قسّمت الحرب العالمية الثانية العائلة الملكية البريطانية إلى عائلة أنغلو-ألمانية. مع بزوغ فجر عام 1939، وجد الإخوة والأخوات وأبناء عمومتهم أنفسهم فجأة على طرفي نقيض. وكان هذا بسبب سياسة الملكة فيكتوريا، التي أرادت تأمين السلام في أوروبا من خلال شبكة من الزيجات الملكية. وبالفعل، تزوّجت فيكتوريا ماري لويزا الابنة الكُبرى للملكة فيكتوريا الإمبراطور الألماني فريدريش الثالث عام 1855، لتصبح فيكتوريا الصغيرة أميرة بريطانيا وإمبراطورة ألمانيا، وعُرفت بلقب الإمبراطورة فريدريش.عام 1901، تُوفيت الإمبراطورة فريدريش، وكان ستة من أطفالها الثمانية قد تزوّجوا أفراداً من العائلة المالكة الألمانية. وأقام أحفادها الاثنان والأربعون في القصور والقلاع في جميع أنحاء القارة. أرادت إمبراطورية ألمانيا مِن هذه القوة الناعمة أن ترعى حكومة دستورية على النموذج البريطاني، لكنّ هذا أدّى إلى نتائج عكسية خلال الحربين العالميتين.


يتتبّع كتاب: «الشاي مع هتلر: التاريخ السري للعائلة الملكية والرايخ الثالث» (Tea With Hitler: The Secret History of the Royal Family and the Third Reich - The History Press) لمُخرج الأفلام الوثائقية دين بالمر العلاقات التي تمّت بين العائلة الملكية البريطانية والنظام النازي.
تبدأ الوقائع في الكتاب مِن حياة الدوق تشارلز إدوارد وأخته الأميرة أليس. وُلِد الدوق ونشأ في إنكلترا، حتى أُرسل عندما كان يبلغ 14 عاماً إلى ألمانيا لحكم كوبورغ، وهي مدينة ألمانية تقع في أقصى شمال ولاية بافاريا. بعد الحرب العالمية الأولى، أصبح نازياً متحمّساً، واستخدم هتلر الدوق كقناة دبلوماسية سرية مباشرة إلى قلب المؤسسة البريطانية. ولعب تشارلز دوراً حاسماً في تنظيم زيارة الملك المتنازل عن العرش ودوق وندسور إدوارد الثامن إلى ألمانيا النازية في عام 1937، وساعدته الأميرة أليس، التي استضافت كبار النازيين في منزلها. وشاركت أليس آراء أخيها المعادية للسامية.
أما دوق وندسور إدوارد الثامن، وشقيقه الأصغر دوق كينت، وابن عمهما اللاندغراف النازي -كما أُطلق عليه- فيليب (لاندغراف لقب كان يُستخدم في الإمبراطورية الرومانية المقدسة ولاحقاً من قِبل أراضيها السابقة على نفس رتبة لقب «دوق») قد أعجبوا بالانتعاش الاقتصادي السريع لألمانيا تحت حكم هتلر، واعتبروا الحزب النازي بمثابة حاجز ضد الشيوعية. وقد رفضوا إعلان الحرب على ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وطالبوا باللجوء إلى الحلول الدبلوماسية.
أما أمير اليونان والدنمارك فيليب (الذي أصبح دوق إدنبرة)، والزوج المستقبلي لملكة بريطانيا الراحلة أخيراً إليزابيث الثانية، فقد عاش مع أخته الأميرة صوفي لبعض الوقت في ألمانيا، وقد تزوجت صوفي شقيق اللاندغراف النازي فيليب، أي الأمير كريستوف مِن هِسِّن، وهي إحدى ولايات ألمانيا ومِن أغناها اقتصادياً.
وبالتزامن مع رحيل أمير اليونان والدنمارك فيليب ألمانيا لبدء حياته المهنية في البحرية الملكية البريطانية، تحت رعاية خاله اللورد لويس مونتباتن وابن عم الملكة إليزابيث الثانية، أصبح الأمير كريستوف مُقرباً مِن القائد النازي هيرمان غورينغ مؤسس الجهاز السري «الغستابو»، وقائد قوات الطيران الألمانية، خلال الحرب العالمية الثانية، وتمت ترقية كريستوف بسرعة، ليصبح رئيساً لـ«مكتب الإشارات والتشفير«: وهو وحدة سرية للتنصت على المكالمات الهاتفية للنازية. ولو لم يمت كريستوف في حادث تحطم طائرة عام 1943، لكان فيليب عانى من عار رؤية زوج أخته يواجه محاكمة بارتكاب جرائم حرب. ومثل هذه الفضيحة كان يمكن أن تنهي فرصته في الزواج بملكة بريطانيا المستقبلية.
وسط هذه الشبكة العائلية، قام إدوارد الثامن المؤيد بشدة لألمانيا (دوق وندسور لاحقاً)، الذي تنازل عن العرش عام 1936 ليتزوج بالأميركية واليس سيمبسون، بزيارة أسرية لأدولف هتلر عام 1937 لتناول الشاي في البرغهوف أشهر منازل الفوهرر الآمنة بجبال الألب، وقد قصفته القوات البريطانية في عام 1945، ودُمّر جزئياً في هذه الغارة.
تحدث هتلر والدوق على انفراد لأكثر من ساعة، بينما التقت الدوقة مع نائب الفوهرر رودولف هيس. وتزعم بعض الروايات عن محادثة الدوق أنه انتقد سياسات هتلر، بينما يؤكد آخرون أنه ربما قدّم دعمه الضمني. وفُقد النص المكتوب لاجتماعهم لاحقاً، وربما دمرته الحكومة النازية. غادر الزوجان بعد تناول الشاي مع هتلر بعد الظهر.
وعلى الرغم من الاعتراضات الشديدة من الحكومة البريطانية، ادّعى الدوق أنه كان يقوم برحلة لتفقد ظروف السكن والعمل، لكنه كان يأمل على الأرجح في أن تصقل الرحلة سمعته في الداخل والخارج وربما تحسن العلاقات الأنغلو-ألمانية. وكتب سكرتيره الخاص في وقت لاحق أن الدوق خطّط أيضاً لاستخدام الرحلة لتقديم زوجته للأوساط السياسية الأوروبية، فهي لم تُمنح لقب «صاحبة السمو الملكي» في احتفال زفاف الزوجين، وكانت منبوذة في الأوساط الملكية.
وبالفعل، خلال الرحلة التي استغرقت أسبوعين، عومل إدوارد وسيمبسون مثل النجوم، وقوبلوا بحشود ضخمة مبتهجة، واستقبل العديد من النخبة الألمانية الملك السابق بالتحية النازية، وقوبلت الزوجة بمراسم ملكية لم تحصل عليها في بريطانيا. وتناولا العشاء مع العديد من كبار المسؤولين النازيين، بمن في ذلك هيرمان غورينغ وجوزيف غوبلز، بل زارا مدرسة تدريب لقوات SS السيئة السمعة.
زادت الرحلة من المخاوف بشأن ولاءات الزوجين، إذ أصيب كثيرون بالرعب من افتقار الدوق إلى الحكم والفطرة السليمة. وقامت الولايات المتحدة بمنع رحلة مخطّطة لسفر الزوجين لها عندما احتجّ أعضاء بارزون في المنظمات اليهودية الأميركية على أن الزوجين تجاهلا اضطهاد ألمانيا لليهود.
منذ أن صعد إدوارد على العرش في عام 1936، تشكّلت مخاوف جدية مِن علاقاته كونها قد تشكل خطراً على الأمن القومي البريطاني. لكن مع تزايد وتيرة الأحداث، تدخّل رئيس الوزراء ستانلي بالدوين آنذاك، وأعطى تعليمات لوكالة المخابرات الداخلية البريطانية، ببدء مراقبة الزوجين إدوارد وسيمبسون. وتم التنصت على هواتفهما، والتنصت على أعضاء فريق الأمن في سكوتلاند يارد لتقديم معلومات عن كل حاشيتهما.
لم يكن البريطانيون وحدهم يشعرون بالقلق. بعد اندلاع الحرب، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي ملفاً ضخماً خاصاً بالزوجين، وراقب عن كثب زياراتهما للولايات المتحدة، ومن بين مئات الصفحات تم إرسال العديد من المذكّرات إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، محذرين من ولاءات دوق ودوقة وندسور المؤيدة لألمانيا النازية.
في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، تم اكتشاف مخبأ كبير لملفات وزارة الخارجية الألمانية في قلعة ماربورغ. من بين 400 طن من المراسلات، كانت هناك حوالي 60 وثيقة وبرقية، أصبحت تُعرف باسم «ملف وندسور»، توضح تفاصيل الاتصال الألماني مع دوق ودوقة وندسور قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها.
تضمّن الملف تفاصيل خطة سرية تحمل الاسم الرمزي «عملية ويلي». في عام 1940، هرب الدوق والدوقة من باريس التي احتلها النازيون وسافرا إلى إسبانيا والبرتغال المحايدتين. وأمر وزير الخارجية الألماني يواكيم فون ريبنتروب المسؤولين النازيين المحليين بمقابلة الزوجين، اللذين زعمت الوثائق أنهما أعربا عن استيائهما من كل العائلة المالكة البريطانية، وحكومة وينستون تشرتشل.
في شهر تموز (يوليو) من ذلك العام، وفي محاولة لإخراجه من أوروبا وبعيداً عن النفوذ الألماني، أمر رئيس الوزراء تشرشل الدوق بتولي منصب جديد كحاكم لجزر الباهاما. وكان إدوارد متردداً في الذهاب، ولعب فون ريبنتروب على تلك المخاوف، إذ زُعم أنه قدّم معلومات كاذبة للزوجين عن تعرضهما لخطر الهجوم أو الاغتيال من قبل عملاء سريين بريطانيين. وحاول المسؤولون النازيون أيضاً إقناع الزوجين بالعودة إلى إسبانيا، بالقوة إذا لزم الأمر، وتقديم دعمهما للمجهود الحربي الألماني، والذي إذا انتصر سيشهد الإطاحة بالملك جورج السادس، وتعيين إدوارد مكانه كملك ومعه سيمبسون كملكة هذه المرة.
وفقاً لـ «ملف وندسور»، لم يستبعد الزوجان الخطة، ولم يُبلغا السلطات البريطانية بهذه المحادثات. وقد أخّرا رحيلهما لمدة شهر تقريياً. لكن على الرغم من الجهود التي بذلها النازيون في اللحظة الأخيرة، بما في ذلك ادّعاء تهديد قنبلة كاذب على السفينة التي تم حجز الزوجين عليها، غادر الدوق والدوقة البرتغال أخيراً وقضيا بقية فترة الحرب في جزر الباهاما، حيث استمرا في التشكيك علناً في قدرة بريطانيا على كسب الحرب.
في البداية، وافق المسؤولون البريطانيون والفرنسيون والأميركيون على رفع السرية عن أوراق ماربورغ وإصدارها وتوظيف فريق من المؤرّخين لفرز المجموعة الضخمة، وهي عملية استمرت سنوات. ولكن كما تظهر وثائق الحكومة البريطانية الصادرة عام 2017، حاول تشرشل منع نشر ملف وندسور، بما في ذلك تفاصيل عملية ويلي. وذهب إلى حد الاتصال بالرئيس الأميركي أيزنهاور، الذي عمل جنباً إلى جنب مع تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية. وزعم تشرشل أن الوثائق متحيزة وغير موثوقة، ومن المرجح أن تُسيء إلى العائلة الملكية، وبالفعل توافق مع أيزنهاور على حجب الملف لمدة 10 أو 20 عاماً على الأقل.
حاول تشرشل منع نشر ملف وندسور، بما في ذلك تفاصيل عملية ويلي


أخيراً، ليس من المستغرب، خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، انخراط العديد من أفراد العائلة المالكة البريطانية بعمق في الأفكار الفاشية، وحتى الإيديولوجية النازية. فمنذ القرن التاسع عشر، كان اليهود يمثلون الليبرالية التي رفضتها الطبقة الأرستقراطية. لذا فإن معاداة السامية التي سادت الإيديولوجية النازية لم تكن المعضلة الأخلاقية لأعضاء الطبقة الأرستقراطية الألمانية أو البريطانية. فقد كان يُنظر إلى اليهود على أنهم بلاشفة شيوعيون يهددون بقاء الطبقة الأرستقراطية نفسها.
وعلى الرغم من أن النازية شنّت بوضوح حرباً إيديولوجية على الطبقات العليا، إلا أنها، على عكس البلشفية، لم تهدد بنزع الملكية الخاصة من الأرستقراطيين. وبينما سخر هتلر علناً من أعضاء الطبقة الأرستقراطية واصفاً إياهم بالمنحطّين، إلا أنه كان يعلم بشكل خاص مدى فائدة مجموعة من الأفراد المرتبطين اجتماعياً في لعبة السياسة الدولية.