شاعر اشتغل في وكالة تجاريّة للشّحن البحريّ، مترجماً مراسلات غالباً. غامض الأطوار، متقلّبها، مضطربها. هكذا يمكن تلخيص حياة فرناندو بسوا (1888 ــ 1935). فهذا الشّخص — اللّاشخص — الانطوائيّ الذي أدار ظهره للبرتغال بكاملها كان يخفي وجهه خلف نظّاراته السّوداء السّميكة واسمه خلف أغياره الـ 72. أوَليس معنى Pessoa بالبرتغاليّة هو: شخص؟ وباللّاتينيّة قناع؟ ولد پسوّا في لشبونة سنة 1888. في الثامنة من عمره، يرحل مع أمّه — بعد موت أبيه وزواجها من دبلوماسيّ سيصير قنصلاً للبرتغال — إلى دربان في جنوب أفريقيا، حيث تيسّر له تعلّم الإنكليزيّة حدّ كتابة الشّعر بها وإجادته. في سنّ الثامنة عشرة، يعود إلى لشبونة ولا يغادرها قطّ، ذائباً في زحمتها، مغموراً، جاهلاً بذاته. قرأ بنهم الرّمزيين الفرنسيين، الفلاسفة الألمان (خصوصاً نيتشه وشوبنهاور) والإشراقيين الأنغلوسكسون. لكنّ قراءاته لا تظهر ذات أثر في شعره، فيما خلا الكتاب اللّاتينيين. كتب في جميع الأجناس الأدبيّة من دون استثناء. لكلماته الأخيرة على فراش الموت، في 1935، دلالة معبّرة، فهو في بحث دائم عن الأقنعة حتى في آخر دقائق حياته. أكان يخاتل الموت ويراوغه؟! قبل أن يلفظ أنفاسه، صاح، في ما يشبه الدّعابة السّوداء، «ناولني نظاراتي». هنا مقتطفات من كتاب صادر حديثاً بعنوان «أنا لست هنا» (دار خطوط وظِلال، عمان/الأردن ـ ترجمة: رشيد وحتي)
بورتريه بسوا (آنا باك فابيل)


1. لا قيمة للمفارقة إلّا إذا لم تكن كذلك.

2. الأدب، كأيّ شكل فنّيّ، اعتراف بأنّ الحياة لا تكفي.

3. كلّ الفنّ شكل من أشكال الأدب، لأنّ كلّ الفنّ يتمثّل في قول شيء ما. ثمّة شكلان للقول: الحديث والصّمت. الفنون الّتي ليست أدباً إسقاطات لصمت معبّر.

4. العنصر الواقعيّ الوحيد، في الحياة، هو الإحساس. العنصر الواقعيّ الوحيد، في الفنّ، هو الوعي بالإحساس.

5. الفنّ، عموماً، تعبير متناغم عن وعينا بالأحاسيس. بعبارة أخرى، ينبغي أن يعبّر عن أحاسيسنا بحيث تبتكر شيئاً يصير، بالنّسبة إلى الآخرين، إحساساً.

6. مبادئ الفنّ هي:
أ. كلّ إحساس ينبغي أن يعبّر عنه بشكل كامل.
ب. ينبغي أن يعبّر عن الإحساس بحيث يستطيع الإيحاء.
ج. ينبغي للكلّ الناتج عن ذلك أن يماثل، بقدر الإمكان، كياناً منظّماً: لن يحيا أبداً إلّا بهذا الشّرط.

7. الشاعر هو من يذهب يوماً فيما وراء ما يستطيع أن يفعل.

8. الشاعر الفحل يقول ما يحسّ به حقاً؛ الشاعر المتوسّط يقول ما قرّر أن يحسّ به والشاعر الأضعف يقول ما يظنّ أنّه يتوجّب عليه الإحساس به.

9. ثمّة أحياناً لذّة جماليّة في أن نترك — دون أن نعبّر عنه — انفعالاً، يستوجب مروره كلمات، يمرّ. لا حقّ لأيّ شاعر أن يقرض أبياتاً فقط لأنّه راغب في ذلك.

10. لا أهتمّ بالقوافي. ينذر أن تجد شجرتين متساويتين طولاً جنباً لجنب.

11. كشكل فنّيّ، أوثر النّثر على البيت الشّعريّ.

12. إنّ الخيال هو ما شكّلني. كي أسافر، أخذ دوماً بيدي. دوماً أحببت، كرهت، تكلّمت، فكّرت، بفضله. كلّ يوم، أنظر من خلال نافذتي. وكلّ ساعة — هكذا — تبدو رهن إشارتي.

13. يحدث لي أن أؤكّد بأنّ القصيدة شخص، كائن حيّ، بأنّها تنتسب، بحضور جسديّ ووجود شهوانيّ، إلى عالم آخر حيث يدفع بها خيالنا.

14. أن أبتكر بداخلي دولة، سياسة، أحزاباً، ثورات؛ وأن أكون كلّ هذا؛ أن أكون اللّه من خلال حلوله في كلّ كائنات هذا الشّعب-أنا، جوهر وفعل أجساده، أرواحه، الأرض الّتي يطؤونها والأفعال الّتي يقترفونها. أن أكون كلّ شيء، كلّ هذا ولا كلّ هذا. يا لي، أنا المسكين! هو ذا حلم آخر لا أستطيع تحقيقه.

15. هذا النّزوع لأن أختلق، من حولي، عالماً آخر — شبيهاً بالعالم الماثل أمامي — ولكن معمّراً بسكان آخرين، لم يغادر أبداً مخيّلتي.

16. ما يحصل لي، في العمق، هو أنّني أجعل من الآخرين حلمي الخاصّ، خاضعاً لآرائهم كي أتملّكهم (بما أنّه لا رأي لي، فلم لا آخذ بآرائهم، أو بأيّ آراء أخرى)، كي أخضعهم لنزوعاتي وكي أجعل من شخصياتهم شيئاً ما شبيهاً بأحلامي.

17. هل هي عادتي في أن ألتفّ حول نفسي في روح الآخرين هي ما يدفعني لأن أرى نفسي كما يراني الآخرون أو كما سيرونني لو أعاروا لي أقلّ قدر من الاهتمام؟ نعم.

18. المادّة تسيء معاملتي كلّ يوم. حساسيّتي شعلة في مهبّ الريّح.. أمي وسط أشباح معاديّة تفتّقت عن مخيّلتي المريضة الّتي ثبّتتها على شخصيات واقعيّة.
19. نعم، أن أحلم، مثلاً، في نفس الوقت وبانفصال، دون التباس، بأنّي رجل وامرأة نزهة يقومان بها على شطّ النّهر.

20. روحي أوركسترا سرّيّة؛ أجهل أيّ آلات أعزف عليها وأيّها يصرّ بداخلي. لا أعرف نفسي إلّا كسيمفونيّة.

21. أمرّ وها أنا هنا، كالكون.

22. ننام خلال الحياة، يا أبناء القدر الخالدين.

23. لم يصنع العالم لنفكّر فيه (التّفكير هو أن تألم العينان)، بل لننظر إليه بعين الرّضا...

24. لفّ العالم حول أصابعنا كخيط أو شريط تلعب به امرأة تحلم عند نافذتها.

25. حوالي نهاية مارس/ آذار (إذا لم تخنّي الدائرة)، صرت وسيطاً روحانياً. انهمكت في الكتابة الآليّة (الأوتوماتيكيّة).

26. أحياناً، باللّيل، أطبق عينَيّ وأرى، فيما يبدو لي، تجلّياً لمتوالية من اللّوحات الصّغيرة، في لحظات خاطفة، ولكن بجلاء (بقدر جلاء العالم الخارجيّ): ثمّة شخصيات غريبة، رسوم وعلامات رمزيّة، أعداد (سبق لي، أيضاً، أن رأيت أعداداً) إلخ. وأحياناً — في إحساس عجيب — يحدث لديّ انطباع بأنّي أنتسب إلى شيء آخر.
27. قضيت الشّهور الأخيرة في قضاء هذه الشّهور الأخيرة. لا شيء آخر، جدار من السّأم تعتليه شقفات من الغضب.

28. روحي دوامة سوداء، دوار كبير حول الفراغ، شفط بحر بلا نهاية نحو حفرة في الفراغ؛ وفي هذه المياه، أو بالأحرى هذا الدّردور، ثمّة تطفو دوماً الصّور الّتي تيسّر لي أن أراها وأن أسمعها من خلال العالم.

29. مع الدّوار المادّيّ، يدور العالم الخارجيّ حولنا؛ أما مع الدّوار المعنويّ، فعالمنا الداخليّ هو الّذي يدور حولنا. حدث لي، ذات لحظة، انطباع فقدان الوعي بالرّوابط الحقيقيّة بين الأشياء، عدم الفهم ساعتها، الوقوع في هاوية من الفراغ الذّهنيّ. إنّه إحساس بشع، تصيبنا بهلع فائق الحدود. لقد صارت هذه الظّواهر مكرورة، ويبدو أنّها تختطّ لي طريقاً نحو حياة ذهنيّة جديدة، ستكون، بطبيعة الحال، جنوناً.

30. من جهة الطّبّ النّفسيّ، أنا مصاب بهستيريا الخور العصبيّ، ومن حسن الحظّ أنّ اختلالي العصبيّ واه، عنصر الخور العصبيّ يهيمن على العنصر الهستيريّ...

31. إحدى علل روحي — فظاعة لا تُقال — خوفي من الجنون، وهو ما يمكن إذاً اعتباره جنوناً. من المستحيل تعريف هذه الدّوافع النّفسيّة، بعضها إجراميّ، البعض الآخر أخرق، تؤدي، وهذا ما يعذّبني، لرغبة فظيعة في التّحرّك، تعضيل رهيب، إحساس في العضلات، يبدو لي الآن أكبر من أيّ وقت مضى، سواء بتواتره أو بعنفه.

32. يمكن للإنسان، إن كان بحقّ حكيماً، أن يستلذّ، جالساً على كرسيّ، بكلّ فرجة العالم، دون معرفة بالكتابة، دون الحديث مع أحد، دون أن يستعمل شيئاً آخر غير حواسّه، شريطة أن لا تكون روحه كدرة أبداً.

33. الإحساس بكلّ شيء، بجميع الطّرق.

34. حارس قطعان أنا، القطيع هو أفكاري، وأفكاري كلّها أحاسيس.

35. لا يهمّ إن أحسسنا بما نعبّر عنه: يكفي — بعد التّفكير فيه — أن نعرف كيف نتظاهر أنّنا أحسسنا به.

36. أبحث دوماً عن قول ما أحسّ به دون أن أقول لنفسي ما أحسّ به.

37. كلّ انفعال حقيقيّ كذب بالنّسبة إلى الذّكاء ما دام منفلتاً منه.

38. لا تطاوع ما تحسّ به أو ما تفكّر به عندما تكفّ عن الإحساس أو التّفكير به. عندئذ تستطيع استعمال حساسيتك لصالحك، ولصالح الجميع...

39. الجوهريّ هو أن نعرف أن نرى، أن نرى دون تفكير، أن نرى حين نرى، لا أن نفكّر حين نرى، ولا أن نرى حين نفكّر.

(*) من كتاب بالعنوان نفسه صدر حديثاً عن «دار خطوط وظِلال»