إلى كلّ أم من الطائفة الشيعية في لبنان حُرمت من أطفالها عند الطلاق
على غير عادتها، أطالت في تبديل ملابسها، كانت تفكر في ترتيب هذه الثياب المتراكمة أولاً، لا شيء مكانه، شيء يشبه العبث الذي اختارته لحياتها. لا شيء مكانه في استوديو صغير تقيم فيه قريباً من وسط العاصمة. هي ذاهبة لإجراء مقابلة من أجل وظيفة. نظرت من النافذة فقرأت إعلاناً تجارياً يقول: «ما هي السعادة؟». عرفت أنّ هذا أحد الأساليب التسويقية، بعد أسبوع سيعلّقون الجواب. فكَّرَت ما أتفه هذا العالم، لا توجد سعادة على هذه الأرض. السعادة الحقيقية الوحيدة الآن أن تتمكن من الحصول على الوظيفة قبل أن ينقضي الشهر، بعدها إن حصلت عليها ستكون السعادة شيئاً آخر، أن لا يكون مديرها قاسياً، وأن لا يكون متحرشاً، فتضطر إلى التنازل له لأنها مضطرة للعمل.

كليمت ـــ «الأمل 2» ( زيت على قماش، 1907)

بعدها، ستتذكر أن لديها ثلاثة أولاد هجرتهم بقسوة بالغة على نفسها لأسباب عديدة تتعلّق بوالدهم، لا تريد أن تتذكر الأسباب، لكنها لا تجد بدّاً من ذلك وهي تقرأ هذا الإعلان، لأنه يذكرها بسؤال آخر «ما هي التعاسة؟». أحد تلك الأسباب أنّها منذ أول أيام حياتها مع والد أطفالها، وجدت نفسها تفتش عن العاطفة في مكان آخر. هناك سبب آخر ربما ليس ذا نفع، فليس له أثر، فقد كان يحب شدّ شعرها المجعّد حين لا تُحسن إطعامه أو النوم معه، يعرف جيداً كيف يسبّب لها الألم من دون ندوب واضحة على جسدها..
فلنعد إلى ثيابها، إنها لا تجد شيئاً مكانه، نبشت بين الثياب، كلما حاولت ترتيبها تحوّلت إلى فوضى إضافية، أحسّت أنها ستبدأ بالبكاء، لكنها وجدت بين الثياب رؤوساً كثيرة لرجال مرّوا في حياتها، هم أنفسهم الذين بحثت عن العاطفة معهم في ما مضى يوم كانت لا تزال تحمل قلب طفل. ضحكَت وبدأت بترتيب الرؤوس، الأكثر شراً بينهم في الزاوية، ثم الأقل، فالأقل؛ كان أحدهم يقول إنّه صديقها ولكنهما كلما انفردا، طلب تقبيلها في فمها. آخر كان يقول لها كم أن زوجها شرير ويسألها كيف تتمكن من النوم معه، ويردّد لها دائماً أنه يحب أن يعطيها الحب الذي تحتاجه في الفراش. آخر كان يقول لها إنّه لا يجوز أن تكبر وهي في هذا العمر، المثالي لممارسة الحب، بدون رجل يقدّر جمالها. أحدهم كان مديرها، قال لها إنّه سيُبعدها عن إحدى الموظفات السيئات إلى موقع آخر في العمل بحيث لا تكون تحت سلطتها، إن زارته في البيت وتناولا الطعام سوياً. وحين ذهبت تبيّن أنه يريد أن يتناولها هي.. الرأس الأكبر كان لزوجها، الذي قالت لها أمها يوماً عنه إنه قبرها ولن تسمح لها بالانفصال عنه. كانت أمّاً مثالية تمكنت من تزويج بناتها الخمس قبل أن يبلغن العشرين، فهي لا تريد أن يُقال عنها إنها أم لفتاة عانس، أو لفتاة مطلقة..
عادت تتأمل الرأس، كان رأس زوجها أكبر أسباب حزنها العميق. حملته ضاحكة وفكّرَت «لن أضعه في الزاوية، بل كمنحوتة على ظهر الخزانة، وهكذا يمكن أن أراه كل صباح، وأتذكر كيف تخلصتُ منه». فَعَلَتها ووضعته على ظهر الخزانة، نظرَت إلى أصابعها، كان كل إصبع قد تحوّل إلى سكين، فشعرَت بالرعب العميق وهي تتأمل أصابعها «كيف يمكن أن أحضن أطفالي بعد الآن، يجب أن أعيد الأمور إلى نصابها، رأس زوجي إلى جسده، وكل رأس خلّصته من جسده إلى جسده.. عليّ أن أعود بالزمن إلى الوراء، فأستعيد أصابعي الليّنة فلن يتقبّلني أطفالي بعد الآن». ثم فَكّرَت: «السعادة، ما هي السعادة، أهكذا كان يقول الإعلان، لقد مرّ الوقت وأنا أحاول ترتيب الغرفة ولا أُحسن ترتيبها.. يبدو أني كيفما حاولت إصلاح حياتي لن أُصلحها.. ماذا كنت أريد أن أقول، أريد أن أحضّر لأطفالي فطور الصباح وأن آخذهم إلى المدرسة كل يوم، وأعيدهم إلى البيت، ونأكل سوياً وهم يحدّثونني عن المدرسة، البنت، نعم هي الأكثر حديثاً عما حصل في مدرستها، أخوها يكبرها بسنة يهزأ منها، الآخر يأكل وينظر إلى هاتفه ولا يهتم، كنت أريد أن أساعدهم في دروسهم بعد الظهر، وأن نخرج عصراً يوم الأحد، وأن أقبّلهم ويقبّلونني قبل النوم.... السعادة.. نعم هذه هي فقط السعادة لأم فقدت أطفالها في محكمة تنطق بدين إله لا يدري ماذا يحصل في غيابه باسمه هناك..».

(*) لبنان، مونتريال
(**) ينص القضاء اللبناني على أن يعود الشعب إلى المحاكم الشرعية في قضايا الأحوال الشخصية (زواج وطلاق)، ولكل طائفة ومذهب محكمتهما الخاصة. تنص المحكمة الشرعية الجعفرية بأنه عند حدوث الطلاق تكون حضانة الأولاد للأب، للصبي من عمر سنتين وللبنت من عمر 7 سنين، على أنه يحق للأم أن ترى أولادها 24 ساعة في الأسبوع فقط (د.ح.)