اهتممت بمشروع التحديث في العالم العربي ونكساته، كيف تفسّرين تراجع هذا المشروع رغم الآفاق التي حاول بعض المفكرين العرب التبشير بها منذ القرن التاسع عشر؟- نشأ مشروع التحديث في العالم العربي منذ القرن التاسع وهو يحمل بذور فشله ـــ أو على الأقلّ بذور محدوديّته ـــــ لأنّه أعرض عن أهمّ شرط من شروط التحديث، وهو كسر روابط الاستبداد: استبداد السائس، استبداد رجل الدين، استبداد القيم التقليديّة، وغيره.. فروح الحداثة هي روح الانعتاق والتحرر، القادرة على إطلاق قوى الإبداع والإضافة في مختلف المجالات. وهذا ما بدا ضعيفاً في المشروع النهضوي، في مقابل الحضور البارز لنزعة التوفيق أو التلفيق التي عكستها ثنائيّات بارزة من قبيل الجمع بين تراثنا ومكتسبات الغرب، بين ما هو قديم وما هو حديث، بين السلطات القديمة المتحكّمة بعمق في ضمير العربي والتحرّر الشكليّ والمحدود. ولا تفعل هذه الثنائيّات إلّا التأسيس لبناء «جديد» على قديم ينشز عنه، ووضعه في قوالب جاهزة تفقده فاعليّته وتفرّده. صحيح أنّ مفكّري عصر النهضة كانوا مشدودين إلى رهانين: رهان التحديث وإثبات الذات إزاء «الآخر» الذي فاجأهم بتفوّق نوعي لم يعهدوه، ورهان الدفاع «الماضويّ» عن هويّة باتت مهدّدةً بحكم النزعات الاستعماريّة التي بدأت بوادرها تنكشف في أكثر من مناسبة. هذان الرهانان هما اللذان دفعا مفكّري النهضة إلى توليفة فاشلة ما زلنا نعاني من تبعاتها إلى اليوم: نحافظ على القديم لأنّه مقوّم هويّتنا ولا يتعارض مع الحداثة، ونتبنّى من الحداثة ما يتناسب معه فقط. وكانت النتيجة أن تحسّنت الواجهة وظلّ الكيان خَرِباً. يكفي أن نسجّل أنّنا عرفنا مفكّرين مصلحين منذ عصر النهضة، ولم نعرف فلاسفة، حتّى نفهم سبباً من أسباب التعثّر في التحديث: فمنطق الإصلاح منطق براغماتي يبحث عن نتيجة عاجلة وبناء سريع وإن كانت أسسه هشّة، بينما منطق الفلسفة هو منطق المراجعات الجذريّة التي تبحث في شروط البناء العميق والدائم. مراجعات ينهض بها إنسان متحرّر، قادر على التفكير النقديّ وعلى الفعل. وإلى اليوم يظل المجتمع العربي في حاجة إلى هذا الشرط الفلسفي للنهضة، أي في حاجة إلى فلاسفة عرب يتكفّلون بنقل الوعي العربي من أرضيته الكلاسيكية البائدة، إلى آفاق الحداثة في بُعديْها العربيّ والإنساني الكونيّ. إذاً، الانتكاسات المتكرّرة في مسار التحديث، هي من عمل الإصلاح السطحيّ والهشّ الذي اختار السير فيه المفكّرُ المصلح والسائس.

خفّ الاهتمام بابن خلدون بعد موضة استمرت خلال حقبتَي السبعينيات وبداية الثمانينيات، أين يمكن إدراج ابن خلدون في مسار العقلانية العربية في علاقة بابن رشد مثلاً؟
- اهتمام الفكر العربي بابن خلدون منذ عصر النهضة إلى الآن، لا يخضع لمنطق الموضة التي لا تكاد تظهر حتّى تختفي، بل يخضع لآليّات تفكير العقل العربي بحدّ ذاتها. وهي آليّات مشدودة إلى هاجس التأصيل والأسلمة «الماضويّة» للحداثة، ورافضة لفعل النقد والتشريح الذي يفرض اتّخاذ مسافة من التراث، من أجل إعادة امتلاكه امتلاكاً نقديّاً. في هذا السياق، تحوّل الاهتمام بابن خلدون في الكثير من الخطابات الحداثويّة إلى «حصان طروادة» القادر على تحقيق فتوحات معرفيّة متعدّدة داخل «الحصن المتوهّم» للمعرفة الغربيّة الحديثة. فكان التأكيد على أسبقيّته في التبشير بالعقلانيّة وبالحداثة، فضلاً عن سائر «الأسبقيّات» التي ما فتئ دارسون عديدون ينسبونها إليه.

ناجية الوريمي: ما زال الفكر العربي متعثّراً في مرحلة الدعوة إلى «العلمانيّة»

ولا تختلف هذه القراءة الحداثويّة في شيء عن التوفيق المفتعل الذي برع فيه مفكّرو النهضة في القرن التاسع عشر. لقد كان همّ هذا التيّار إيجاد مؤشرات «العقلانية» و«التحديث» في نص ابن خلدون الذي بادر المستشرقون الأوائل إلى «إساءة فهمه»، بهدف الوقوف ندّاً للدعوى الأوروبية في انفرادها بهاتين الميزتين الحضاريتين. ولم يأبه هذا التيّار لمدى التناسب بين البنية الدلاليّة «السلفيّة» والرافضة للعقل في هذا النصّ، وبين ما أسقطه عليه من دلالات حديثة. وقد درستُ هذه المسألة في كتاب كامل، لكن أكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ آراء ابن خلدون وتصوّراته هي نتاجٌ لعقل فقهي تحكّم بعمق في عمليات إنتاج المعنى، كتكفيره للمشتغلين في الفلسفة.
لا يعني هذا أنّه لا تناسب بين المفاهيم الحديثة والمفاهيم القديمة بشكل مطلق، بل يعني ضرورة الانتباه لشرط الانسجام الدلالي بين ما يبدو متقارباً منها، خصوصاً الانتباه لتاريخيّة كلّ من النسقين: القديم والحديث. فالمفاهيم والأفكار لها تاريخ، يمكن أن نبحث فيه عن التحوّلات الدلاليّة الطارئة. وهي تحوّلات تراوح بين اختلاف نسبيّ بين هذه الدلالات، واختلاف جوهريّ يهمّ الخلفيّة الإيبستمولوجيّة لكلّ منها. وليس لهذا البحث غاية تبريريّة قائمة على قبول الجديد لأنّ له أصولاً في التراث، بل له غاية علميّة قائمة على تبيّن التشابه بين المنظومات الفكريّة بحكم تشابه مرجعيّاتها. ولنا في جانب من فكر ابن رشد مثال توضيحيّ: عندما نقرأ له نصوصاً في نقد الوضعيّة السلبيّة للمرأة، وتفسيره لها بعامل التربية والتعليم، ونقرأ له إقراره بأهليّة المرأة لأن تكون مثل الرجل «فيلسوفة وحاكمة» لو رُبِّيت على ذلك، أمكن لنا أن نقيم جسور تواصل بينها وبين التيّار الجندري الذي يعيد هو الآخر أسباب التمييز ضدّ المرأة إلى عوامل التنشئة والقيم السلطويّة السائدة. وفي كلا السياقين، نحن إزاء تشابه النتائج لتشابه آليّات التفكير العقليّة. ويمكن لنصوص من هذا القبيل أن تثري المشترك الإنسانيّ، خلافاً لنصوص أخرى عاجزة بنيوياً عن إنتاج هذه الأفكار، ويتسبّب إكسابها قيمةً معرفيةً تحديثيةً في نتيجة عكسية، وهي سهولة تسرب المعاني الناشزة عن التحديث والمنافية للعقلانيّة، إلى حقل الفكر العربي المعاصر، فتزيد في تعميق أزمته.

كان لك اهتمام كبير بالمعتزلة، هل ترين أن هذه الفرقة الكلامية تحتاج إلى إعادة قراءة على ضوء واقعنا المعاصر؟
- مثّل المعتزلة شكلاً من أشكال العقلانيّة التي عرفتها منظومات الفكر في الماضي، وفكرهم محدود بحدود العقلانيّة في عصرهم. هو يحتاج فعلاً اليوم إلى إعادة نظر غايتها ترميم الفراغات العديدة التي يعانيها ما وصلنا من أدبيّاتهم. لعلّ أهمّ مسألة يجب أن تُراجع – ومن زوايا مختلفة- تصوّرهم للسلطة ولممارستها، خصوصاً لحريّة الإنسان ومسؤوليّته على فعله، من خلال مفهومَيْ «الحُسن والقُبح» العقلييّن عندهم. وهدف المراجعة هو التعرّف إلى بوادر التصوّر المدني للسلطة، والتصوّر العقليّ لسلوك الإنسان ولتحمّله مسؤوليّته. إنّهم يمثّلون شكلاً من أشكال «التفلسف» الذي وسم الحضارة العربيّة، واستحضاره اليوم يساعد في تعديل الحكم عليها بكونها «حضارة فقه نصّيّ»، ويساعد أيضاً في الردّ على التوظيف الأصوليّ للتراث. لكنّ الاعتزال يظلّ شكلاً فلسفيّاً استمد قيمته من سياقه التاريخيّ، وليس من سياق عصرنا وإشكاليّاته.
الخطابات الإقصائيّة وتكفير «الآخر»، تعود إلى الضعف البنيوي الذي تعانيه ثقافة «العيش المشترك»


هناك عودة كبيرة للتكفير وتكميم الأفواه باسم الإسلام السياسي في فترة ما أو باسم الشعبويّة اليوم (تونس مثالاً)، هل نحن أمام جيل جديد من الفاشية؟
- المشكلة الأساسيّة في ما تقوم به الخطابات الإقصائيّة من تكفير وحرمان «للآخر» من حقّ الاختلاف، هي الضعف البنيويّ الذي تعانيه ثقافة «العيش المشترك» في السياق العربي. يتّضح هذا الضعف في ضوء التضخّم الذي عرفته -ولا تزال- ثقافة الفكر الواحد والحقيقة الواحدة والإمكان الواحد. والاستبداد في مستواه السياسيّ يبدو واضحاً في تعثّر الممارسة الديموقراطيّة. أمّا خلفيّته النظريّة التي مكّنته من الاستمرار في الوعي العربي، فتظهر في ضعف الدراسات النقديّة التي تعنى بقضايا التعدّد والتعدّديّة، وقضايا الحوار والتواصل الخلّاق بين الذوات المتغايرة. لذلك، لا أعتقد أنّنا أمام جيل جديد من الفاشيّة، بل أمام جيل آخر من أجيال التعصّب التي لم ينقطع تعاقبها في الواقع العربي. والرهان – كلّ الرهان- اليوم، هو كيف ننشئ جيلاً متشبّعاً بقيم التعدّديّة، وهي في جوهرها تصوّر لكيفيّة إدارة التعدّد إدارةً عادلة قوامها المساواة بين مكوّنات المجتمع على اختلافها، وهو أيضاً، كيف ننشئ جيلاً متوازناً نفسيّاً وماديّاً، لا يعاني من إخلال الدولة العربيّة بواجباتها نحوه في الحريّة والكرامة والشغل.

كيف ترى الدكتورة ناجية بعض مشاريع التفكير في الثقافة العربية كمشروع محمّد عابد الجابري، والطيب تيزيني، وعبدالله العروي أدونيس؟
- لقد غلبت على هذه المشاريع نزعة «نضاليّة» جعلتها رهينة التصوّرات الإيديولوجيّة التي لا تكاد تغادر أرضيّة الصراع السياسيّ، صوب تحديد الاختيارات الاجتماعيّة والثقافيّة العامّة. فلم ترتق بمعالجتها للمفاهيم والمسائل إلى مستوى الطرح النظريّ الإشكاليّ والشامل، الذي يكرّس الوعي النقديّ، ويفكّك بداهات العقل التسليميّ، القابل للتوظيف في هذا الاتّجاه أو ذاك. ونحن اليوم في حاجة إلى الفكر النقدي، لا إلى الإيديولوجيا، لنتخلّص من الجمود ونخرج من موقع الخاضع للسلطة (سلطة الماضي، سلطة «الآخر»...)، إلى موقع الفاعل الحريص على إيجاد موطئ قدم في خريطة الحضارة الكونيّة.

أنت من بين مجموعة من الجامعيات التونسيات اللافتات في مجال دراسة التفكير الديني والإسلام الأول ومشاريع التحديث، هل نحن أمام مدرسة تونسية تقودها حفيدات الكاهنة؟
- أعتقد أنّنا إزاء ظاهرة لافتة في تونس، تتمثل في إقبال الباحثات الجامعيّات ـــ حفيدات الكاهنة إن شئتَ ــــ على دراسة الخطاب الديني قديمه وحديثه، بمقاربات جديدة تنهل من علوم الإنسان والمجتمع. نحن إزاء إنتاج مميّز لعدد هامّ من الباحثات أخذن بناصية المعرفة الحديثة ووعيْن الإشكاليّات الفكريّة والاجتماعيّة التي تطرحها الأصوليّات والتصوّرات التقليديّة المكرّسة لعلاقات الحيف والتفاضل بين مكوّنات المجتمع. هنّ جامعيّات ينتمين – في معظمهنّ- إلى اختصاص «الحضارة العربية الإسلامية»، والقاسم المشترك بينهنّ هو نقد المواقف والرؤى التي أصبحت عقبةً في طريق التقدّم الضروريّ للمجتمع، وفي طريق إبداعه لحداثة عربيّة متفاعلة مع الحداثة الكونيّة أخْذاً وعطاءً. لعلّه من الدالّ أنّ القضيّة التي استقطبت اهتمامهنّ هي قضيّة «الاختلاف والتعدّد» وضرورة إدارتهما إدارةً عادلةً. فقد درستها كلّ باحثة من زاوية معيّنة، تساعد على تفكيك مقولات التعصّب وإقصاء الآخر المختلف دينيّاً ومذهبيّاً وسياسيّاً وجندريّاً. وعندما نستحضر معطييْن: الأوّل ثقافيّ يتعلّق بالتعليم الحديث في تونس -منذ دولة الاستقلال- ورهانه على تطوير الفكر العلمي النقديّ، والثاني اجتماعيّ يتعلّق بتحمّل المرأة العربيّة لتبعات الفشل في التحديث والنهضة؛ يمكن أن نفهم هذه الظاهرة في تونس.

لا مشكلة للإسلام مع قيم المواطنة والديموقراطيّة، بل إنّ المشكلة تكمن في محدوديّة وعي المسلمين بها

ومحصّل هذا المجهود البحثيّ «النسائيّ» مراجعةُ ما تكرّسه الدراسات التقليديّة من إعادة إنتاج للتصوّرات والمواقف التي أقرّتها -على مرّ التاريخ- السلطة القائمة، وقد تحوّلت إلى مسلّمات لا تزال إلى اليوم تتحكّم بالوعي العربي. ويكفي أن نقف عند تفكيك الباحثة للمواقف التي وظّفت النصوص الدينيّة لتفرض أحاديّة في الفهم والتصوّر، حتّى نتبيّن مدى اهتمامها بالحقّ في الاختلاف. إنّها بذلك تسهم في توفير شروط العيش المشترك التي لا تزال تعاني من نقص حادّ في الواقع العربي.
غير أنّني أريد أن أختم هذه المسألة بملاحظتين: الأولى هي أنّ الحديث عن مدرسة تونسيّة يجب ألا يقتصر على إنتاج الباحثات، بل يجب أن يعتني أيضاً بالمساهمة الهامّة للباحثين. فهذه المدرسة تفاعلٌ مستمرّ بين هؤلاء وأولئك، ثمّ بينهم وبين السياق العربي والسياق العالمي. والثانية هي أنّ الحديث عن دور الباحثة التونسيّة في مجال الدراسات الفكريّة النقديّة، يقتضي الحديث أيضاً عن دور الباحثات العربيّات غرباً وشرقاً. وما ذكرتُه لك في البداية، كان التزاماً بحدود سؤالك، وأرى أن أتوسّع قليلاً لأقول: أن تكون المرأة العربيّة -في المغرب وفي المشرق- مفكّرةً تتفاعل مع قضايا مجتمعها تحليلاً وتفكيكاً واقتراحاً لبدائل، دليلٌ على وعيها بمعاناتها أكثر من غيرها في تحمّل تبعات الفشل التحديثيّ، ودليلٌ أيضاً على حرصها على نقض البداهات والمسلّمات اللاتاريخيّة بهدف إطلاق قوى التغيير والتحرير الكامنة في المجتمع.

أصدرت كتاباً عن المرأة هو زعامة «المرأة في الإسلام المبكّر»، ما هو موقفك من «النسوية»؟ وهل تعتبرين نفسك مناضلة نسوية؟
- أرى أنّه قد آن الأوان لنغيّر طريقة تعاملنا مع الاختصاصات البحثيّة، فنتخلّى عن تصنيفها وفق ما نقيمه بينها من فوارق أو حواجز، لنؤسّس تصنيفها وفق ما يجمع بينها من خطط واستراتيجيّات بحثيّة، تجعلها متضافرة في إنتاج ثقافة بديلة. فـ«النسويّة» التي اقترنت بالدراسات الجندريّة، لا تعني مجرّد البحث عن «امرأة جديدة» متخلّصة من إرث تمييزيّ ظلّت تعاني منه، بل تعني أيضاً البحث عن مجتمع جديد متخلّص من إرث الصراع حول الأفضليّة بين مكوّناته. ودراسة الاختلاف الجندري ليست مسألة جزئيّة تتعلّق بحقوق المرأة وبعلاقتها بالرجل، بل هي باب مُشرَّع على دراسة مختلف القضايا النظريّة والعمليّة التي تتعلّق بالتنظيم الاجتماعي وبالأسباب الطبيعيّة والدينيّة التي يعتمدها الفكر السلطويّ لتبرير العلاقات التفاضليّة داخل المجتمع. والغاية التي ترمي إليها هذه الدراسات وغيرها من الدراسات النقديّة، هي التأسيس لمشروعيّة التعدّد والتنوّع. من هذه الزاوية أعتبر نفسي مناضلة من أجل «الإنسان»، من أجل كرامته وحريّته، أيّا كان انتماؤه الجندريّ، أو العقديّ، أو العرقيّ.

كيف ترين تفاعل الإسلام اليوم مع قيم المواطنة والديموقراطية؟ 
- اسمح لي – سيّدي الكريم- بأن أعدّل السؤال قليلاً، وذلك بأن أنقله من «الإسلام» إلى «المسلمين». فالإسلام كسائر الأديان معطى نصّيّ مطلق، يمكن أن نتمثّله بطريقة متفاعلة مع روح العصر ومع منظومة القيم الكونيّة، ويمكن أن نتمثّله بطريقة لا تاريخيّة تجعله في نشاز عن هذه القيم. هذا هو الفرق الذي تسعى إلى إظهاره كلّ الدراسات النقديّة الجادّة من خلال عملها على تخليص الإسلام من تهم «الوصم» التي ما فتئت تلحقها به الحركات الأصوليّة الإسلامويّة، والمواقف الاستشراقيّة الإيديولوجيّة (برنارد لويس، صمويل هنتنغتون، ومن لفّ لفّهما). وبما أنّنا في صدد الحديث عن كيفيّة تمثّل المسلمين لدينهم، أرى من المفيد أن ننتبه إلى المقارنة التالية: في الوقت الذي مرّ في الفكر الفلسفي السياسيّ في المجتمعات الديموقراطيّة المتقدّمة، إلى الدعوة إلى «ما بعد العلمانيّة» ممثّلةً في إعادة الدين – بعد فصله التاريخيّ عن الدولة الحديثة- إلى ساحة الشأن العامّ من باب القيم والمشاركة في تحقيق الخير العام (دعوة يورغن هابرماس مثلاً)، ما زال الفكر العربي متعثّراً في مرحلة الدعوة إلى «العلمانيّة» في أبجديّاتها السياسيّة والاجتماعيّة، بسبب تكلّس وعي المسلمين وفق النموذج القديم الذي كرّسه التوظيف السياسيّ للدين طيلة المرحلة الكلاسيكيّة، وأيضاً بسبب ما نشرته الأصوليّة الدينيّة عن أنّ الدولة المدنيّة معطى «غربي» لا ينسجم مع الإسلام. فكانت النتيجة سطحيّة الممارسة الديموقراطية في السياق العربي. وفي كلّ هذا، يتّضح أنّ لا مشكلة للإسلام مع قيم المواطنة والديموقراطيّة، بل كلّ المشكلة في محدوديّة وعي المسلمين بها.