أكل لحوم البشر أو الكانيبالية هو إحدى الثيمات الأثيرة في آداب الشعوب والأساطير وكتب التراث. يمكن للمتقصي عن هذه الممارسات أن يعثر على نوع أول هو «الكانيبالية الغذائية» الذي ترتبط أصوله بالحصارات أثناء الحروب والكوارث الطبيعية والمجاعات حين يندر الغذاء أم يكاد ينعدم، أو من رغبة إرادية بالتنويع في النظام الغذائي، وطبيعة المنطقة والأرض والمناخ وما يمكن تسميته بـ «النموذج التداولي»، وهو ثقل العادة والعرف في مجتمعات لم يعرف الإنسان فيها طعاماً إلا لحم نظيره. يمكن أيضاً العثور في آداب الشعوب على نوع من الكانيبالية الحربية تتضخم فيه سمات الثأر، ويختلط أكل اللحم بالطقس القدسي والسحر، ويتحوّل ضرب الأدوات الحجرية والمعدنية والسيوف والرماح في اللحم البشري في ما بعد إلى شبق: شبق قد يصل إلى حد المرض باللحم البشري المرغوب على كلّ المستويات. يمكن العثور على نوع ثالث هو الكانيبالية الدينية التي انبثقت من مبدأ التضحية وضرورة استرضاء الآلهة بالقرابين. هذه التضحية ما برحت تتعاظم بدءاً من القرابين الحيوانية وصولاً إلى البشرية. فالبشر على غرار آلهتهم في الميثولوجيا والأساطير، لم يأكلوا لحم الأضحية فحسب، إنما الروح التي تسكن هذا القربان حيث يمثل الدم المادة المختلطة بهذه الروح، أو حرص بعض أتباع الديانات على تناول رمزي أو حقيقي لأجزاء من أجساد رموزها وأوليائها. النوع الأخير المتسلل إلى الأدب هو ما يمكن تسميته بالكانيبالية الثقافية، إذ تم توظيفه هو الآخر كنوع من البروباغندا الثقافية وخصوصاً الأوروبية الكولونيالية والاستشراقية في تعريف «الآخر» المستعمَر والمختلف والمسلوب الأرض والحقوق والسردية الحضارية والثقافية بما فيها سردية منظومة المأكل والمشرب. إلا أنّ هذا التصوير الكانيبالي الهمجي لم يقتصر على المستعمَرين، وإنما توسع في أدب «الرجل الأبيض» ليشمل الطبقات العاملة والنساء، والمثليين، ومختلفي الديانة. ويمكننا الإشارة هنا إلى قضية «فطير صهيون» التي لاقت رواجاً في أوروبا الشرقية حول صناعة فطير في الأعياد اليهودية يشرّب بدم الأطفال «الغوييم»، ما يوحي بعقدة العرق المتفوق في كل أنظمته ووسائل عيشه مقارنة بـ «الأعراق المنحطة» التي ما عرض الرجل الأبيض عاداتها الغذائية في الشعر والرواية والقصة إلا من أجل «تمدينها» و«هدايتها». في هذا الملف، استعراض لهذه الأنواع في التراث والأدب باستشهادات من الشرق والغرب
في اقتفاء أثر الأدب الكانيبالي، يمكننا أن نبدأ من العهد القديم. إذ نعثر في سفر الملوك الثاني على إشارة صريحة إلى كانيبالية الجوع: «وبَعدَ ذلِكَ حشَدَ بَنهَدَدُ مَلِكُ آرامَ جيشَهُ وصَعِدَ إلى السَّامِرةِ وحاصَرَها. فأدَّى الحِصارُ إلى مجاعةٍ شديدةٍ، حتى صارَ رأْسُ الحمارِ بِثَمانينَ مِنَ الفِضَّةِ، ورُبعُ فَرْخ الحمامِ الأبيضِ بِخمسةٍ مِنَ الفِضَّةِ. وبينَما كانَ مَلِكُ إِسرائيلَ عابِراً على السُّورِ، إذا بامرأةٍ صرَخت إليهِ تقولُ: «أغِثْني يا سيِّدي المَلِكُ». فقالَ لها: «لم يُغِثْكِ الرّبُّ، فَمِنْ أينَ أُغيثُكِ أنا؟ أمِنَ البيدَرِ أم مِنَ المَعصرةِ؟» ثُمَ سألَها: «ما بِكِ؟» فأجابَت: «قالَت لي هذِهِ المرأةُ: هاتي ابنَكِ فنَأْكُلَهُ، وغداً نأْكُلُ ابني. فطَبَخنا ابني وأكلْناهُ، وقُلتُ لها في اليومِ الثَّاني: هاتي ابنَكِ لِنَأكُلَهُ فأخفَتْهُ». فلمَّا سَمِعَ المَلِكُ كلامَ المرأةِ مزَّقَ ثيابَهُ وهوَ عابِرٌ على السُّورِ، فنظَرَ الشَّعبُ إليهِ فإذا على جسَدِهِ مِسْحٌ مِنْ تَحتِ ثيابِهِ. وقالَ المَلِكُ: «الويلُ لي مِنَ اللهِ إنْ بَقيَ رأْسُ أليشَعَ بنِ يوشافاطَ علَيهِ اليومَ»». والكانيبالية الدينية يمكننا العثور عليها بصورة رمزية في إنجيل يوحنا: «قال لهم يسوع: الحقَّ الحقَّ أقول لكم، إنْ لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فلهُ حياة أبدية وأنا أُقِيمُهُ في اليوم الأخير». وكذلك نعثر على روايتين صريحتين في التراث الإسلامي، فالبخاري في «التاريخ الكبير» يورد هذا الحديث عن الصحابي سفينة، مولى النبي محمد: «احتجم النبي (ص) ثم قال لي: خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير. قال: فتغيبت به فشربته. قال: ثم سألني، فأخبرته أني شربته. فضحك». أما البيهقي في «السنن الكبرى»، فيورد رواية أخرى عن عبدالله بن الزبير: «احتجم رسول الله (ص) وأعطاني دمه، وقال: اذهب فواره لا يبحث عنه سبع أو كلب أو إنسان. قال: فتنحيت عنه فشربته، ثم أتيت النبي (ص)، فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت الذي أمرتني. قال: ما أراك إلا قد شربته. قلت: نعم. قال: ماذا تلقى أمتي منك!».

أنطوني هوبكنز بدور هانيبال ليكتر في فيلم «صمت الحملان» (1991)

نعثر على نوع من الكانيبالية الحربية الثأرية في التراث العربي والإسلامي متمثلة في قصة هند بنت عتبة، إذ نقرأ في «سيرة ابن هشام»: «قال ابن إسحاق : ووقعت هند بنت عتبة، كما حدثني صالح بن كيسان، والنسوة اللاتى معها، يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله (ص) يجدعن الأذان والأنف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيا غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت: شفيت نفسي وقضيت نذري/ شفيت وحشي غليل صدري».
يطالعنا كتاب «الحيوان» للجاحظ بإشارة فذة إلى الكانيبالية الثقافية: «تُهجى أسد بأكل الكلاب، وبأكل لحوم الناس. والعرب إذا وجدت رجلاً من القبيلة قد أتى قبيحاً، ألزمت ذلك القبيلة كلها. كما تمدح القبيلة بفعل جميل، وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها. وتهجى أسد وهذيل والعنبر وباهلة بأكل لحوم الناس»، إلا أن الجاحظ يوضح أن هذا الاتهام هو من باب طعن الشعوبية على العرب: «وهذا الباب يكثر ويطول. وفيما ذكرنا دليل على ما قصدنا إليه من تصنيف الحالات. فإن أردته مجموعاً فاطلبه في كتاب الشعوبية، فإنه هناك مستقصى».
ونلتقي في حكاية السندباد الرابعة في «ألف ليلة وليلة» بنوع من الكانيبالية الثقافية الفانتازية: «فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح قمنا ومشينا في الجزيرة يميناً وشمالاً، فلاح لنا عمارة على بعد فسرنا في تلك الجزيرة قاصدين تلك العمارة التي رأيناها من بعد ولم نزل سائرين إلى أن وقفنا على بابها. فبينما نحن واقفون هناك، إذ خرج علينا من ذلك الباب جماعة عراة ولم يكلمونا وقد قبضوا علينا وأخذونا عند ملكهم، فأمرنا بالجلوس فجلسنا وقد أحضروا لنا طعاماً لم نعرفه ولا في عمرنا رأينا مثله، فلم تقبله نفسي ولم آكل منه شيئاً دون رفقتي، وكان قلة أكلي منه لطفاً من الله تعالى حتى عشت إلى الآن. فلما أكل أصحابي من ذلك الطعام، ذهلت عقولهم وصاروا يأكلون مثل المجانين وتغيرت أحوالهم وبعد ذلك أحضروا لهم دهن النارجيل فسقوهم منه ودهنوهم منه، فلما شرب أصحابي من ذلك الدهن زاغت أعينهم من وجوههم وصاروا يأكلون من ذلك الطعام بخلاف أكلهم المعتاد، فعند ذلك احترت في أمرهم وصرت أتأسف عليهم وقد صار عندي هم عظيم من شدة الخوف على نفسي من هؤلاء العرايا وقد تأملتهم، فإذا هم قوم مجوس وملك مدينتهم غول وكل من وصل إلى بلادهم أو رأوه في الوادي أو الطرقات يجيئون به إلى ملكهم، ويطعمونه من ذلك الطعام ويدهنونه بذلك الدهن فيتسع جوفه لأجل أن يأكل كثيراً ويذهل عقله وتنطمس فكرته ويصير مثل الإبل فيزيدون له الأكل والشرب من ذلك الطعام والدهن حتى يسمن ويغلظ، فيذبحونه ويشوونه ويطعمونه لملكهم. وأما أصحاب الملك فيأكلون من لحم الإنسان بلا شوي ولا طبخ». كما أن كتب التراث تشير إلى أكل لحوم البشر في المجاعات. ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في «شرح نهج البلاغة» ثورة الزنج وهجومهم على البصرة، وكيف أدت المجاعة إلى فظائع، فكان أهل البصرة يأكلون كل شيء، حتى البشر: «قال: واستخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور، فكانوا يظهرون ليلاً، فيطلبون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها، والفار والسنانير. فأفنوها حتى لم يقدروا على شيء منها، فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه، فكان يراعى بعضهم موت بعض، ومن قدر على صاحبه قتله وأكله، وعدموا مع ذلك الماء، وذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت، وعندها أختها وقد احتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها، قالت المرأة: فما ماتت حسناء حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه، ولقد حضرت أختها ونحن على شريعة عيسى بن حرب وهي تبكي ومعها رأس الميت...». يورد المقريزي أخبار الكثير من المجاعات في الدولتين الأيوبية والفاطمية، فيروي «إغاثة الأمة» عن مجاعة وقعت في فترة حكم المستنصر بالله الفاطمي:
«واستولى الجوع لعدم القوت، حتى بيع رغيف خبز في النداء بزقاق القناديل من الفسطاط كبيع الطرف بخمسة عشر ديناراً، وبيع الأردب من القمح بثمانين ديناراً. وأُكلت الكلاب والقطط حتى قلّت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير. وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضاً. وتحرز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت، وشرحوا لحمه وأكلوه (...) واحتاج المستنصر حتى باع حلية قبور آبائه. وجاءه الوزير يوماً على بغلته، فأكلتها العامة، فشنق طائفة منهم، فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم»، وأخرى في العهد الأيوبي:
«ثم وقع الغلاء في الدولة الأيوبية، وسلطنة العادل أبى بكر بن أيوب، في سنة ست وتسعين وخمسمائة. وكان سببه توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة (...) فتكاثر مجيء الناس من القرى إلى القاهرة من الجوع. ودخل فصل الربيع، فهب هواء، أعقبه وباء وفناء. وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع. فكان الأب يأكل ابنه مشوياً ومطبوخاً، والمرأة تأكل ولدها. فعوقب جماعة بسبب ذلك، ثم فشا الأمر وأعيا الحكام. فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه. ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار، فينتظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل. وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت. ووجدت لحوم الأطفال بالأسواق والطرقات مع الرجال والنساء مختفية. وغُرِّق في دون شهرين ثلاثون امرأة بسبب ذلك. ثم تزايد الأمر حتى صار غذاء الكثير من الناس لحوم بني آدم بحيث ألفوه، وقل منعهم منه، لعدم القوت من جميع الحبوب وسائر الخضروات وكل ما تنبته الأرض». ويشير أمين معلوف إلى نوع من الكانيبالية الدينية الحربية في كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، في فصل «أكلة لحوم البشر في المعرة»: «اجتاحت الجيش مجاعة فظيعة في المعرة وألجأتهم إلى ضرورة جائرة هي التقوّت بجثث المسلمين، لكن ذلك يبدو مقولاً على عجَل، لأن سكان خراج المعرة كانوا يشهدون طوال ذلك الشتاء المشؤوم تصرفات لا يكفي الجوع لتفسيرها. فقد كانوا يرون بالفعل عصابات من الفرنج المشحونين بالتعصب، جماعة «الطفور» ينتشرون في الأرياف وهم يجأرون بأنهم راغبون في قضم لحم المسلمين، ويتحلقون في المساء حول النار لالتهام فرائسهم، وفي هذا الصدد تظل عبارة المؤرخ الفرنجي ألبير دكس الذي شارك بشخصه في معركة المعرة عديمة المثل في فظاعتها: لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الأتراك والعرب، بل كانت تأكل الكلاب أيضاً». كما يرد نوع عجيب من الكانيبالية الحربية في إجبار بعض المارقين على السلطان على أكل لحومهم بأنفسهم، فنعثر في كتاب «الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة» لنجم الدين الغزي: «القاضي بدر الدين ابن القاضي زين الدين كاتب الأسرار بالقاهرة. صُودرَ وحُبس، ثم ضُرب بحضرة السلطان الغوري، ثم عُصِرَ، ثم لُف القصب والمشاق على يديه وأُحرقت، ثم عُصر رأسه، ثم أُحمي له الحديد ووُضعَ على ثدييه، وأقطع ثدييه وأُطعِمَ لحمه، واستمر في العذاب إلى أن مات بقلعة مصر. وعُذّبَ عذاباً شديداً رحمه الله تعالى. وكانت وفاته يوم الأربعاء رابع رجب سنة عشر وتسعمائة رحمه الله تعالى».
أما الشواهد من الأدب الغربي، فيمكن أن نفتتحها بهذه الفقرة من «سلامبو» لفلوبير (1862)، التي تصف نوعاً من الكانيبالية الطارئة أثناء الحصار: «وطفت على جلودهم بقع مزرقة، وذعر رفاقهم فتركوا جثثهم حيث كانت بعد أن جرّدوها من الملابس، وظلّت هذه الأجساد البيض عارية على الرمال تحت الشمس. راح الجنود «الجرامنت» يحومون حولها، وكانوا رجالاً قد ألفوا العيش في الوحدة والعزلة ولا يحترمون إلهاً ولا يمارسون عبادة، وترددوا قليلاً ثم أشار أكبرهم سناً إلى جماعته فانحنوا على الجثث يقطعون لحومها بمداهم، وجلسوا القرفصاء، وأخذوا يأكلون والآخرون ينظرون إليهم من بعيد فعلت صيحات الاستهجان والاستفظاع، لكن الكثيرين كانوا يحسدونهم في قرارة أنفسهم على جرأتهم. عند منتصف الليل، أقبل بعض هؤلاء وطلبوا منهم قطعاً صغيرة يتذوقونها، وتبعهم رجال أكثر جرأة فأصبحوا جمهوراً، فكان نفر منهم إذا أحسّ بطعم هذا اللحم البارد بين شفتيه ألقاه على الأرض، وآخرون يجدون فيه لذة فيزدرونه. وأخذ البعض يشجع البعض الآخر وكانوا يشوون قطع اللحم على الجمر وهي مشكوكة برؤوس سيوفهم ويملحونها بالتراب وبتخاطفون أكثرها جودة» (ترجمة. رحاب عكاوي، دار الحرف العربي)، كما تظهر عند بطل كوكس-سيتي (1908)، رواية غيوم أبولينير، الذي لا يجد حرجاً أثناء هربه من بعض المنقبين عن الذهب في تناول اللحم البشري دون كثير من التقزز: «لحم النساء هو أكثر دسماً، وجلدهنّ أكثر طراوة. بحثت في الأجساد عن جثة امرأة وقطعت منها القدمين. استغرق الأمر مني ساعتين كاملتين. لكنني انتهيت بقطعتي لحم فخذ كبيرتين فوق رأسي أوثقتهما بالحزام إلى عنقي».
في «دراكولا» الصادرة عام 1897 للإيرلندي برام ستوكر، يمكننا تبيّن البعد المرضي أو الطقوسي الباطني للكانيبالية (بترجمة إنجي أحمد، منشورات هنداوي): «وفي اليوم التالي، عادوا ووجدوا لوسي نائمة في نعشها. ألقى الرجال نظرة أخيرة على فم المرأة الجميلة الذي كان لا يزال ملطخاً بالدماء. كانت الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها أثناء نومها تقليداً شيطانياً لعذوبتها التي تميزت بها أثناء حياتها. أخرج فان هيلسنج أدواته من حقيبته الطبية سريعاً، ومن بينها وتد خشبي مستدير مسنن الطرف. شرح فان هيلسنج الأمر قائلاً: «عندما يصبح ضحايا العض أشباحاً بصورة قاطعة، يواصلون افتراس ضحايا جدد وينشرون شرهم. وإذا لم نوقفهم تتسع الدائرة دون توقف، كالموجات التي تتكون عند إلقاء حجر في الماء». تحدث بلطف إلى صديقه قائلاً: «آرثر، لو كنت تركت لوسي تقبّلك ذلك اليوم عندما منعتها أول مرة أو الليلة الماضية عندما أردت أن تحتضنها ثانيةً، لأصبحت مصاص دماء أيضاً»».
يطالعنا كتاب «الحيوان» للجاحظ بإشارة فذة إلى الكانيبالية الثقافية


تبرز الكانيبالية الدينية أيضاً لدى بول موران في «السحر الأسود» (1928): «الرجال-الثعابين، جالسين القرفصاء، يأكلون ملكهم، «العنزة بلا قرون»، هكذا كانوا فيما بينهم يشيرون للحم البشري وفي الوقت ذاته الذي كانوا يزدردون هذا اللحم المنكّه، كانت روح ملكهم تغور في بطونهم، تلك القبور الساخنة». أما لدى جوزيف كونراد في رواية «قلب الظلام» (1902) فنجد أنفسنا أقرب إلى الكانيبالية الثقافية وثنائية المستعمِر/ المستعمَر: «لماذا لم ينقضّوا علينا عندما استبدّ بهم الجوع، وقد كان عددهم ثلاثين بينما لم نتجاوز الخمسة، وكانت أجسامهم ضخمة قوية لا يبالون بعواقب الأمور، يتسمون بالشجاعة والقوة البدنية رغم أن جلدهم لم يعد مصقولاً وعضلاتهم لم تعد صلبة... نظرت إليهم باهتمام بالغ ولم أفعل ذلك لأنهم لم يأكلوا لحمي، إذ كان من المفروض أنهم قد فعلوا ذلك منذ زمن طويل... ماذا عساي أن أقول؟ أأعني أني غير قابل للشهية؟ لقد تملكني هذا الشعور من الغرور طيلة أيامي آنذاك، ربما لأني كنت مصاباً بالحمى قليلاً فأخذت أتأمل مجذاف المؤخرة أو الشخص العابث قبل وقوع الهجوم الضاري. هل ثمة رادع؟ أي رادع هذا؟ أهو ضرب من الريبة؟ القرف، الصبر، الخوف أو أي نوع من الشرف البدائي؟ فما من خوف قادر على مقاومة الجوع وما من صبر قادر على إرهاقه، وببساطة لا يوجد قرف حيث يوجد الجوع» كما نقرأ في «روبنسون كروزو» لدانيال ديفو (1719) بترجمة بطرس البستاني أكثر من إشارة إلى تصوير أهل الجزر من الكانيباليين «الهمج»: «ثم رأيتهم، بواسطة نظاراتي، يجرّون من القوارب رجلين منكودَي الحظ ويأتون بهما إلى البر لأجل الذبح، فتقدم أحدهم إلى واحد منهما وضربه على رأسه بنبوت أو سيف من خشب حسب عادتهم، فسقط لوقته إلى الأرض، فأخذ اثنان أو ثلاثة منهم يشتغلان في فَزْره وتقطيعه. وأما الرجل الآخر فكان واقفاً وحده جانباً إلى أن ينتهوا من رفيقه ويأتي دوره... وبالحقيقة كان المنظر عندي فظيعاً، وأما جمعة فلم يبالِ به. فإن المكان كان مغطى بعظام الناس، والأرض مصبوغة بدمهم. وكانت قطع كبيرة من اللحم مطروحة هنا وهناك قد أُكِل جانب منها، وشُوِيَتْ قليلاً بالنار. وبالاختصار كان هناك كل علامات وليمة الظَّفَر التي كانوا قد تنعَّموا بها بعد الغلبة على أعدائهم. فرأيت ثلاث جماجم وخمس أَيْدٍ وعظام ثلاثِ أو أربعِ سيقانٍ وأقدامٍ وأجزاء أُخَرَ كثيرة من الجسم. وأخبرني جمعة بواسطة الإشارات أنهم كانوا قد أَتَوْا إلى هناك بأربعة من الأسرى ليعملوا وليمة، فأكلوا ثلاثة منهم وأنه هو الرابع، وبأنه حدثت حرب بينهم وبين ملكٍ يجاروهم، فأخذوا كثيرين من رعاياه أسرى. وكان يبان أن جمعة هو من جملة رعايا ذلك الملك. فأخذت الفئة الظافرة كل أولئك الأسرى إلى أماكن مختلفة لكي يأكلوهم كما فعل أولئك الأشقياء بالذين أَتَوْا بهم إلى هذه الجزيرة ثم أمرتُ جمعة أن يجمع معاً الجماجم والعظام واللحم وكل ما بَقِىَ من الوليمة كومةً واحدةً ويشعل عليها ناراً كبيرة ويحرقها جميعاً حتى تصير رماداً. ووجدت أن جمعة كان يشتهي أن يأكل بعضاً من اللحم لأنه كان لم يزل أَكَّال لحم الناس في طبيعته. إلا أني أظهرت كراهة عظيمة لذلك العمل، فلم يعد يتجاسر أن يُظْهِر ما انطوت عليه طبيعته من هذا القبيل، وعلى الخصوص لأني كنت أفهمته بواسطةٍ ما أني أقتله إذا بدا منه شيء من ذلك».