ترجمة وتقديم: عبد الوهاب الملوح
إنها حكاية كذبة النهاية، حكاية البداية التي لا تنتهي قد تبدو في الظاهر مجرد استعراض تاريخي للوجود الفرنسي في تلك البقاع النائية من جنوب أميركا وتتبعاً كرونولوجيّاً لمسار عائلات هاجرت من أوروبا إلى العالم الجديد، بحثاً عن حياة جديدة من خلال ابتكار أنشطة جديدة عبر أحلام جديدة، غير أن الحياة تتجدد من خلال الجذور وليس من خلال التأويل الجغرافي للأحلام. أين هو الوطن؟ تتابع هذه الرواية مسيرة أكثر من عائلة لمدة أكثر من قرنين من الزمن. عائلات تركت بلدانها الأصلية حيث ولدت ونشأت وهاجرت تبحث عن الحياة. ما أضيق الأرض ما أوسع الحلم. بعد أكثر من قرنين يهرب الحفيد الثالث من منفى جده الأول قاصداً أرض أجداده الأولى، ليجد نفسه يحمل اسم هذا الجد الأول. فمن أين تتكون البدايات؟ وهل بالفعل هناك نهايات؟


‏طالت مدة السفر في البحر الذي أشعر لازار بالجزع الممتزج بالانبهار. بينما لازم روبير قُمرته يقرأ ولم يخرج منها، أما شارل فكان يتسكّع على ظهر السفينة يدخن، يستمع لما يثرثر به المجندون الذين كانوا يؤدون أناشيد عسكرية عند الصباح ومارشات بطولية، وحين يحل المساء، عند الغروب يتداولون فيما بينهم قصصاً مرعبة تحكي إن السماء تمطر جثث عصافير في الجبهة، والليشمانية تنبت حلازين في البطن وإن الجنود الألمانيين يكتبون الحروف الأولى من أسمائهم على جلود المساجين بالسكاكين، وإن هناك أمراضاً قد اندثرت من عهد البارون بونتيس قد ظهرت مرة أخرى.

أوتو دِيكْسْ ــــ «خَنَادِقُ حرب» (زيت على قماش، 1916)

ما زال لازار يعتقد أنّ فرنسا مجرد وهم وما هي سوى خرافة ألفتها مجموعة من القصص، غير أنه ما إن لمح بعد أربعين يوماً من الإبحار سواحلها، حتى أدرك أن الفكرة الوحيدة التي لم تخطر له على بال هي أن فرنسا موجودة بالفعل.
وهو يستعد لمغادرة الباخرة، ارتدى لازار بنطلوناً مخملياً، موكاسان بكعب قصير وسترة مزركشة بحلقات حلزونية الشكل كان قد أخذها من أبيه، وضع قدميه على الميناء بثيابه التشيلية هذه وبسذاجة شخص ما زال يرى نفسه مراهقاً، وليس بزهو من كان يُعد نفسه ليصبح جندياً.
أما شارل، فكان يلبس زيّ بحار مخططاً بالأزرق وقلنسوة من القطن بطرَّة حمراء. حفَّ شاربه وجعله رقيقاً، متناظراً بشكل لافت مزيناً الشفة العليا مثلما تعوّد أجداده سكان بلاد الغال الأمجاد، والذين اعتادوا أن يرطبوا هذه السبلة من الشارب بشيء من ريقهم.
أما روبير، فكان يلبس قميصاً واقيةَ صدر وبنطلوناً من الساتان تاركاً ساعة فضية تتدلى من خصره وقد شدّها إلى حزام البنطلون بسلسة صغيرة، وحين عثروا عليها يوم مماته، كانت الساعة ما زالت تشير للتوقيت في التشيلي.
أول ما لفت انتباه الإخوة الثلاث وهم ينزلون على الرصيف، رائحة المكان التي بدت لهم شبيهة بتلك الرائحة في ميناء فالباريزو.
لم يكن الوقت يسمح لهم بالتحدث في هذا الأمر، فسرعان ما صفُّوهم ضمن طابور تحت قيادة ضابط ووزعوا عليهم زي الجندية، بنطلوناً أحمر، معطفاً مشدوداً بصفين من الأزرار، لفائف حول السيقان وزوجَي جزمات عسكرية جلدية.
صعدوا بعد ذلك في شاحنات عسكرية خُصّصت لنقل آلاف النازحين إلى جبهات الحرب، قدموا ليمزقوا أنفسهم في قارة كان آباؤهم قد تركوها بلا عودة. وهم يجلسون على مقاعد قبالة بعضهم البعض لا أحد منهم كان يُجيد الحديث بالفرنسية باستثناء لازار الذي تعلّمها بفضل مطالعاته للكتب من خلال كلمات مختارة وعلامات رمزية.
أما هنا، فكانوا يعطون أوامر بلغة متخشبة، يشتمون عدواً لا مرئياً، وعند المساء حال وصولهم اصطفوا في طابور أمام أربع طناجر معدنية كبيرة وقف خلفها طباخان يعيدان تسخين مَرَقٍ امتلأ بالعظام، ولم يكن يسمع سوى حديث بلهجات البروتون المحلية.
وقتها فكّر لازار في لحظة ما أن يعود إلى الباخرة ويرجع إلى بيته هناك في التشيلي، غير إنه تذكر وعده وقرر إنه لئن كان هناك واجب وطني خلف الحدود، فإنما هو الدفاع عن وطن الأجداد.
كانت مهمة لازار لونصونييه في الأيام الأولى القيام بدعم الخنادق وتثبيت الدعائم وسواتر الرمل، والانشغال بتهيئة الأرض من أجل تركيز لافتات مربعة الشكل، لدرجة إنه لم يجد الوقت ليشعر بالحنين إلى التشيلي.
لقد قضى هو وإخوته أكثر من سنة في تثبيت الأسلاك الشائكة، تقاسم نصيبهم من الغذاء ونقل حقائب المتفجرات، وسط مسالك صغيرة، ملغمة بين سريات المدفعيات عند خطوط النار.
في البداية ولكي يحافظوا على كرامتهم كجنود، كانوا حين يعثرون على منبع ماء يتقشّفون في استعماله أثناء الاستحمام، مستعملين القليل من الصابون لغسل أياديهم برغوة رمادية. لذلك تركوا ذقونهم تنمو دونما عناية ليس إهمالاً ولكن لأنها موضة ذلك العصر حتى ينالهم شرف تسميتهم بالجنود المشاة، وبمرور الأيام والأشهر أصبح ثمن الكرامة مُهيناً. إذ كانوا ينخرطون عراة وسط المرج القريب ضمن مجموعات تتكون كل واحدة منها من عشرة أفراد في تمرين فلْي القمل المُذِلِّ، وقد غطَّسوا ملابسهم داخل الماء المُغلي، ينظفون بنادقهم بمزيج من السخام والدباغ؛ ثم يرتدون أزياءهم الرثة، الملوثة، الممزقة والتي ظلت رائحتها تطارد لازار حتى في أحلك سنوات صعود النازية.
انتشرت إشاعة بين الجنود مفادها أن من يأتي بمعلومة من جبهة العدو يحصل على ثلاثين فرنكاً، وسرعان ما حاول المشاة الجوعى أن ينالوا فرصتهم حتى في أتعس الظروف، فمضوا بعيداً عن معسكرهم؛ يزحفون بين الجثث المغطاة باليرقات؛ يجُرُّون خطاهم وسط الوحل مثل حيوانات، مركزين على أي شق يعترضهم، يصغون السمع، من خلال شعورهم المتجعدة، علّهم يظفرون بتاريخ ما، ساعة ما، إشارة لبدء هجوم.
وقد استطاعوا التسلّل إلى الخطوط الألمانية يرتجفون من الخوف والبرد وهم يؤدون دور العسس الخفي وهو ما جعلهم يقضون ليالي كاملة أحياناً مقرفصين في حفر أحدثتها قذائف.
والوحيد الذي استطاع الظفر بالثلاثين فرنكاً، كان صبياً قادماً من مانوسك ويُدعى أوغستين لاتور حكى أنه وقع ذات مرة على جثة ألماني مكسور الرقبة على إثر سقطة في هاوية أحد الأودية. ولما فتش جيوبه، لم يعثر على شيء مهم عدا رسائل بالألمانية وبعض الماركات، أوراق وقطع نقدية بثقوب مربعة الشكل في وسطها، غير أنه عثر على طية جلدية على مستوى الحزام ورأى الثلاثين فرنكاً مطوية بإحكام وكان الألماني قد سرقها بدوره من جثة جندي فرنسي فلوَّح بها مزهواً بنفسه وهو يهتف: — لقد سددت دَيْن فرنسا.
في تلك الفترة تقريباً، تمَّ اكتشاف بئر عند منتصف الطريق بين خندقي العدوين ولآخر أيام حياته، لم يعرف لازار لونصونييه كيف استطاع العدوّان أن يتفقا على وقف لإطلاق النيران للتزود بالماء من البئر. تتوقف الطلقات النارية بين الطرفين؛ وعند منتصف النهار بالضبط، يغادر جندي فرنسي الخندق ويقصد البئر حاملاً سطلين كبيرين يتزود بالماء ويعود القهقرى على أن لا يتجاوز النصف ساعة، ويقوم الجندي الألماني بنفس الشيء.
ما إن يُتِمَّ الفريقان، تزودهما بالماء يشرعان في تبادل إطلاق النار من جديد. تتكرر هذه الرقصة السوداء كل يوم بدقة عسكري محكمة دونما أيّ تجاوز من أي جهة، في احترام دقيق لرموز فروسية الحرب، إلى درجة أن العائدين من البئر يردّدون في ما بينهم بعد صراع دام سنتين، إنهم لأول مرة يسمعون زقزقة بعيدة للعصافير أو صوت رحى المطحنة.
تطوَّع لازار ذات يوم لجلب الماء، اندفع خارج الخندق وفي مقدمة ذراعيه أربعة دلاء ونحو عشرين مَطَرَة في حزامه وحوض غسيل في يديه، بعد عشر دقائق من السير بلغ البئر وهو يتساءل كيف سيعود بكل هذه الأواني ممتلئة بالماء. كانت البئر تُشيع حزن مِطيَرة مقفرة وهي محاطة بمثابة متقادمة وجدار صغير متآكل وقد ترامت في الأطراف هنا وهناك أوان مثقوبة بالرصاص بينما لاحت غير بعيد سترة عسكرية قد تركها أحدهم أثناء عودته من البئر.
شدَّ مقبض الدلو إلى حبل وأنزله في البئر إلى أن سمع بقبقة الماء، وما إن شرع في جذبه برزت أمام ناظريه فجأة كتلة تشبه الصخرة.
رفع لازار رأسه وإذا به وجهاً لوجه مع جندي ألماني يوجِّه مسدسه صوبه وقد تغطى وجهه بوحل التخفي. ألقى لازار الحبل من يده تاركاً الدلو يقع في البئر وتراجع إلى الخلف ينشد الفرار غير أنه صاح قائلاً وهو يتعثر في صخرة:
— تباً؟
وانتظر الرصاصة التي لم تأتِ، فتح عينيه ببطء شديد والتفت نحو الجندي الذي تقدم بخطوة نحوه ما دفع لازار للتراجع إلى الخلف. كان الألماني في مثل سنِّ لازار غير أنّ زيه وحذاءه العسكري وقبعته، كل هذا يوحي أنه أكبر منه عمراً. خفض الجندي الألماني مسدسه وسأله:
— هل أنت تشيلي؟
وصل هذا السؤال إلى مسامع لازار في شكل همس إسباني سليم النطق. هَمْسٌ إسباني ظهرت له من خلاله طيور الكوندور الجامحة وغربان البحر وأزهار الآس التشيلية وتلك الأنهار التي تتنفس أشجار اليوكاليبتوس.
— نعم؛ ردّ لازار
فبدا على الجندي الألماني وقتها شيء من الارتياح وسأل لازار مجدداً:
— من أي مدينة أنت؟
— سانتياغو
ابتسم الألماني وهو يقول:
— وأنا أيضاً اسمي هلموت دريخمان.
يا للمفاجأة لقد عرف لازار جاره الذي يقطن في شارع سانتا دومنغو والذي كان قد سأله قبل سبع عشرة سنة خلت عن أصول اسمه. وها هي الحرب قد جمعتهما مجدداً، لكن كل واحد منهما في الجهة المعادية للآخر.
لقد انخرط الاثنان في مغامرة عبور المحيط ليدافع كل واحد منهما عن بلد آخر وعلم آخر، وها هما الآن يلتقيان للتزود بالماء عند هذا المنبع الذي شهد ولادتهما.
— اسمعني، إنهم هنا يعدون لهجوم مفاجئ عشية الجمعة. تصرف بشكل أن تكون مريضاً وامض الليل في المصحة، قد ينقذ هذا حياتك.
لفظ هلموت دريخمان هذه الكلمات بدون أن يعمل لها أي حساب أو يخطط لها. تلفظ بها كما لو كان يسقي شخصاً ظمآناً الماء، ليس لأننا نملك الماء، لكن لأننا نعرف معنى العطش.
نزع الألماني قبعته عن رأسه وقتها فقط. تبين للازار وجه مخاطبه بوضوح، اكتسى بجمال مرمري كامد وصلب، وقد اصطبغ بلون متحفظ حيث الزنجار يذكِّر بالجمال الخفي للتماثيل القديمة.
تذكر لازار كل أولئك الجنود الذين ينامون في حفر في انتظار المبادرة بحوار ما أو الكشف عن مخبأ لكتيبة العدو أو اكتشاف الموقع السري لبطارية معادية. لقد استوعب جيداً السر الذي باح به هلموت والذي بدا له فجأة مقنعاً وعبثياً، وقد بدا له هذا الألماني مكابراً وسخيفاً في الأبعاد الحقيقية للتاريخ.

(*) صدرت حديثاً عن «دار كلمات» في الكويت