يمكن القول ببساطة إن مخيّلة متدرّبي «دار» أوسع من توقعهم في فخ تسجيل حكاياتهم كما هي، وفي المقابل هم – وبفضل التقنيات التي تدربوا عليها طويلاً - من أقدر الكتّاب على استخدام تفاصيل حقيقيَّة من حياتهم في نسج عالمهم السردي وترميم فجواته وجعله أكثر قدرة على الإقناع.
في هذه القصص، إذاً، شيء من الواقع وكثير من الخيال، وقد تختلف النسبة بين قصة وأخرى، وقد يقع على تفصيلها القارئ المهتم بنفسه، أو يقوده إليها تواطؤ من الكتّاب، كما في حالة حسين شكر الذي أعطى الشخصيَّة الرئيسة في قصَّته «كأس نبيذٍ وأمنية» اسمَه الحقيقي وجعل صاحبها مدير مطعم مثله. حمَّلَ حسين بطلَه هنا أمنية صغيرة لا تتجاوز سماع صوت شخص يحبّه ويشتاق إليه وقد أبعدته عنه الغربة.
في قصَّة هلا ضاهر «كذبَت سُعاد حسني»، نكتشف أنَّ الدنيا كانت ستكون أجمل والأمنيات أكثر قابليَّة للتحقق لو أن جملة قالتها النجمة السينمائيَّة الراحلة في فيلم «الزوجة الثانية» لم تكن كذباً.
أمنية بطلة سارة حمزة في قصّتها «بُونْسَايْ» غير عاديَّة، كما كتابة سارة وأسلوبها، والأغرب من الأمنية ذاتها، هو أن المشكلة لم تكن في عدم تحققها بل في تحققها الموقت.
جيهان حمّود تعود في قصَّتها «تذكرة بريتيوم» إلى جوهرة «دار» رواية «بريتيوم»، التي صدرت العام الماضي واشتركت في كتابتها مع أربعة من زملائها في مجموعة «دائرة»، وما عاناه أبطال هذه الرواية من مشقات كي يحصلوا على التذكرة الحلم، فتتحقّق أمنياتهم. فما هي أمنية بطلتها التي بلغت الرابعة والخمسين من عمرها، وهل ستحتاج إلى تذكرة للحصول عليها؟
أمَّا بشرى زهوة، فتخوض تحدّياً من نوع خاص، إذ تجعل بطل قصَّتها «بلدوزر» رجلاً، أو «رجّال طول الحيط» كما يقول عنه الجميع، ويمكن القول بأنّها نجحت إلى حد كبير في الدخول إلى أعماق رجل يعاني من مشكلة نفسية صغيرة ومزمنة في آن وتقمَّصته ببراعة، لتكشف لنا من خلاله كيف تنغّص الأمنية حياة صاحبها حين تصل متأخرة ولا تتحقَّق في أوانها.
في قصَّة «ذكرى من دون خدوش»، تحكي لنا نور يونس بطريقتها المشوّقة الحدث الذي غيَّر حياة بطلتها «مريم وهب» التي لا تحبّ الأمنيات وانشغالنا الدائم بها، فما أن تتحقّق واحدة منها حتى ننساها وننصرف إلى البحث عن غيرها، لنعرف ما جرى مع مريم في الطبقة السادسة من بناية عسّاف، فجعلها تنتقل من اشتهاء الخوف والفوبيا على أنواعها إلى الاكتفاء بتمنّي عودة ذاكرتها من دون خدوش ومساحات فارغة.
«خارج الدوّامة» عن خلطة لبنانيَّة فريدة تمتزج فيها الطبقيَّة بالعنصريَّة
دانيا نجّار تستهلّ قصَّتها «على قدر حلمك تتّسع الأرض» بعبارة أحمد شوقي «وما نيلُ المطالب بالتمنّي»، وفيها تكشف لنا كيف يمكن أن تنقلب أمنية أدهشتنا فانتظرناها زمناً طويلاً إلى خوف، عند اقتراب لحظة تحقّقها.
في قصَّة «سرقوا قبّعتي»، نقضي ليلة مسهّدة مع فاطمة شاهين وبطلتها التي لا يحول بينها وبين أمنيتها سوى انبلاج النهار، وهي مناقشة رسالتها الجامعيَّة التي استعدَّت للدفاع عنها كما لو كانت ابنتها.
وتتناول وسام رحَّال في قصَّتها «خارج الدوّامة» حكاية خلطة لبنانيَّة فريدة تمتزج فيها الطبقيَّة بالعنصريَّة عند شريحة من أهل هذا البلد، أغرقت نفسها في نظريات الكمّ والنوع وأوهام التفوّق الجينيّ المزعوم، فأفسد أفرادها بذلك حيواتهم وحيوات الآخرين ومنهم بطلة هذه القصّة.
ومسك ختام الكتاب مع محمد الصغير الذي ينقل إلينا في «علبة مسامير وصديق»، ومن خلال نصّ وجداني جميل ودافئ، حكاية ابنٍ يسعى كي يكون صورةً عن أبيه ويحلم دوماً بصداقته، فلا يتحقق له ذلك إلا بعد أن تتسلّل شعيرات بيضاء إلى لحيته الشقراء.
«تسعُ أمنياتٍ لم تتحقق» خطوةٌ أخرى لمتدرّبي «دار» على درب القصّة القصيرة الجميل والطويل، الذي هجره كثير من الكتّاب والقرّاء والناشرين، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك مع كل هذا الشغف لدى الكتّاب. ولم يكن ينقص هذا الكتاب في طريقه إلى القارئ إلا أن يزيّنه غلاف جميل فيه قدر كبير من الرمزية ومن التماهي مع المضمون في آنٍ واحد، فكان له ذلك على يد الفنان عصام خازم.