَ فيهِ
عن تلكَ التي تلائمُك
نظيفةٌ، مكويَّةٌ للتَّوِّ،
رغمَ ياقاتها البالية.

تمثالُ عرض يرتدي ملابسَ سوداءَ
واقفٌ بالبابِ كي يخدمك.
عيناهُ عليكَ ولن يُفلِتك.
يبدو شاربُهُ مرسوماً
بطرفِ سيجارٍ مُطفَأ.

أبراجُ بناطيلَ تميلُ،
حينَ تستديرُ كي تهربَ،
وقبَّعاتُ الموتى تتدحرجُ
على الأرضِ، مسرعةً
كي ترافقكَ إلى خارجِ الباب.

20. عقولٌ مُطَّوِّفة
كانت جارتي تحدِّثني
عن قطَّتها العمياءَ
التي تذهبُ في اللَّيلِ
إلى أينَ؟ سألتُ.

حينئذٍ، تماماً، نادتني أُمِّيَ الميِّتةُ
كي أغسلَ يديَّ
العشاءُ جاهزٌ على الطَّاولةِ:
الفأرُ الصَّغيرُ الذي صادتهُ القطَّةُ.

21. في دكَّان الخردوات
سلَّةٌ قشٍّ صغيرةٌ
طافحةٌ بأوسمةٍ
تعودُ إلى حروبٍ نبيلةٍ قديمةٍ
لا أحدَ يذكرُها.

قلبتُ وساماً
كي أشعرَ بالدّبوسِ
الذي وخزَ ذاتَ مرَّةٍ
صدرَ البطلِ المنتفخ.

22. موسيقى ليليَّة
أيّها الجدولُ الصّغيرُ، يَا مَن تجري أمامَ بيتي،
أُحبُّ النّغمةَ التي تدندنُ بها لنفسكَ
حينَ يهبطُ اللّيلُ،
ولا أحدَ مستيقظاً إلّانَا.
ولأنّكَ تصاحبُني
فإنّني لا أخافُ
العتمةَ حولَ سريري
والأفكارَ في رأسي
وهي تتطايرُ محدودبةً كالخفافيشِ
بينَ الكنيسةِ القديمةِ والمقبرة.

23. صائدُ ذبابِ اللَّيل المُدلهِّم
سَقَفْتُ نَفْسِي
بالكلماتِ.

ليلةً إثرَ ليلةٍ
سَقَفْتُ نَفْسِي

ثانيةً ضدَّ
المِمْحَاةِ المُعَلَّقَة.

24. فطيرة الكرز
لَوْ صحيحٌ أنّ الشّيطانَ يضعُ إصبعَهُ
في كلِّ فطيرةٍ، فلا بُدَّ أنّه ينتظرُ
اللّيلَ كي يُرخِي سُدُولَهُ، والعتمةَ
كي تَجِنَّ في الفِنَاءِ، حتّى لا نراهُ
وهوَ يلعقُ الإصبعَ الذي غمسَهُ في فطيرتكِ،
تلكَ التي أخرجتِها من الفرنِ، يا حبيبتي،
وتركتِها كي تبردَ قربَ النّافذةِ المفتوحة.

25. خُطَّ خربشةً في العتمة
صرخةٌ في الشّارعِ.
شخصٌ يُجادلُ شيطانَهُ.
ثُمَّ، تعودُ السّكينةُ.
الرّيحُ تُشَعِّثُ أوراقَ الأشجارِ.
والطّيورُ في أعشاشها
مسرورةٌ إذْ تُهَدْهَدُ ثانيةً للنّومِ.
يَبْرُدُ اللّيلُ.
وجداولُ الدّمِ في المَجْرَى القديمِ
تنتظرُ شروقَ الشّمسِ.

26. درس في علم الفلك
الضحكةُ الصّامتةُ
للنجومِ
في سماءِ اللّيلِ
تُخبرنا
بكلِّ ما نحتاجُ إلى معرفته

27. بين زوَّاري المتأخِّرين
ثمّةَ بقرةٌ
اقتلعَ الجنودُ
عينيها بسكّينٍ
وأشعلوا القشَّ تحتَ ذيلها
كي تركضَ عمياءَ
فوقَ حقلِ الألغامِ
ومِن ثَمَّ في رأسي
بينَ حينٍ وآخر

28. الحلم الأميركي
حينَ تضعُ آرلِينْ البودرةَ على أنفها
في مرآةٍ على منضدةِ الزّينةِ
ثمّ ترمقُ نهدَيها العاريينِ
فتزلقُ منفخةَ البودرةِ إلى أسفلٍ
كي تلمسَ إحدى حلمتَيْها،
فيما أحدُ القساوسةِ على شاشةِ التّلفازِ
يطلبُ من المحتشدينَ الصّلاةَ
وإرسالَ الأموالِ إليهِ اليومَ،
هذا يُسمّى الحلم الأميركيّ.

29. كومة قشٍّ
أتستطيعُ أن تجدَ هناكَ
القشّةَ التي قَصَمَتْ
ظهرَ أمُّك؟

30. رأيتُ الرِّيحَ
تُقلِّبُ صفحاتِ
موسوعةٍ سميكةٍ
مرميَّةٍ معَ النُّفاياتِ،
في عجلةٍ مِن أمرها كي تعثرَ على إجابةٍ.

31. شجرة ضخمةٌ عجوز
ضاقَتْ ذرعاً بأوراقها الصَّاخبةِ
وطيورِها التي تغرِّدُ بصوتٍ رخيم،
وبنقَّارِ الخشبِ الصَّغيرِ
الذي يحفرُ بيتاً جديداً لِنَفْسهِ فيها.

32. وولت ويتمن
تحتشدُ العصافيرُ والحمامُ
حيثُ يستلقي وقدِ افترشَ الأرضَ،
بشعرهِ الطَّويلِ ولحيتهِ البيضاءَ،
مُسنِداً ظهرَهُ إلى جدارٍ
في هذا المربَّعِ السَّكنيِّ الآيلِ للسُّقوطِ،
حيثُ يأتي المُشرَّدونَ كي يموتوا
ويتوقَّفُ النَّاسُ كي يشهدوا
معجزةَ هذا الصَّباحِ،
صبيَّةٌ بكعبَيْنِ عاليَيْنِ
تقرفصُ فوقَ الرَّصيفِ
تُفتِّتُ رغيفاً منَ الخُبزِ
كي تُطعِمَ الشَّاعرَ العجوزَ الأَدْرَد.

33. في العالمِ كلِّهِ في هذي اللَّحظةِ
يُعرِّي العُشَّاقُ العُشَّاقَ
لاعنينَ الأزرارَ،
الكبيرةَ والصَّغيرةَ، والسَّحَّاباتُ
عالقةٌ، بعنادٍ،
نصفَ مفتوحةٍ.

34. لقد ماتتِ الرِّيحُ
فاحترسْ،
يا قاربي الصَّغير.

فلا
أرضَ تلوحُ في الأفق.

35. أَمِلتْ أُمِّي أنْ
تأخذَ ماكينةَ الخياطةِ
معها إلى القبرِ،
وأظنُّها قد فعلت ذلك،
فصوتُ الماكينةِ، مِن حينٍ لآخَر،
يُبقِيني مستيقظاً في اللَّيل.

36. للإيجار
غرفةٌ كبيرةٌ نظيفةٌ
زاخرةٌ بأشَّعةِ الشَّمسِ
وصرصارٌ وحيدٌ
كي تحكي لَهُ عن متاعبك.

- ولد تشارلز سيميك Charles Simic (واسمه الحقيقيّ: دوجان سيمتش) في بلغراد في يوغسلافيا السابقة عام 1938. غادر مسقط رأسه إلى باريس، وهو في الخامسة عشرة من عمره، مع أمّه وأخيه، قبل أن يلتحقوا بعد أشهر، بأبيه الذي كان يعمل في الولايات المتحدة منذ نحو ستّ سنين. تستقر العائلة، بدايةً، في نيويورك، ثم ما تلبث أن تغادر إلى شيكاغو حتى عام 1958، ثم تعود إلى نيويورك، فيعمل تشارلز نهاراً في وظائف مختلفة حتى يكمل دراسته في المساء. ثم يتحقق الحدث الأدبي الأول في حياته، حين تنشر مجلة «شيكاغو ريفيو» في عام 1959 بعض قصائده التي كتبها أثناء إقامته القصيرة في شيكاغو. بيد أنّ مفاهيمه الشعرية ونظرته الجمالية إلى الأدب شهدت تحولاً جذرياً خلال سنتي خدمته العسكرية، فعمد إلى تمزيق قصائده المبكرة، لأنها لم تكن، على حدّ قوله، سوى «قيء أدبي». وبعد عام على حصوله على درجة البكالوريوس من جامعة نيويورك، نشرت دار «كاياك» في سان فرانسيسكو، مجموعته الشعرية الأولى «ما يقوله العشب» (1967). كرّت أعماله الشعرية ومعها تتويجاته، إذ اختارته مكتبة الكونغرس عام 2007 ليكون «شاعر أميركا الرسمي» Poet Laureate الخامس عشر. كما نال جائزة «البوليتزر» في الشعر (1990)، و«جائزة الأركانة الدوليَّة» في المغرب (2019) وغيرها. من أبرز أعماله: «تفكيك الصمت» (1971)، «مدرسة للأفكار الشريرة» (1978)، «قصائد مختارة: 1963-1983 (1985 ـــ القائمة القصيرة لجائزة «البوليتزر» لعام 1986)، «أغنياتُ بْلُوز لا تنتهي» (1986 ــ القائمة القصيرة لجائزة «البوليتزر» للعام 1987)، «العالم لا ينتهي: قصائد نثر» (1989 ــ جائزة «بوليتزر» للشعر لعام 1990)...

- تحسين الخطيب: شاعر ومترجم أردنيّ. صدر له، في الترجمة: «إيروتيكا» ليانيس ريتسوس (المتوسط، 2017)؛ و«المسخ يعشق متاهته: يوميّات» لتشارلز سيميك (2016، الهيئة المصريّة العامة للكتاب)؛ و«الوصول الحُرّ» لبيتر سابر (2015، دار بلومزبري). وصدر له ضمن مشروع «كلمة» للترجمة: «أدب أمريكا اللّاتينيّة» لروبيرتو غونساليس إيتشيفاريّا (2019)، و«حدود المادّة: الكيمياء والتّعدين والتّنوير» ليلمار فورش (2019)، و«المجرّة: رسم خريطة الكون» لجيمز غيتش (2018)، و«المدرسة» لكاثرين بيرك وإيان غروس فينور (2013)، و«الجذور الثقافيّة للإسلامويّة الأميركيّة» لتيموثي مار (2011)، و«العالم لا ينتهي، وقصائد نثر أخرى» لتشارلز سيميك (2010)، و«كتاب القلق» لفرناندو بيسوا (2022). أصدر مجموعة شعريّة بعنوان «حجر النّدى» ( المتوسط، 2017).

* مادة هذا الملف مأخوذة من مختارات شعرية لسيميك مِنْ جُلِّ دواوينه، صدرت بالعنوان نفسه في جزأين عن «دار خطوط وظِلال» (عَمَّان ـــــ 2022)