تأسيس العمل الروائي بناءً على ثيمة البحث عن المفقود والاستقصاء عن الشخصية الغائبة وتفكيك حلقاتها الغامضة التي تلقي بغلاف التشويق على فضاء النص، ليس بمسلك جديد في محترف المتون السردية. تُنظمُ الكاتبةُ الكورية كيونغ سُوك شين برنامج روايتها «أرجوك اعتني بأمي» (2008 ـــ انتقلت أخيراً إلى المكتبة العربية عن «دار التنوير») على موضوع البحث والتعقيب عن شخصية الأم التي يحركُ تواريها عن الأنظار آلة السرد. كما يبدو من العنوان، تنهض مكونات العمل على رصدِ دور الأم وما يعني وجودها لدى المُتكلم. قد يفاجأُ المُتلقي بالمفارقة الملحوظة في استخدام الضمير الأول في العتبة الأولى وتوظيف ضمير المُخاطب في الافتتاحية. إذ قبل التطرق إلى ما يخلفهُ ضياع الأم من فراغ وتوتر في أجواء العائلة، يضعكَ الراوي أمام جملة تُذكر بالعبارات التي تظهرُ في مُستهل الأفلام، وغالباً الغرضُ منها تحديد المكان أو الإخبار عن مرور الفترة الزمنية على وقوع الحدث.


وبالطبع، يوفّر قصّ المادة الروائية على هذا المنوال خفةً في استئناف حركة السرد، كما يُكسب المرويات مرونة العبارة المُكثفة بالإيحاءات الزمنية المُتعاضدة مع بنية الحدث: «مضى أسبوع على اختفاء أمك» يتمُ بها ترويس حركة النص الأولى بنفس درامي، بحيثُ يكونُ الترقبُ قائماً للأخبار التي تردُ بشأنِ مصير الأم، ما يعني أنَّ شخصية الأم تسحبُ الأضواء نحو بؤرتها. وبالطبع، فالشخصية الروائية ليس لها تاريخ خارجَ الفضاء اللفظي. لكن ما أنْ تنزلَ إلى موقعها السردي، حتى تفتحُ مجالاً لمعرفة تواريخَ متعددةٍ قد تكونَ لها مرجعياتُ واقعية في متن ما ترويه صاحبةُ «فتاة كتبت العزلة». إذاً تتحولُ العدسة إلى ما يدور في بيت الشقيق الأكبر هيونغ تشول من نقاش ينتهي بالاتفاق على إعداد نشرات إعلانية وتوزيعها في المنطقة التي ضاع فيها أثر الأم.
يستبطنُ الراوي ما يعتمل في سرائر كل شخصية، إذ تطفوُ الأفكار على السطح كاشفةً عن الاختيارات المحدودة للتصرف مع حادث اختفاء الأم. قد لا يتجاوز الأمرُ أكثر من إبلاغ أو بحث في أرجاء الأمكنة أو الاستفسار من المارة. هنا لا يغيبُ دور الوسائط الإلكترونية في البحث عن المفقود. والحقيقة التي لا يمكنُ للأفرادِ تجاهلها أنَّ الأمَ لا تستطيعُ الذهاب إلى أي مكان بمفردها. لا يمضي المتلقي في متابعة سلسلة الوقائع النصية، حتى يتأكّد بأنّ الصوت الذي يخترقُ خلجات الشخصيات ويعلنُ عن عوالمها الباطنية، ليس إلا صوت الأمِ الغائبة. إذ يوكلُ إلى الابنة البكر «تشيهون» بكتابة النشرة الدعائية مع التنويه بالمُكافأة لمن يبلّغ بمصير بارك سونيو كونها تجيد الكتابة، ولا يقفزُ السردُ على السجال الذي يثيرهُ تاريخُ ولادة الأم المفقودة، لأنَّ هذا الموضوع يفتحُ مجالاً للإشارة الوامضة إلى أن الأهل كانوا ينتظرون آنذاك سنتين أو أكثر قبل الشروع بتسجيل الأطفال في البيانات، لأنَّ الموتَّ كان بالمرصاد لحديثي الولادة. لذلك، فإن تاريخ ولادة الأم مسجل بسنتين بعد توقيت ولادتها الحقيقية. ويردُ في هذا الصدد ببطاقة تعرفية عن شخصية بارك سونيو ومواصفاتها الشكلية. ومن ثمَّ يتم الانتقال إلى مطالبة الأمِ بضرورة الاحتفال بعيد ميلادها متزامناً مع عيد ميلاد زوجها لأنَّ التوقيت الفاصل بين المناسبتين ليس سوى يومين. وكان الاحتفال يقامُ مع الأبناء في المدينة بعيداً عن «تشونغ أب». والحال هذه تقعُ على ما يكشفُ عن وجود التوتر والمشاحنات الكلامية بين الأبناء حيثُ كل فردٍ يلقي بمسؤولية فقدان الأمِ على الآخر.
رواية مطعّمة بالموروث الشعبي للبيئة الكورية


صحيح أنَّ المادة المسرودة من منظور أربع شخصيات روائية هي بمثابة مرآة مدورة ترصدُ صفات الأم المفقودة على المستويين الخارجي والداخلي، لكن اللغة المعبرة عن المشاعر تختلف من مفصل إلى آخر. أكثر من ذلك، فإنَّ طبخة الرواية مُطعمة بالموروث الشعبي للبيئة الكورية، علاوةً على فتح الزوايا لإضافة قصص واقعة على حافة المركز ولا تتجاهلُ الكاتبةُ المراحل المفصلية في تاريخ بلدها. إذ تمررُ إشارات وامضة إلى الحروب التي نَشِبَتْ بين كوريتين. وما يشدُّ المتلقي إلى بيئة الرواية أكثر هو الحكمة الفطرية التي تنطقُ بها الأمُ المتماهية مع الطبيعة والأرض.
وفّقت الكاتبة في تصميم الرواية من خلال الضرب على الوتر الذي تطالُ تردداته الخاتمة. إذ تباغتُ الكاتبة قارئها بأنَّ البلد الذي تمنّت الأم أن تأخذ منه الابنةُ سبحة لها هو الفاتيكان. كما أنَّ المقصود بالطلب في العنوان، ليس إلا الأم المقدسة تقع عليها عينُ تشيهون في إحدى كاتدرائيات مدينة روما. اللافتُ في رواية «أرجوك اعتني بأمي» هو البساطة في الأسلوب، إذ لا يستمدُ النصُ مقومات هويته من الفانتازيا المُستعارة ولا من محاكاة التشكيلات الإيداعية السائدة. تمكنت سوك من صياغة مرويتها بطرز مُختلف انطلاقاً من سؤالٍ: لماذا لا يمكنُ معرفة شكل آخر لشخصيات نتعامل معها خارج المواصفات التي حددها السياق الاجتماعي أو الأسري؟