تستحضر رواية «جزيرة الأشجار المفقودة» (2021) للكاتبة التركية الشهيرة أليف شافاك (صدرت أخيراً عن «دار الآداب» ــ ترجمة أحمد حسن المعيني) حقبة ماضية من تاريخ قبرص. تحكي عن تصاعد التوترات بين اليونانيين والأتراك خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لكي تتحول إلى حرب أهلية حقيقية عام 1974. عبر صوتين سرديين مختلفين، تقصّ علينا الكاتبة قصة الانقلاب الذي نفّذته مجموعة من الضباط القبارصة اليونانيين ضد رئيس الجمهورية بهدف ضم الجزيرة لليونان. أمر دفع تركيا للتدخل عسكرياً وبلورة تقسيم الجزيرة إلى معسكرين، يوناني في الجنوب وتركي في الشمال، إضافة إلى تقسيم العاصمة نيقوسيا إلى جزءين يفصل بينهما الخط الأخضر للأمم المتحدة. بعيداً عن الخوض في الكثير من التفاصيل حول السياق التاريخي، تحكي الرواية عن المحنة والصدمة اللتين عاشهما المواطنون القبارصة في تلك الفترة من خلال قصة حب ممنوعة بين كوستاس الشاب اليوناني المسيحي وديفني الصبية التركية المسلمة.

تفرض الأحداث الدموية على كوستاس الهرب إلى لندن، فيفقد أثر ديفني التي تبقى في قبرص لسنوات طويلة. لكنهما يلتقيان مرة أخرى في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقد «استوعب» كل منهما الماضي بطرق مختلفة، لكنّ الانجذاب المتبادل بينهما بقي يستعر كنار تحت الرماد، فيتزوجان وينتقلان للعيش في لندن وتكون ثمرة هذا الزواج فتاة تدعى آدا. بعد ستة عشر عاماً، تتساءل الابنة المراهقة، التي نشأت في إنكلترا، عن ماضي والديها المؤلم، اذ إنها لا تعرف شيئاً تقريباً عن قبرص. مع ذلك، فهي تشعر أن هذا هو المكان الذي يكمن فيه المفتاح لفهم العديد من الظواهر: صمت والدتها واكتئابها الدائم، وغياب خالتها مريم وأقاربها، وحب والدها ورعايته لشجرة التين المزروعة في الحديقة...
تسعى الرواية لمعالجة جراح الماضي ونزيف الذاكرة من خلال ثيمة الحداد والبحث عن جثث المفقودين جراء الحرب الأهلية لدفنها بطريقة لائقة، وربما لدفن العداوات والبغضاء التي سادت بين أبناء الشعب الواحد. تعيد «جزيرة الأشجار المفقودة» الأمل إلى كل الذين نُفوا من بلادهم أو هُجِّروا بأن بمقدورهم غرس جذور جديدة في وطنهم الجديد واستكمال حياتهم المبتورة. تكمن اللمسة المميّزة للكاتبة في اختيارها شجرة التين القبرصية، لتروي بضمير المتكلم فصولاً عدّة من الرواية. فشجرة «الفيكس كاريكا» قضت فترة طويلة من حياتها في قبرص، تحديداً في «حانة التينة السعيدة» في نيقوسيا، وكانت شاهدة على علاقات الحب والصداقة والجيرة. لكن بعد تأزم الأوضاع الأمنية ومقتل مالكَي الحانة يوسف ويورغوس، تمرض التينة وتبدأ بالاحتضار. لحسن الحظ، يعود كوستاس من لندن في بداية الألفية الجديدة ويذهب إلى الحانة التي شهدت قصة حبه لديفني، فيجد التينة ويحاول معالجتها ثم يستل قُصاصة من أحد أغصانها ليزرعها في حديقة منزله في لندن لتبدأ حياة جديدة هناك.
تحكي الكاتبة على لسان شجرة التين الحكيمة عن البيئة القبرصية وتراث الجزيرة، وهذا ما شكَّل غِنى إيكولوجياً حقيقياً للرواية وللقارئ الذي سيكتشف أنواعاً عديدة من النباتات والأشجار ويتعرف إلى أصول شجرة التين والخروب وشجيرات الوزال الشوكية والطيور المغرّدة والفراشات التي تملأ الجزيرة. كما سيتعرف إلى كيفية تواصل الأشجار مع النحل والنمل، وكيف تبعث التينة إشاراتٍ عبر شبكةٍ من الفطريات في التربة، لتنُذر جاراتها من خطر وشيك. لقد أضفت التينة بصفتها أحد الرواة نوعاً من الواقعية السحرية على الرواية، فهي شجرة مباركة ومرهفة الإحساس تفهم لغة الإنسان وتقع في الحب، كما تفهم لغة الحشرات والخفافيش، وتُعلِّق على الأحداث السياسية وتنتقد مواقف البشر وتستغرب حروبهم ووحشيتهم. تتمتع التينة أيضاً بروح النكتة وتمدح نفسها مدَّعية أنَّها هي شخصياً التي تسبّبت بخروج آدم وحواء من الجنة: «لقد حان الوقت لتصحيح الفكرة الجاهلة هذه، فآدم وحواء إنما انقادا إلى جاذبية التينة، فاكهة الإغراء والرغبة والشغف، لا التفاحة المقرقشة».
لكنّ هناك نقاطاً عدة أضعفت الرواية، منها قصة الحب المستهلكة بين شاب وفتاة ينتميان إلى قوميتين مختلفتين ومعارضة الأهل لعلاقتهما، وافتقاد الشخصيات للعمق الكافي، ما يمنع القارئ من التعاطف معها، والقفز من حقبة زمنية إلى أخرى من دون التمهل في إعطاء تفاصيل كافية عن مصير الأبطال طوال تلك السنوات. على سبيل المثال، غاب كوستاس أكثر من عشرين سنة ولكن عندما عاد، استأنف هو وديفني علاقتهما كأن هذا الغياب الطويل لا قيمة له، ولم يترك أي أثر فيهما وهذا شيء يصعب تصديقه.
تعيد تدوير مواضيع التسامح والتعايش وحقوق الأقليات والمنبوذين


من ناحية اخرى، تُصر شافاك على اختيار موضوعات تستأثر باهتمام القارئ الغربي. بعد النجاح العالمي الذي حقّقته في روايتي «قواعد العشق الأربعون» و«لقيطة إسطنبول»، اكتشفت الكاتبة الخلطة السحرية التي تفتن دور النشر الأجنبية. لذا تعيد تدوير مواضيع التسامح والتعايش وحقوق الأقليات والمنبوذين في إنتاجها الأدبي لتدافع عن قضايا أثيرة لديها. في هذه الرواية، أقحمت قصة حب بين رجلين في السياق الروائي تماشياً مع الموجة العالمية السائدة، فحكت لنا عن يوسف التركي ويورغوس اليوناني مالِكَي «حانة التينة السعيدة» وجعلت من عدم تقبل بعض سكان الجزيرة لميولهما العاطفية سبباً لمقتلهما. من المآخذ الأخرى على الكاتبة أنها تطلق تسمية «إسرائيل» على فلسطين المحتلة في أحد المقاطع، ولكن في مقاطع أخرى، تذكر فلسطين وغزة كما لو أنها تريد أن ترضي جميع أطراف الصراع. وضعت «البقلاوة الفلسطينية» و«البقلاوة الإسرائيلية» جنباً إلى جنب في لائحة الطعام التي تقدمها «حانة التينة السعيدة »، لأنَّ المستوطنين القادمين من أصقاع الأرض اعتادوا على صنع الكنافة والبقلاوة في بلادهم، ولم يسرقوا هذه الأطباق من شعوب منطقتنا! عدا ذلك، تميل الكاتبة إلى رسم صورة سحرية أكزوتيكية عن الشرق حيث تسود رائحة البخور والصندل والعنبر. أما أهل الشرق، فالكثير منهم، كالخالة مريم، يعتنقون الخرافات ويؤمنون بالجن وتزاور الأرواح ويقصدون العرّافات.
في المُحصِّلة، يمكن القول إنّ الفصول الروائية المخصّصة للتينة كانت مميّزة ومبتكرة. كما ازدانت الرواية بلغة شاعرية أبدع المترجم في نقلها إلى العربية. والجدير بالذكر هنا أنّ الكاتبة أجرت أبحاثاً معمّقة عن عالم النباتات كي تتمكن من أنسنة الأشجار وسرد تفاصيل دقيقة عن بنيتها وتواصلها مع عناصر النظام البيئي، وقد نجحت في إعادة خلق البيئة القبرصية بطيورها ونباتاتها وروائحها على المستوى السردي، لكنها كانت أقل نجاحاً في بناء الشخصيات ومعالجة بعض الأحداث.