غالباً ما يظلم التاريخ شخصيات لعبت دوراً هاماً ومفصلياً في حقبة ما، ويهملها المؤرّخون والكتّاب عن قصور أو تقصير أو عن سابق إصرار وتصميم لغاية في نفس المستحكمين بالبلاد والعباد. وللبنان باع طويل في هذا المضمار الذي لم يتفق أبناؤه على تاريخ مشترك لبلادهم. لعلّ الشيخ حسين مغنية (1863-1940) من أبرز تلك الشخصيات التي لم ينصفها التاريخ في لبنان على الرغم من الأدوار التي اضطلع بها في أكثر من مجال. حسناً فعل الشيخ حسن حمود باختياره هذه الشخصية وما تحمل من مزايا ومآثر موضوعاً لكتابه بعنوان «علّامة جبل عامل الشهير الشيخ حسين مغنية» (دار المحجّة البيضاء).مغنية ابن بلدة طيردبا الجنوبية، التي أحالها إلى محجّة للناس الذين كان يأتونها من كل حدب وصوب، ومن مختلف الطوائف اللبنانية، ليتحاجّوا ويحتكموا إلى فتواه. وحكمه كان نافذاً، والويل لمن يخالفه، فيسقط بين الناس وسرعان ما يتوارى عن الأنظار حتى لا يقال عنه: خالف رأي الشيخ مغنية الذي كانت دارته تعجّ بالناس من الصبيحة إلى الغروب، والصلاة تشهد زحاماً كثيفاً، حتى لُقبت بلدة طيردبا بـ «كعبة الوافدين» حسب تعبير قريبه الشيخ محمد جواد مغنية.


وقد تعلّق الناس بالشيخ وازدادت ثقتهم به بعد إقامته لصلاة الاستسقاء في سهل قريب من طيردبا عام 1924، بعد انقطاع طويل لهطول الأمطار، ما سبّب قحطاً شديداً وكاد الجوع أن يضرب منطقة جبل عامل. و«استجابت له الطبيعة وهطلت الأمطار فور انتهائه من الصلاة». وهذه الحادثة يذكرها الشيخ المجتهد إبراهيم سليمان في مخطوطاته عن علماء جبل عامل ويتداولها الناس من ذلك الحين.
وينقل الكاتب حمود أنه كان العرف السائد في جبل عامل وبلاد الشام، أن يُعين المفتي أو القاضي من قِبل الولاة والحكام العثمانيين، أو من سلطة الانتداب الفرنسي، بينما الشيخ مغنية اكتسب صفة الإفتاء والقضاء الشرعي من المرجعية الدينية في النجف الأشرف. وحينما حملوا إليه مرسوماً من رئيس الجمهورية اللبنانية شارل دباس، يقضي بتعيينه رئيساً لمحكمة التمييز الجعفرية العليا في لبنان، رفض المنصب وقال جملته الشهيرة التي لم يرتقِ إليها السواد الأعظم من رجال الدين، سواء في الأمس أو اليوم، «أنا موظّف عند الله، والذي يتوظّف عند الله لا يتوظّف عند أحد».
يقول حمود في كتابه إنّ مغنية لم يتفرغ للعبادات والأمور الدينية وحسب، بل تصدّى لهموم الناس ومشاكلهم السياسية والاجتماعية والتربوية والحياتية، وصُنف بإجماع العلماء «علّامة جبل عامل» وكان يعرف بـ «الشهير». وعرّفه السيد محسن الأمين بـ «شيخ الطائفة والقدوة والفقيه»، وقال عنه الشيخ عبد الحسين شرف الدين إنه «كبير العلماء الشرعيين وحجة الإسلام».
ونظراً إلى دور الشيخ البارز في السياسة في حقبة الانتداب الفرنسي، أفرد الكاتب فصلاً كاملاً من كتابه عن ذلك الدور المليء بالمواقف الوطنية، إذ كان الشيخ من أولى الشخصيات اللبنانية التي رفضت وضع المنطقة تحت الانتداب، وطالب باستقلال سوريا التام والناجز بحدودها الطبيعية التي تضم قسميها الجنوبي، وبالتالي لم يوافق على إنشاء دولة لبنان الكبير، وقد ضمّن الشيخ هذه المواقف والمطالب في الوثيقة التي أعدّها وقدّمها إلى لجنة King Crane الأميركية لتقصي الحقائق والاطّلاع على آراء الناس في موضوع الانضمام إلى دولة لبنان الكبير. ترأّس مغنية آنذاك وفد علماء ووجهاء جبل عامل الذي قابل أعضاء اللجنة المذكورة.
ويذكر الكاتب أن مغنية من أبرز الشخصيات التي وقفت في وجه سلطات الانتداب، وكان من الفريق الذي دعا إلى مقاومة الفرنسيين، والاستمرار في التصدي لهم، أثناء انعقاد مؤتمر الحجير عام 1920. وفي المقابل، كان هناك فريق يدعو إلى إلقاء السلاح وإيقاف المقاومة وعدم مواجهة الفرنسيين، والعمل بأسلوب المقاومة السلمية، التي تدعو إلى استخدام سياسة الاحتجاج والاعتصامات ضد الفرنسيين. لكنّ قدرة إقناع الشيخ مغنية ومكانته الدينية الرفيعة مع زميله السيد شرف الدين حسمت الخيار لصالح الفريق الداعي لمقاومة الفرنسيين. وانتخب المؤتمرون الشيخ مغنية لتولي نقل مطالبهم إلى الملك فيصل في الشام، لكنّ الأخير اعتذر وانتدب عنه السيد شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين.
رفض وضع المنطقة تحت الانتداب، وطالب باستقلال سوريا


ظلّ الشيخ مغنية إحدى أبرز الشخصيات المؤثّرة في تحريك الشارع ضد الفرنسيين الذين لم يتوانَ مفوّضهم السامي في لبنان عن بذل كل الجهود للتأثير في الشيخ وثنيه عن مواقفه المعادية لسلطات بلاده، ما اضطره مرةً ليزوره في بلدته طيردبا، حيث ترجم الشيخ موقفه الرافض للوجود الفرنسي على أرض بلاده من طريقة استقباله للمفوّض، إذ لم يعر أيّ أهمية لرتبة الضيف العسكرية والجهة التي يمثلها. استقبله في فسحة صغيرة مصبوبة بالباطون تتقدّم منزله المتواضع، تُعرف بـ «المصطبة»، ورفض اقتراح ابنه لناحية استقباله في العليّة تكريماً للضيف وموقعه. وأجلسه على مسندين، الجلوس على الأرض ألين منهما وأسلس، في الوقت الذي اعتاد فيه الضيف أن يجلس عند مضيفيه اللبنانيين على كرسي وثير وتُضرب له الموائد. وبالتالي لم يكلّف الشيخ ضيفه عناء معرفة موقفه منه ومن سياسات بلاده في منطقتنا، فكانت طريقة الاستقبال أبلغ رسالة للضيف الكبير.
كثيرة مآثر ومواقف الشيخ مغنية التي لم يترك الكاتب شاردة أو واردة منها إلا وضمّنها في كتابه، ولم يترك مكتبة أو داراً أو شيخاً كبيراً إلا وطرق بابه لقلة المصادر التي تناولت سيرة مغنية، نتيجة الإجحاف الممارس بحقه وإعلاء أسماء شخصيات أخرى أقلّ منه شأناً ومكانة دينية وعلمية. وسكب ما توصل إليه بأسلوب وبمنهجية علمية، ولا سيما لناحية التوثيق والمصادر والمراجع المعتمدة في الكتاب، كونه في الأصل رسالة ماجستير في التاريخ أعدّها الكاتب الشيخ حسن حمود.