يذكر لنا أبيفانيوس في كتابه The Panarion of Epiphanius of Salamis اسمَي شهرين من الشهور العربية القديمة. والعربية التي يتحدث عنها أبيفانيوس تقع في ما يبدو في شمال البحر الميت بناءً على نصوص أخرى من كتابه.الشهر الأول: Aleom، ويربطه بتاريخ مولد المسيح.
الشهر الثاني: Aggathalbaeith، ويربطه بتاريخ عمادة المسيح.
والاسمان كما نرى هما غريبان. ومن الواضح أنهما محرّفان. ولو تمكّنّا من معرفة نطقهما الأصلي، وهذه مهمة ليست سهلة، لتمكّنا من معرفة شيء عن الشهور العربية القديمة التي لم تعد مستعملة منذ ما قبل الإسلام.
ولنذهب إلى الاسم الثاني بين الاسمين لأنه الأسهل في ما يبدو لي.

شهر اليوم
ذكر أبيفانيوس شهر Aleom في سياق حديثه عن مولد المسيح: «فالمسيح ولد في شهر يناير، وهذا يعني اليوم الثامن قبل منتصف يناير، وفي التوقيت الروماني يساوي مساء اليوم السادس من يناير. وفي التوقيت المصري، يساوي الحادي عشر من طيبه. وعند السوريين والإغريق يساوي السادس من أودينايوس Audynaeus. وفي قبرص أو عند السلامينيين يساوي اليوم الخامس من الشهر الخامس. وعند البافيين [سكان مدينة بافوس في قبرص] يساوي اليوم الرابع عشر من تموز. وفي العربية يساوي اليوم الحادي والعشرين من اليوم Aleom وعند المقدونيين يساوي اليوم السادس من Apellaeus. وعند القبادوقيين يساوي اليوم الثالث عشر من أتارتيس، وفي العبرية في اليوم الخامس من طيبه» (ص 522- 59 ــــ The Panarion of Epiphanius of Salamis, Translated by Frank Williams, page 56, LEIDEN • BOSTON, 2009).
من غير الممكن أن يكون المسيح ولد في يناير وفي تموز. لذا، فمن الواضح أن أبيفانيوس يتحدث هنا عن رأس السنة عند عدد من الأقوام. فرأس السنة عند البافيين يقع في تموز، وعند الرومان في كانون الثاني (يناير). بذا يمكن الافتراض أن شهر Aleom يجب أن يكون رأس السنة عند العرب الذي حدّثنا عنهم أبيفانيوس.
والحال أنّ لدينا قائمتين بأسماء شهور كافي شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام. واحدة تدعى «شهور العرب العاربة» والأخرى تدعى «شهور ثمود». وفي شهور ثمود، ورد الاسم «ذيمر» أو «ديمر». ويفترض أن هذا الشهر أول شهور السنة: «ويذكرون أنهم كانوا يبدأون في تقويمهم بذيمر، وهو شهر رمضان، فيكون أول شهور السنة عندهم» (د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). وأنا أعتقد أن هذا الاسم مُصحَّف وأنه في الأصل «يئمر، يأمر». يؤيد هذا أن هناك شهراً من الشهور الصفائية يُقرأ هكذا: y’mr يامر، يأمر، يؤمر. وقد ورد في النقوش الصفائية مرات عدة، بحيث لا يمكن الشك في قراءة حروفه. فقد ورد في النقش HaNSB 197 وفي النقش C4276 والنقش RWQ 290، إلخ. ووروده بهذه الصيغة قد يجعلنا نفترض أن «ديمر، ذيمر» هو تصحيف للصيغة الصفائية التي يجب أن نقرأها في ما يبدو «يؤمر، يأمر، يئمر». و«يئمر» يمكن أن تتصحّف بسهولة إلى «ديمر» أو «ذيمر». بالتالي، يمكن الافتراض أن رأس السنة الصفائية كان في يئمر، يأمر، هذا. وقد رأينا كيف أن المصادر القديمة ساوت شهر «يئمر» برمضان. ورمضان شهر صيفي بدليل اسمه. فرمضان آتٍ من الرمض أي الحر. عليه، فالاحتمال الأفضل أن «يئمر» هو تموز.
والآن يمكننا المقارنة بين شهر «اليوم» وشهر «يأمر، يئمر». لكن قبل وضعهما معاً، يجب أن نشير إلى أن الاسم «اليوم» يبدأ بأل التعريف العربية. لذا يجب إزالتها عند المقارنة. وبعد إزالتها يمكن المقارنة:

eom
y’mr

إذا أبعدنا الراء من y’mr يتبقّى أمامنا ثلاثة أحرف علّة متقاربة النطق ويمكن أن تنقلب عن بعضها عند الترجمة أو اختلاف اللهجات واللغات. بذا فالاختلاف هو ضياع حرف الراء من الاسم الأول. ولو أضفناها لصرنا مع يأمر، يئمر، أي مع الاسم الصفائي. بذا، فاسم أبيفانيوس ضاعت منه الألف، وهذا ما حوّله إلى لغز.
أخيراً، هناك في شهور العرب العاربة شهر يدعى «مؤتمر، المؤتمر» الذي من المحتمل أن يكون صيغة محرّفة قليلاً من الاسم ذاته.

حجّ البيت
نأتي الآن إلى الاسم Aggathalbaeith الأعقد. وقد فهم على نطاق واسع أنه تحريف لحج البيت، أو حجة البيت، وأنه بذلك شهر ذي الحجة، رغم خلوّه من «ذي». ولست أعرف بالضبط من الذي قدّم هذا الاقتراح أولاً:
«وقد ذكر أبيفانيوس Epiphanius أن من أسماء الأشهر عند العرب شهراً اسمه «حج البيت» أراد به شهر «ذي الحجة». والعرب الذين قصدهم هذا الكاتب هم عرب «الكورة العربية»، ومعنى هذا أن العرب الشماليين كان لهم شهر يسمى بـ «ذي الحجة» كذلك. ولفظة Aggathalbaeith، هي لفظة عربية النجار حُرفت على لسان أبيفانيوس وقومه، لتناسب منطقهم، فصارت على هذا النحو، وهي من كلمتين عربيتين في الأصل، هما «حجة البيت»، أو «حج البيت». ويكون نص أبيفانيوس هذا من النصوص المهمة بالنسبة إلينا، التي ساعدنا في الرجوع بتأريخ استعمال هذا المصطلح إلى أيامه، ولا بد من أن يكون ذلك المصطلح قد استُعمل قبل أيام ذلك الكاتب ولا شك. ويقع شهر الحج «ذي الحجة» - على رواية أبيفانيوس- في تشرين الثاني» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام).
لكنّ الترجمة الأحدث التي قدّمها لنا فرانك وليامز لكتاب أبيفانيوس تعطينا صيغة أخرى للاسم فيها نون. فبدل الجيمين المتتابعتين، صارت لدينا نون تتبعها جيم Angalthabaith. بذا فلدينا الصيغتان التاليتان للاسم:

Aggathalbaeith
Angalthabaith

وإذا صحّت صيغة وليامز، فإنه من الصعب جداً قبول فرضية أن الاسم هو «حجة البيت». وتبعاً لهذه الصيغة، فإن الاسم يفترض أن يُقرأ هكذا: «النجا الثبيت، النجا الثابت». فماذا هو «النجا الثابت» هذا؟
ربما ذكّر هذا بالنجم الثاقب في سورة الطارق القرآن: «والسماء والطارق. وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب». لكن هذا يفترض ضياع ميم وقاف وباء، وهو أمر يصعب قبوله. عليه، فالأسهل افتراض ضياع ميم فقط. أي أننا قد نكون مع «النجم الثابت، النجم الثبيت». وكلمة «النجم» في العربية اسم لكوكبة الثريا عند العرب. من أجل هذا، فقد فُهم أن القسم بالنجم في سورة النجم «والنجم إذا هوى» هو قسم بالثريا. وبما أن الثريا ليست من النجوم الثابتة، أي نجوم شمال السماء، فربما كان علينا أن نقرأ «الثبيت» وليس «الثابت». فهل يكون «النجم الثبيت» هو كوكبة الثريا؟ ربما. وفي هذه الحال، فإن كلمة «الثبيت» يجب أن تُقرأ على أنها «الثبية» التي تعطي معنى اجتماع الماء في الأحواض والمنخفضات: «مَا اجْتَمع إِلَيْهِ الماءُ فِي الْوَادِي أَو فِي الغائِط. قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ ثُبةً لأَن الماءَ يَثُوبُ إِلَيْهَا... ومَثابُ الْبِئْرِ: وَسَطها. ومَثابُها: مقامُ السَّاقي مِنْ عُرُوشها عَلَى فَم الْبِئْرِ. قَالَ الْقُطَامِيُّ يَصِفُ البِئر وتَهَوُّرَها: وَمَا لِمَثاباتِ العُرُوشِ بَقِيَّةٌ/ إِذَا اسْتُلَّ، مِنْ تَحْتِ العُرُوشِ، الدَّعائمُ» (القاموس المحيط). يضيف ابن سيده: «الثُّبةُ: وَسَط الحَوْض يَثُوب إليه بقيّةُ الماء، ومن العرب من يُصَغِّرُها: ثُوَيبة، يقول: هو من ثاب يثوبُ، والعامّة يُصَغِّرونها على ثُبَيّة، يتبعون اللفظ» (ابن سيده، المحكم). يضيف الخليل: «الثُّبَةُ أيضاً: وسط الحوض الذي يَثوب إليه الماء» (الخليل بن أحمد، العين). بناءً على هذا، فالنجم المقصود هو الذي تمتلئ بمجيئه الأحواض، أو تُحفر لتمتلئ. وهذا يعني أنه نجم شتوي. وأبيفانيوس يخبرنا بالفعل أن هذا الشهر هو أكتوبر. وأكتوبر هو شهر المطر. ففي بدئه تسقط الثريا، ويحل نوؤها ومطرها. ومن هنا يجب أن نقرأ اسمه على أنه «نجم الثبة» أو «نجم الثبية» بالتصغير.
ذكر أبيفانيوس شهر Aleom في سياق حديثه عن مولد المسيح


وهناك شهر في جنوب الجزيرة العربية يدعى «ورخ ذ ثبتن»، أي شهر ذي ثبتن ربما يكون على علاقة بالشهر الذي نتحدث عنه.
لكن لنفترض أنه لم يكن هناك ميم ضائعة في الكلمة، فكيف ندبر الأمر؟
في هذه الحال، أظن أن علينا أن نقرأ التعبير هكذا: «النجا الثبيات». وهذا تعبير ربما يكون على علاقة بالمطر. ذلك أن النجو هو السحاب والمطر: «السحاب الذي هراق ماءه، والجمع نجاء» (الجوهري، الصحاح). يضيف المحكم: «وحكي عن أبي عبيدة: أين أنجتك السحابة؟ أي: أين أمطرتك؟ وأنجينها بهذا المكان، أي: أمطرنها» (ابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم). بذا فالتعبير: النجاء الثبيات قد يعني: مطر الثبيات، أي المطر الذي يتجمّع في الأحواض والحفائر والمنخفضات وقت الشتاء الحقيقي. وهذا يحصل عادة مع سقوط الثريا في بدايات تشرين الثاني. فسقوط الثريا هو بدء الشتاء الحقيقي. وفيه يسقط المطر بغزارة: «قال ذو الرمة يذكر مطراً عند سقوط الثريا: أصاب الأرض منقمس الثريا/ بساحيه وأتبعها طلالا. وإنما خصّ الثريا لأنه زعم أن العرب تقول: ليس شيء من الأنواء أغزر من الثريا» (الزبيدي، تاج العروس). ومنقس الثريا هو سقوطها.
لكن في هذه الحال، يكون أبيفانيوس قد أضاف أل التعريف إلى الاسم خطأ. فحقّه أن يكون «نجا الثُّبيّات»، أي مطر الثبيات. هذا ما لدينا حول Angalthabaith حتى الآن.

* شاعر فلسطيني