«اتّبعت في معجمي هذا منهج التنقيب الأثري، ولكن بدلاً من الحفر في باطن الأرض والتنقيب في مساحات شاسعة عن قطعة أثرية، ربما تكون هنا أو هناك، قمت بالتنقيب معرفياً ولغوياً في بطون كتب التراث وفي فضاءات اللغة العربية الساحرة والذاخرة بالكنوز القيمة. ما قادني إلى هذا النهج هو الاستعاضة عن إهمال المكتشفات الأثرية في جزيرة العرب، لا سيما أن أغلب المواقع القيّمة دفنتها رمال الصحراء، عدا عن تعرُّض الكثير منها للسرقة والتخريب وعدم الاهتمام. وتأتي أهمية هذا المعجم من كونه تتويجاً لأعمال السابقين من أهل الأخبار والسير، القدماء منهم والمعاصرون، وقد تمكنت من إحصاء أكثر من ثلاثمئة وثلاثين صنماً عبدتها العرب في مراحل مختلفة من حياتهم قبل الإسلام، ومنها ما استمرت عبادتها إلى ما بعد ظهور الإسلام». بهذه الملاحظة المنهجية يصدّر الكاتب السوري المقيم في هولندا جورج كدر (1978) كتابه القيّم «معجم آلهة العرب قبل الإسلام» الذي أصدرت «دار الساقي» أخيراً طبعته الثالثة في الذكرى العاشرة على طبعته الأولى.

المشروع جزء من مسيرة لا تعرف الكلل ابتدأها الباحث الحمصي منذ حوالى عقدين من الزمن بكتابه «جذور النكتة الحمصية» (دار رسلان ــ 2005) الذي يستكشف جذور النكتة وأسباب إطلاقها على أهل مدينته حمص وما كشفه التراث الشعبي بأنّ لأهل المدينة عيداً يحتفلون به يوم الأربعاء وهو «عيد المجانين». وصل في بحثه إلى أن «عيد المجانين» كان عيداً قديماً من أعياد الربيع المقدسة في الشرق القديم. كما أن حمص كانت كعبة للحجاج بمفهوم ذلك الوقت، واستطاعت ذاكرة مدينة حمص أن تحتفظ بواحد من الأعياد المقدسة في ذاكرتها الجماعية برمزيته ودلالاته الاجتماعية أكثر من طقوسه الوثنية. هذه الرحلة في نكتة حمص وأعيادها دفعت كدر إلى سلسلته المهمة الأخرى «مكتبة الجنس في حياة العرب» (أطلس): «فن النكاح في تراث شيخ الإسلام جلال الدين السيوطي» بأجزاء ثلاثة، و«سقيفة حبى» (2011) و«نون الصريح المدفون» (2012)، إضافة إلى كتابين محقَّقين: «نزهة المتأمل ومرشد المتأهل (في فضائل النكاح)» لجلال الدين السيوطي (2012)، و«رشف الرضاب وفاكهة الأحباب» (2013) لمحمد راجي الحلبي الساعاتي.
مكتبة شاملة أقرب إلى بانوراما مدهشة للحرية الجنسية عند العرب القدماء، وتداخل رؤيتهم إلى الجنس بالرؤيا إلى الحياة والوجود، والحوار مع الدين في نظرية فلسفية للحياة لا ينفصل فيها المادي عن الروحاني، ويتداخل فيها المقدس والمدنس بطريقة جدلية خلّاقة أبعد ما تكون عن الإسقاطات والرؤى الاستيهاميّة للاستشراق عن الجنس في الشرق وعالم الحريم والجواري. هذا البحث في بطون كتب التاريخ وتماس الأرضي والسماوي في حياة الإنسان العربي القديم وأفقه المفتوح على الرمال والنجوم على حدّ سواء، هو ما جعل كدر يشرع في مؤلفه «معجم آلهة العرب قبل الإسلام». أول ما يبرز في الكتاب نقطة هي غاية في الأهمية تتمثل في الرد على المزاعم القائلة بضيق أفق الحياة الدينية للعرب قبل الإسلام. يؤكد الباحث بأنه لا يوجد شعب من شعوب الأرض قاطبة عرفت حياته الدينية والفكرية، التنوّع والتعدّد، كما كانت عليه الحال في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويضيف بأن الحياة الدينية العربية قد ضجّت بتنوع لا محدود في عبادتها، ورأت في الظواهر الكوكبية والسمائية عبادات لا تقل أهمية عن الظواهر الأرضية التي حار الإنسان في إيجاد تفسير لها: «يخطئ من يظن أنّ العرب اقتصرت عباداتها على ما جسّدته من أصنام عبدتها بذاتها، لأن العرب عبدوها (زُلفى) وتقرّباً من كائن علوي يتربع على عرش مجمع الآلهة. ويخطئ من يظن أيضاً، أن دين العرب قبل الإسلام اقتصر على معبودات أرضية، ففي اليمن القديم عُرف إله باسم «ذو سمائي» وآلهة بـ «ذات سمائي» أي صاحب السماء، وصاحبة السماء. هذا يعني في ما يعنيه أن العرب اعتقدت بـ «سكان السماء» وجعلوا منهم آلهة لهم. في دين العرب القدماء، نجد آلهة كوكبية ونجد بين آلهتهم أيضاً آلهة الخصب وآلهة الموت وآلهة الحرب وآلهة التجارة والقوافل وآلهة السلام وآلهة البحر وآلهة الجبال، كلها وردت في تنوّع مدهش جعل منها «موزاييك» أضفت بعداً جديداً على نظرتنا. قبل مئات وربما آلاف السنين، يأتي هذا التنوع إلى مجتمعهم كصيرورة طبيعية لتطور الفكر الديني العربي الذي شكّل الإسلام آخر حلقاته، وامتدّ من جزيرة العرب إلى العالم بأسره». استند كدر في مؤلفه على مجموعة من أمهات كتب التراث، معتمداً على «كتاب الأصنام» لابن الكلبي، ومحاولة محققه العلامة أحمد زكي باشا متابعة هذا العمل في ملحق اسماه «تكملة الأصنام»، ومعتمداً في العصر الحديث على العلامة العراقي جواد علي الذي يُعدّ أبرز من خاض في هذا الميدان في سلسلته العظيمة «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» بأجزائه العشرة، سيما الجزء السادس الذي خصّصه لأديان العرب وآلهتهم، وكذلك على ما تناثر في كتب أعلام من التراث مثل ابن دريد وابن حبيب من أسماء أصنام وآلهة العرب القدماء، لا يكتفي جورج كدر بعرض أكثر من 360 من آلهة العرب فحسب، بل يشرع في إزالة الغبار عن الكثير من المرويات والأخبار حول معتقدات العرب القديمة. يقابل بين الأخبار ويسرد الأساطير المرتبطة بها وموقف الرسول العربي والمتأخرين منها. ففي قصة إساف ونائلة مثلاً التي أفرد لها الباحث العراقي فاضل الربيعي كتاباً كاملاً (دار جداول، 2012)، نقرأ: «إساف ونائلة صنمان عظيمان لقريش على شكل زوجين كانت العرب يتمسحون بهما وينحرون ويذبحون عندهما، وكانوا يحلقون رؤوسهم عندهما إذا نسكوا، ولم تكن تدنو منهما امرأة طامث. وكانت ثيابهما كلما بليت أخلفوا لهما ثياباً.
وكان الطائف إذا طاف بالبيت، يبدأ بإساف فيستلمه ويتمسح به، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها فكانا كذلك حتى كان يوم الفتح فكسرها مع ما كسر رسول الله من الأصنام. تقول روايات الإخباريين: إنهما كانا رجلاً وامرأة من جرهم تعشّقا بعضهما وزنيا في الكعبة فمُسخا حجرين، واللافت أن الفاكهي يعتمد ضمن ما يعتمد من مصادر روايته على «رواية أهل الكتاب» وهذا يشير إلى أن إسافا ونائلة كانت من المرويات التي يتداولونها في كتبهم». ثم لا يلبث كدر أن يشرع في شرح تسميتهما والأشعار والتلبيات التي قيلت فيهما، وموضعهما، وطقوس عبادتهما استناداً إلى روايات الطبري وابن الكلبي والأزرقي وابن حبيب وصولاً إلى تطور موقف الرسول منهما من الاستنكار إلى الرفض والكسر، فعرض الباحث ابن عساكر عن ابن عباس: «كان محمد صلّى الله عليه وسلّم يقوم مع بني عمته عند الصنم الذي عند زمزم، واسم الصنم إساف، قال: فرفع رأسه يوماً إلى ظهر الكعبة ثم ولى ذاهباً.
الحياة الدينية العربية ضجّت بتنوع لا محدود

قال: فقال له بنوعمته: ما لك يا محمد؟ قال: إني نهيت أن أقوم عند هذا الصنم» ثم ينتقل لعرض الرواية الثانية عن بريدة قائلاً: دخل جبريل عليه السلام مسجد الحرام، فطفق يتقلب، فبصر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم نائماً في ظل الكعبة. فأيقظه فقام ينفض رأسه ولحيته من التراب. فانطلق به نحو باب بني شيبة، فلقيهما ميكائيل، فقال جبريل لميكائيل: ما يمنعك أن تصافح النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أجد من يده ريح النحاس، فكأن جبريل أنكر ذلك، قال: أوقد فعلت؟ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم نسي ثم ذكر، فقال: صدق أخي، مررت أول أمس على إساف ونائلة فوضعت يدي على أحدهما، فقلت: إن قومي رضوا بكما إلهاً مع الله، لقوم سوء». إضافة إلى المتعة المعرفية والتاريخية، تكمن أهمية كتاب «معجم آلهة العرب قبل الإسلام» في أن المؤلّف يتناول بالبحث والعرض ثاني أقانيم الثالوث المحرم كما سماه المفكر السوري بو علي ياسين، أي ثالوث الجنس والدين والسياسة، واعداً قراءه، كما يقول في أحد أحاديثه للصحافة، بوجبة دسمة حول السياسة والتراث قريباً.