ترك كارل ماركس (1818 – 1883) نصّاً وحيداً يلخّص مجمل رؤيته السياسيّة: «المانيفستو الشيوعي». ويعد مفكرون مختصون هذا البيان الموجز الذي نشر للمرة الأولى عام 1848 بمثابة نقطة فاصلة في التطوّر الفكري للفيلسوف الثوريّ الكبير، فهو بمثابة تتويج لمجمل كتاباته ما قبل احتدام الحالة الثوريّة في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، وتقديماً لا بدّ منه لفهم كتاباته اللّاحقة حتى وفاته، لا سيّما نقده للرأسماليّة في «رأس المال». لكن ذلك النصّ القصير الذي كتبه ماركس ـ بناء لمسوّدة أعدها رفيقه فريدريك إنجلز ـــ اكتسب، في وقت قياسيّ، حياةً خاصّةً تجاوزت غايته الأساسيّة كتوصيف لمعالم المشروع السياسي لتنظيم أوروبي صغير أطلق عليه اسم «الرابطة الشيوعيّة»، ليصبح واحدة من أهم الوثائق السياسيّة وراء أفكار غيّرت شكل العالم في القرن العشرين.
ارنست هاملين بيكر ــــ «كارل ماركس» (غواش على خشب ــ 26.4 × 23.5 سنتم ــــــ 1948)

جرت مياه كثيرة منذ ذلك الحين، فسقطت معظم التجارب الشيوعيّة أو تبنّت طرقاً للتعايش مع الرأسماليّة، وبذلت أجهزة المخابرات الغربيّة جهوداً جبّارة لتشويه المشروع الاشتراكيّ برمته، وأُنفقت المليارات لخلق تيارات ماركسويّة مزيفة، فيما انتقل اليسار الأوروبي والأميركي بغالبيته الساحقة إلى ملعب الاشتراكيّة الديموقراطيّة الرّمادي، وصار جناحاً للغرب لا نقيضاً له. وهكذا تحّول المانيفستو تدريجاً من دليل للعمل الثوريّ كان العمّال الشيوعيون الألمان يطلبون أن ترافقهم نسخهم الشخصيّة منه إلى قبورهم بدلاً من الكتاب المقدّس، إلى تركة تاريخيّة تُقرأ من قبل المتخصصين فقط كجزء من أي محاولة (جادة) لفهم تاريخ العالم خلال الأعوام المئتين الأخيرة. ولم يعد من المتيسّر للقارئ العاديّ في أيّامنا عبور مزاج هذا النص الاستثنائيّ أو إدراك المناخ الذي أنتجه، أو تقدير موقعه المركزيّ في سياق تحولات الحداثة الغربيّة.
تشاينا ميلفيل، الروائيّ البريطاني المرموق، يحاول إغلاق هذا الفجوة بين «المانيفستو» والقارئ المعاصر من خلال «شبح يحوم: عن المانيفستو الشيوعي» (A Spectre, Haunting: On the Communist Manifesto ــــــــ أبولو ــــ 2022) كتابه الأحدث، مقدماً في أكثر من 300 صفحة حكاية البيان، وسياقه الكليّ، جامعاً التأريخ بالتحليل، والتقديم بالنقد، متجنباً عادة الأكاديميين الماركسويّين الأثيرة في التنطّع والانعزال عن الجمهور عبر جدران عازلة من المصطلحات المعقدة والمفاهيم المستغلقة، ومستغلاً حرفيته المهنيّة في فضاء السّرد الروائيّ، لينحت نصاً رائقاً على هامش النصّ الأصلي يليق بتمكّن وعمق وذكاء ماركس ورفيقه إنجلز.
مقاربة ميلفيل، التي تضيء على حجج المانيفستو وتفكك منطقه، تستوعب أيضاً الانتقادات الشائعة التي وجّهت إليه، فتذيق القارئ نكهةً منها، وتمنح أغلبها مساحة عادلة لنقاش هادئ من دون انفعالات أيديولوجيّة، قبل أن ينتهي الكاتب إلى طرح استنتاجاته الخاصة حول تأملاته في بنية العلاقة المتناقضة للبيان مع الحقيقة (لناحية وصف الواقع، والانتقال منه لفرض «واقع-متخيّل» على الواقع)، كما في مستقبل الرأسماليّة الذي رآه ماركس كنظام يسير حتماً نحو الحالة الشيوعيّة وقيام دولة البروليتاريا، فيما يبدو أنّها تتجه الآن إلى تدمير الحياة البشريّة على الكوكب برمته عبر كارثة مناخيّة أو نوويّة، وكذلك في المركزيّة الصارمة للصراع الطبقيّ في الرؤية الماركسيّة مقابل الإضافات اللاحقة لمسائل الجندر والعرق والبيئة كمساحات نضال موازية ومنفصلة أحياناً لليساريين المُحدثين.
من المرجّح ألا يتفق أينا مع كل محاور البيان الماركسيّ أو أن يتقبّل المجموعة الكاملة من استنتاجات ميلفيل، لكن مهما كان الموقف الأيديولوجي للقارئ المعاصر، فإنّه سيجد في «شبح يحوم» مقدّمةً لازمة وعادلة وغير عقائديّة - وممتعة أيضاً - للمانيفستو السياسي الأهم في عصر الحداثة.