«في باريس، اخترت 12 مكاناً وشارعاً وساحة ومفترق طرق مرتبطة بالذكريات أو الأحداث أو اللحظات المهمة في حياتي. كل شهر، أصف اثنين من هذه الأماكن؛ للوهلة الأولى، على الفور (في مقهى أو في الشارع نفسه) أصف «ما أراه» بأكثر الطرق حيادية، أُدرج المتاجر، وبعض التفاصيل المعمارية، والأحداث الصغيرة (عبور سيارة إطفاء، سيدة تربطُ كلبها قبل أن تدخل متجر اللحوم، أو نقل أثاث منزل، أو ملصقات تجارية، أو أشخاص...).

مرة ثانية، وفي أي مكان (في المنزل، في المقهى، في المكتب) أعيد وصف مكان الذاكرة، واستحضر الذكريات المرتبطة به، والأشخاص الذين قابلتهم هناك... كل نص [...]، بمجرد الانتهاء منه، أدسه في مغلّف مختوم بالشمع.. بدأت في يناير 1969. سأنتهي في ديسمبر 1980! سأقوم بعد ذلك بفتح 288 مغلفاً مختوماً [...]. ليست لدي فكرة واضحة عن النتيجة النهائية، لكن أعتقد أننا سنرى شيخوخة الأماكن، وشيخوخة كتابتي، وشيخوخة ذكرياتي كلها». هكذا قدّم الكاتب الفرنسي جورج بيريك (1936-1982) كتابه «أمكنة» في رسالة إلى ناشره موريس نادو صيف 1969، لكن الكتاب لم ير النور في الموعد المقرر. رغم أن بيريك قد احترم البروتوكول المقترح لمدة سنوات ثلاث، إلا أنه بدأ يفقد الاهتمام ببعض الأماكن، كما أنّ بعضها الآخر قد زال فعلاً عن الخريطة بفعل التوسع العمراني وغيره. وبعدما فتح بيريك بعض الأغلفة عام 1975 ونشر محتوياتها في الصحافة وفي كتبه المتفرقة، ظنّ الجميع أنّ المشروع قد انتهى فعلياً لتكون المفاجأة الكبرى عند وفاة بيريك: 133 مغلّفاً مختوماً بالشمع تحوي نصوصاً وصوراً وقصائد ورسائل وجدتها تشكل الهيكل شبه الأساسي للكتاب الذي قررت سيلفيا ريتشاردسون، حفيدة بيريك والقيّمة على حقوق نشر كتبه، إحياء عظامه من رميمها بعد أربعين عاماً من وفاة صاحبه. صدر العمل بطبعة أنيقة عن «دار سوي» الباريسية، واقترحت ريتشاردسون على القارئ «أن يبدأ من أي مكان من الأماكن الإثني عشر حيث يجد هذا القارئ نفسه في الواقع أو الذكريات، وأن يعمل خياله هو». إذ إن الهدف كما يقول بيريك نفسه: «أن نخترع الأنثروبولوجيا الخاصة بنا، تلك التي تتكلم عنا، تلك التي تبحث في دواخلنا عما نفتش عنه لدى الآخرين. ليس الغرائبيّ. بل الحميم». في أحد مغلّفات «أمكنة»، هذه القصيدة الصغيرة التي كتبها بيريك مستذكراً صديقه وأحد رواد حركة الأوليبو الأدبية رايمون كونو: «ماذا ينفع؟ كل ذكائي؟/ كل حساسيتي؟/ كل طيبتي؟/ كل إرادتي؟/ كل تصميمي؟/ كل بأسي؟/ كل ضعفي؟/ كل حياتي؟/ كل السكينة التي أمكن للأيام مراكمتها/ وللّيالي تقويتها/ وللساعات مباركتها/ إنْ لم يجعلني كلّ ذلك سعيداً؟»