«أكاذيب الليل» هي رواية جزوالدو بوفالينو التي عُثر عليها كمخطوطة غير مكتملة ترجمها الشاعر الراحل بسام حجار عن الفرنسية، والشاعر السوري أمارجي الذي ترجمها عن الإيطالية مراعياً ذلك التناغم بين معجم بسام حجار ومعجمه، وقد صدرت ترجمتها حديثاً عن «دار الرافدين».في الرواية مقاربة لفكرة السرد والموت، كأنّ بوفالينو يطرح هذا السؤال الذي لا يزال يشغلنا: لماذا نروي القصص؟ كأنه يقترب من عوالم «ألف ليلة وليلة»، لا كي يقنعنا أنها كانت قصصاً للنجاة من الموت، بل مجرد تجزية للوقت الضائع. فهنا قصة أربعة سجناء حُكم عليهم بالإعدام، في زنزانة على جزيرة منسية، والوقت المتبقي هو ثماني ساعات تفصلهم عن الإعدام المقرر بعيد الفجر. وفي هذه الليلة الأخيرة، يبدأ كل واحد منهم بسرد قصته لنكتشف في ما بعد أنّ القصص كانت مجرد أكاذيب، وحتى وجود الأب السرمدي الذي يسمعهم، ويعلن في النهاية أنه الحاكم بنفسه، ويعلق على رواياتهم بأنها مجرد أكاذيب.


تعيدنا هذه الرواية إلى أسئلة أخرى في عمق الحياة: هل كل ما نرويه أكذوبة، كما فعلت شهرزاد لتنقذ نفسها، أم أن الحياة العميقة هي في ملاحقة ذلك المعنى الخفي لوجودنا؟ ما علاقة الفن بالحياة أو بالموت؟ ربما تنحاز الرواية الى السؤال الأخير، وخصوصاً حين يذهب بوفالينو إلى تصوير هذه الشخصيات كأنها تروي قصصها لا للنجاة بل لمجرد الحكاية، فلم يُنجِها ذلك من الموت بعكس شهرزاد، بل أخذها ذلك للقاء مجازي بالأب السرمدي الذي هو كذبة أيضاً.
تأخذنا تلك الرواية نحو معنى الصدق في الأدب، ربما هو ليس قول ما حدث، بل ربما ملاحقة معنى ما حدث، وإيجاد ذلك المعنى الصادق في حكاية كل واحد منا. يقول بوفالينو في الرواية على لسان بطله آجيسيلاو: «بدأنا من افتراض أن يحكي بعضنا لبعض أشياء مبهجة لكي نحضنها في أعيننا حتى النهاية أو لكي نسافر للمرة الأخيرة، بالكلمات، خارج هذه الجدران، أو بالأحرى لتجزية الوقت والاعتراف وسبر أغوار أنفسنا. ولكن بدلاً من ذلك، يبدو لي أنّ كلّ واحد منا يطلع علينا بذكرى فاحشة خارجة عن الموضوع». ربما هنا يسأل بوفالينو عن الحقيقة، عن معنى أن تعرف شخصاً من خلال قصصه عن نفسه، وهكذا يسأل أيضاً على لسان إحدى شخصياته: كيف يمكن للمرء معرفة الحقيقة؟
هنا أيضاً يمكننا تأمل ما يطرحه بوفالينو في هذه الرواية من خلال تلك العلاقة بين الموت والقصص أو الأدب، فالسجناء الأربعة ينتظرون موتهم، لكنّ القصة هي الجسر الى هذا المصير، أليست تلك هي حكاية وجودنا؟ يأخذنا ذلك الى ما ذكره ألبيرتو مانغويل عن أسطورة كساندرا في كتابه «مدينة الكلمات». كساندرا ابنة بريام التي لم يصدقها أحد رغم أنها كانت تسرد رؤيتها عن العالم، فتحل عليها اللعنة فتقول: «تلك هي الحياة/ الساعات الأكثر حظاً/ كخربشات طبشور/ على لوح في صف/ نحدق/ ونحاول فهمها/ ثم يدير الحظ ظهره/ ويُمحى كل شيء».
وتأخذنا أيضاً هذه الرواية إلى «الديكاميرون» للكاتب جيوفاني بوكاشيو الذي قام بترجمتها صالح علماني، وهي قصص حدثت في عشرة أيام أثناء الفترة الرهيبة التي حصد الطاعون فيها أرواح خمسة وعشرين مليوناً من الأوروبيين، وتُحكى على لسان سبع نساء وثلاثة رجال هربوا إلى فلورنسا من الطاعون، فيعيشون في قصر في إحدى القرى. ربما تكون تلك القصص أيضاً كما في «ألف ليلة وليلة» مكاناً ما للهرب من الوباء، فهي أيضاً تشبه «ألف ليلة وليلة» في غرابتها وسُمّيت أيضاً «ألف ليلة وليلة الإيطالية».
لكن رغم تشابه الفكرة بين هذه الأعمال، الا أن سؤال بوفالينو عن الحقيقة والصدق في القصص يأخذنا إلى مكان بعيد، لنعلم أنها لم تكن مجرد أكاذيب، لقد كانت تجربة للاقتراب الحميم من الموت. تجربة أن يقول كل واحد منّا ما يريد قوله قبل أن يغادر حياته ومهما كان ذلك خيالاً أو أكذوبة، مع أننا ننحاز بقوة الى الصدق الذي يرافقنا دائماً الى أمكنة حقيقية وجديدة.
وعن الترجمة وجهد هذا العمل الذي ترجمه بسام حجار وأمارجي، كانت لنا أسئلة حول هذه العملية الإبداعية للشاعر السوري أمارجي، فسألناه عن كيفية توأمة هذه الترجمة بترجمة بسام حجار وعن أهمية ترجمة هذا العمل، فأجابنا: «لا أسمِّي الأمر توأمةً بقدر ما أفضِّل أن أسمِّيه التقاءً وتذاوباً. فالتَّوأمة تقتضي المحاكاة، وهذه تقتضي النُّزول عن خصائص الذَّات على خصائص الغير. أمَّا الالتقاء والتَّذاوب فيكونان نتيجة استجابةٍ عفويَّةٍ مباشرةٍ من دون إلزامٍ أو إكراه. التقاء وتذاوب يمكنني عزوهما إلى خصائص النَّصِّ الأصليِّ اللُّغويَّة والأسلوبيَّة من جهةٍ وإلى تشابه نهجي ونهج الرَّاحل بسَّام حجَّار في التَّرجمة من جهةٍ أخرى. فالنَّصُّ في الأصل عملٌ أدبيٌّ رفيع المستوى، جزلُ الألفاظ باروكِيُّها، غنيٌّ بالاستعارات، فيَّاضٌ بالألوان والوصف والمشاعر القويَّة، وهو يعكس لغةَ بوفالينو الشَّاعر الذي لا يَبْرَحه الشِّعرُ حتَّى سارداً، ومن هنا ربَّما وقع حجَّار، مثلما وقعتُ أنا، في أُغوِيَّةِ نصٍّ لا منجاة لأيِّ شاعرٍ مترجمٍ من حبائلها. ثمَّ كان التَّلاقي بين نهجينا في صياغة نصٍّ عربيٍّ مكافئٍ لغوياً وشعرياً للنَّصِّ الأصليِّ، يحافظ على روحه وفي الوقت نفسه يوحي للقارئ العربيِّ بأنَّه مكتوبٌ في الأصل بالعربيَّة.
مجرَّد سؤالكِ عن الموضع الذي تقف عنده ترجمة حجَّار وتبدأ ترجمتي، وهو بالمناسبة سؤالٌ طرحه عليَّ كثيرون، دليلٌ على التَّذاوب الذي ذكرتُه وعلى امِّحاء الحدود بين صنعتين تذوابتا شعرياً في صنعةٍ شعريَّةٍ ثالثةٍ من دون أن تتنازل إحداهما عن دفقها ومعجمها أمام دفق ومعجم الأخرى. وأعتقد أنَّ المطَّلع على ترجماتي الأخرى وعلى ترجمات حجَّار، يمكنه القول إنَّ العمل بالكامل صنعة أمارجي مثلما يمكنه القول إنَّه بالكامل صنعة حجَّار. طبعاً قيمة أيِّ صنعةٍ أدبيَّةٍ ليست في الكمِّ وعدد الصَّفحات، فصفحةٌ واحدةٌ يمكن أن تفوق بجمال صنعتها مجلَّداتٍ ومكتبات، ولكن من باب الضَّرورة التَّاريخيَّة فحسب، سأكتفي بالإشارة إلى أنَّ ما أنجزه حجَّار كان أقلَّ من ثلث الكتاب. هذه الأهمِّيَّة يحدِّدها القارئ وليس أنا، ففي النِّهاية قيمة أيِّ عملٍ فنِّيٍّ أو أدبيٍّ هي قيمةٌ جماليَّةٌ، والجمال مسألةٌ فرديَّةٌ خاصَّة. غاية ما أرجوه هو أن يكون هذا الكتاب قد أضاف بعض الجمال إلى المكتبة العربيَّة».