يحيلنا بيان الصفدي في كتابه «شعر الأطفال في الوطن العربي» (الهيئة العامة السورية للكتاب) إلى جهد موسوعي في توثيق تاريخ الشعر الموجه للأطفال وخصائصه وجذوره الأولى، متكئاً على مئات المراجع والمصادر، بالإضافة إلى خبرته الشخصية الطويلة في هذا المجال. وإذا به يكشف عن تجارب مجهولة عبر قراءات نقدية تضيء خصوصية هذا الشعر لجهة اللغة والإيقاع وشحن الذائقة، وقائمة بأبرز الشعراء العرب الذين كتبوا للأطفال، فيحضر رفاعة الطهطاوي كأول من كتب قصيدة خاصة بالطفل، وأول من أنشأ مجلة للأطفال هي «روضة المدارس المصرية» (1870)، ثم محمد عثمان جلال الذي عمل على ترجمة لافونتين وطباعة كتابه بعد عناء. وحين قدّمه لعباس باشا الأول عن طريق باشا مقرّب منه «رمى كتابي في وجه حامله. فعاد إليّ بخفي حنين... بعت حماري، وبقية ما أملك، وقد ركبني الهم والغم» يقول. وسوف يخوض أحمد شوقي تجربة مماثلة في ترجمة حكايات لافونتين ولكن ببراعة أكبر.

أما كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع، فسيحظى بعناية كبيرة على يد محمد عبد الرحمن ترّه الذي نظمه شعراً بعنوان «زعموا أنَّ»، خصوصاً أن وزارة المعارف المصرية قد أدرجته في مناهجها الدراسية، نظراً إلى وضوح أفكاره، وعدم «إضاعة جمله في زخارف بلاغية فارغة». وعلى المقلب الآخر، أسهم معظم الشعراء المصريين في الكتابة للطفل أمثال حافظ إبراهيم، وعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وكامل الكيلاني، وأحمد زكي أبو شادي. في توثيق شعر الأطفال في سوريا، يرصد بيان الصفدي بواكير هذه الكتابة وصولاً إلى تأسيس مجلة «أسامة» (1975) التي استقطبت معظم شعراء السبعينيات في محاولات متفاوتة الأهمية والقيمة، فيما سيحتل الشاعر سليمان العيسى الساحة بقصائد وأناشيد ألقت ظلالها على معظم مراحل المناهج المدرسية، داعياً إلى تعزيز الروح القومية والقيم التربوية. وقد تميزت أشعاره بقدر كبير من «الرهافة والوعي بخصائص الطفولة، مع متانة في البناء وسلامة في الأدوات لغة وموسيقى».
وفي ريادة شعر الأطفال في لبنان، يشكّل خليل مطران محطة مهمة في هذا السياق، ثم حليم دموس صاحب الأناشيد العذبة والمتفرّدة، وناصيف اليازجي، وجرجس همام، وإيليا أبو ماضي، وشبلي الملاط، وإلياس أبو شبكة، والأخوان رحباني. كما أسهم بعض شعراء السبعينيات في الكتابة للأطفال أمثال حسن عبد الله، وجودت فخر الدين، ومحمد علي شمس الدين. ويبرز في التجربة العراقية الشاعر معروف الرصافي كأحد المؤسسين لنشيد الطفل من موقع الروح النهضوية والدعوة إلى العلم وتمجيد الحياة المدنية، متأرجحاً بين النظم والصورة المبتكرة. وسيشهد شعر الأطفال في العراق قفزةً واضحةً في سبعينيات القرن المنصرم، مع تأسيس مجلتي «مجلتي»، و«المزمار». وكانت تجربة فاروق سلوم الأكثر تميّزاً، لو لم يقع صاحبها في الشعارات الحزبية في بعض نصوصه. ويلفت بيان الصفدي الذي أسهم في تحرير مجلة «المزمار» أثناء وجوده في بغداد إلى تجارب نبيل ياسين، وجمال جمعة، وفارق يوسف، ومحمد كاظم، حيث خفتت نبرة الهتاف والحماسة نحو شفافية المفردة الغنائية.
ويعرّج الشاعر والباحث السوري على تجارب أردنية وفلسطينية، موثقاً أول عمل للأطفال في الأردن وفلسطين وهو «مجموعة الأناشيد المدرسية» لإبراهيم البوارشي (1928)، بالإضافة إلى تجربة الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي، وكذلك الشاعر أحمد دحبور، والشاعر محمد الظاهر في النشيد والأغنية والحكاية الشعرية. ومن المغرب تبرز ريادة الشاعر علال الفاسي الذي «امتلك روحاً شعبية تستلهم روح الفن الشعبي والأساطير والتراث الديني. كما سنتعرّف إلى التجارب المتأخرة في الجزيرة العربية والكويت والسودان.
يعدّ خليل مطران رائداً في هذا المجال على الساحة اللبنانية


عدا هذا التجوال بين الخرائط العربية، يعلّق الباحث على بعض الأخطاء التاريخية في توثيق نصوص الريادة لمصلحة المعلومة السطحية، وتجاهل المصدر، وركاكة بعض القصائد، كما يلفت إلى تجارب المرأة في الكتابة للأطفال، مثل جسماني شقرا، وأمينة نجيب، وجمانة موصلي، ولينا تقلا. أما أبرز موضوعات شعر الأطفال، فتتمحور حول العلم والوطن والطبيعة والحيوان والمهن. ولكن ما هي أهم الملاحظات على هذا النوع من الشعر؟ يجيب قائلاً: «التساهل الذي طال شروط النص الجيد، ورصف لعدة جمل حول موضوع بسيط من دون امتلاك حقيقي للأدوات الشعرية، فراح يتسابق في هذا المضمار كتّاب عديدون مستغلين حاجة المجلات ووسائل الإعلام إلى مورّدي نصوص بشروط سهلة». ويشير في أمثلة تطبيقية إلى «هفوات تربوية»، و«غموض وتعقيد لغوي»، و«الهفوات العروضية»، داعياً إلى تأكيد الروح الطفولية، والعبارة المدهشة، والجملة البسيطة، والمفردة السهلة، والتنويع في الأوزان والقوافي لكسر الرتابة الإيقاعية، والابتعاد عن القصائد الطويلة التي لا تتلاءم مع التكوين النفسي والجسدي للطفل، بالإضافة إلى التركيز على الجرس الموسيقي والأصوات عن طريق التكرار.
تأتي هذه القراءة البانورامية لواقع شعر الأطفال تتمة لمشروع الشاعر في توثيق كل ما يتعلّق بهذا الفضاء المهمل نقدياً، فقد سبق أن أنجز موسوعة متكاملة بعنوان «ديوان الطفل العربي» اشتملت على ثلاثة أجزاء بمئات القصائد القديمة والحديثة، ما يرفد المكتبة العربية بمرجع نوعي يستحق صاحبه الثناء، بالإضافة إلى مساهماته في كتابة الأغاني للأطفال، وخصوصاً لبرنامج «افتح يا سمسم».