نعى وزير الثقافة الكوبي، ليلة 27 حزيران (يونيو)، الشاعرة جوزفينا غارسيا ماروز (هافانا ـــــ 1923-2022)، المعروفة أكثر بترخيم اسمها الشخصي: «فِينَا». وغرّد الوزير على حسابه قائلاً: «لقد توفيت عزيزتُنا، إحدى أكبر الأصوات في الشعر الأميركو-لاتيني. هذا يوم حزين للثقافة الكوبية». كما نعاها، في تغريدة له، أبل برييتو، رئيس «بيت ثقافات الأميركيَّتَيْنِ»، الذي كانت الراحلة عضواً فاعلاً فيه كمحقِّقة وناقدة، مدوِّناً: «كانت مريدةً مخلِصةً لخوسيه مارتي، والمسيح وخوسيه‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما، فقد أنشدَت Che و Haydée Santamaría، مثلما لم يفعلْ أحدٌ. فَلْتَلْقَ سينتيو، ولْيَرْقُدا معاً في سلام».
الشاعرة في مكتبِها في بيتها، تحت صورة شاعر وبطل كوبا الوطني خُوسيه مَارْتِي (هافانا ــــــ 2011).

كانت الشاعرة الراحلة في صُلب المشهد الثقافي الكوبي والعالَم الناطق بالإسبانية. لم تترك لنا أعمالاً شعرية ضخمة فحسب، بل كتبت أيضاً في النقد، كمتخصّصة ومحقِّقة لأعمال الشاعر والبطل الوطني للكوبيين: خوسيه مارتي، وناقدة لِمَتْنِهِ الشعري في أكثر من دراسة وكتاب، متسلِّحةً بما راكمَتْه من مناهج وعُدَّة نظرية في سني دراستها الجامعية، التي أنهتها سنة 1961، بتحصيل دكتوراه في العلوم الاجتماعية.
بين عامي 1944 و1956، انتسبت، رفقةَ زوجها سينتيو فيتير، إلى هيئة تحرير المجلة الرائدة لاتينيّاً «أصول» [Orígenes]، التي أسّسها الشاعر والروائي الكوبي خوسيه‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما، صاحب تحفة «فردوس» (1966)، التي شكَّلت مع أعداد المجلة مَعْلَماً أساسياً للتيار والأساليب الباروكية في سائر أميركا اللاتينية. أمر سيترك تأثيراً كبيراً في شعر الراحلة، عبر سماتٍ أسلوبية وموضوعاتية غرفتها من الباروكية: الرّفدُ من الأسطورة اليونانية، استلهام الفنون البصرية (نحت، تشكيل، عمارة..)، استعمال الألفاظ المهجورة، اللجوء البلاغي إلى شلال من الصور، مزج عوالم الحيوان والنبات والمخلوقات الغريبة بالصفات البشرية... للإشارة، كانت الشاعرة آخر الأحياء ضمن هذا التيار الأدبي والفني العريض.
مع انضمام الشاعرة إلى صفوف الثورة الكوبية، لم تتخلَّ، مع زوجها، عن نزعاتها الجمالية، لكنها أيضاً، في الوقتِ نفسِه، رَفَدَتْ نصوصها بشحنة احتجاجية متمرِّدة واكبت التحولات الاجتماعية التي عرفتها الجزيرة في خِضَمِّ مد ثوري وطني وإقليمي وعالمي، كان له كبير الأثر على النخبة المثقّفة كونياً. تَوَّجت الشاعرة مسارها الإبداعي، وطنياً وعالمياً، بالحصول، في عام 1990، على «الجائزة الوطنية للأدب»، كأهم جائزة وطنية كوبية؛ وبـ «جائزة بابلو نيرودا» التشيلية في عام 2007؛ وأخيراً، في عام 2011، بـ «جائزة الملكة صوفيا» في فرع الشعر الإيبِروأميركي. غداةَ حصولها على الجائزة الأخيرة، صرّحت: «شعري مَدينٌ لكل الشعراء الناطقين بالإسبانية، قديمين وحديثين. وأنا أُدْرِكُ أَنَّ سينتيو والمجموعة (المُتَحَلِّقَة حول مجلة «أصول») في صُلب هذه الجائزة التي حرَّكت مشاعري، لأنها قبل كل شيء عرفان من إسبانيا بمنجَزي، عرفانٌ مزدوج بمنجَزي ومنجَزِ جيلي والمجموعة التي انتسبتُ إليها. لا جائزةَ هزّت مشاعري كهذه؛ فقد أوقفَتني عن الكلام».
وبالفعل، لم تكتب شيئاً بعد هذا التاريخ، مغمورةً بالفرح ومتعبةً من طول السنين وكثرةِ المنجَز، في مسارٍ شخصي لا يمكن فيه عزل الثقافي عن النضالات الاجتماعية.
يقول عنها مواطنُها الشاعر خُوسيه لويس أركوس: «يتَّخذُ الواقع، من خلال نظرتها، معنى مُلْغِزاً: فالواقعُ، هو ذاتُه، وفي الوقتِ نفسِه شيء آخَر لا نعرفه: حميميَّةٌ وبُعدٌ، محايَثَةٌ وتَعَالٍ، أمام تجسُّدٍ مكتنَفٍ بالأسرار». من بين أعمالها الشعرية: «قصائدُ» (1942)، «تحولات يسوع في الجبل» (1947)، «نظراتٌ تائهة 1944-1950» (1951)، «زِيَّارات» (1970)، «قصائدُ مختارة» (1970)، «رحلةٌ إلى نيكاراغوا» (بالاشتراك مع زوجها، 1987)، «قُروضُ شارلو» (1990)، «آلُ رمبرانت في الدّير» (1992)، «ترانيمُ قديمة» (1993)، «مبادئُ أوَّليَّة وبعضُ مَرَاثٍ» (1994)، «مَرْكَزُ هَافانا» (1997)، «منتخبات شعرية» (1997)، «قصائدُ مختارة» (بالاشتراك مع زوجها، 1999)، «لحظةٌ نادرة» (2010)، «مِنْ أيِّ صمتٍ أنت، أيُّها الصَّمتُ؟» (2011).

* ترجمة وتقديم: رشيد وحتي

1. إلى الرّئيس هو شي منه
أنتَ من كان يقول
إنّك تتألّم
حتّى عندما ترى سقوط
طائرة العدوّ
الّتي أحالت البيت
رماداً، أنت الّذي كنت تخاطب شعراً
البعثات
الآتية للقائك،
أنت محارب السّلام
الّذي لم تفسد الحرب
عباراته
ذات النّباهة الفريدة،
الرّقيقة،
أنت من يتكلّم بلسان
لم نسمعه
منذ زمن طويل
بين النّاس،
لسان نزل
لا ندري من أيّ نبع حيّ،
نزلت نحو الموت
بخفّة ندفة ثلج
ظريفاً، دونما ضجّة،
بحيث لم تخطر على بال أحد فكرة
التغنّي الآن
بأناشيد الحرب،
ولا بنشيد جنائزيّ.
وددت اليوم لو
مثلاً عرفت
أن أرسم،
أن أخطّ بالحبر الأسود
فوق قماشة ناصعة البياض
ساق زهرة
ليّنة وصلبة.
وددت لو حكت
حصيرة من التّراب الدّقيق جدّاً
في شكل القصب.
فقد بدا لي
أنّك تلج
هكذا الموت
كما في وجه قديم
وفاء حقّ الوفاء
ببسمة.
1969

2. زيارات (شذرة)
كلّ امرئ حارس لشيء ضائع
شيء يعرفه لوحده، رآه لوحده
وهذا العالم المطمور، لغز
فتوّتنا هذا، نذود عنه
كأمل عجيب.
1970

3. إلى بطلة من الوطن
[هذه القصيدة مرثية لهايدي سانتاماريّا (1923-1980): بطلة من رموز حرب العصابات ضد نظام باتيستا العميل، ومساهمة أساسية في نجاح الثورة الكوبية، عسكرياً وسياسياً وثقافياً، كواحدة من أبرز قيادات الانقضاض على هافانا لإسقاط باتيستا، وكعضو مؤسس للحزب الشيوعي الكوبي وكمؤسّسة لبيت ثقافات الأميركيّتين، الذراع الثقافية للثورة الكوبية. انتحرت في هافانا في ظروف غامضة].

ضعوا للمنتحرة ورقة في المعبد،
خالدة في تجويفة العنق.
غطّوها بالزّهور، كأوفيليا.
أيتام كلّ من أحبّوها.

غطّوها برقّة الأدمع.
صيروا ندى يحيي حدادها.
وإذا لم تكف رحمة الزّهور،
اهمسوا في أذنها أنّ كلّ شيء لم يكن إلّا حلماً.

قدّموا لها التّشريفات كبطلة
خسرت معركتها الأخيرة فحسب.
لا تتوقّفوا عند لحظتها بلا عزاء.
وبطولاتها، لا تتركوها تمضي نحو نسيان العشب.

فلتستقبل، واحدة بعد أخرى،
حيث لا ينسى النّور محاربيه.
قدّموا لها التّشريفات كبطلة
خسرت معركتها الأخيرة فحسب.
1980
(أغنية القصيدة على موقعنا)

4. إيطاليا
مادونة،
في روما.

بتول،
في فلورنسا.

آلام مسيح،
في البندقيّة.

أي صويحبتي.

5. سينما صامتة
لا لأنّها تفتقد
للصوت،
وإنّما لأنّها مترعة
بالصّمت.

6. منتحبة مايكل آنجلو
مايكل آنجلو: المنتحبة (منحوتة، 1498-1499).
إلى دينوره
آه، هي كقمر،
هذه الأطراف الرقيقة التي تمسك بها
الأمّ، الصّلبة الآن،
ما وراء كلّ ألم.

يد تمسك بتجعّد
خفيف من إهاب تحت المنكبين.
والأخرى، لملكة، يبدو أنّها تشحذ.

لم تعد تنتحب: فقد وهبت الابن،
الذي أردته صخرة،
إلى الصّغير العظيم
الّذي أراد أن يكون مغموراً

آه، إنّه حقّاً كقمر
متضائل.

7. لو ضاعت كلّ قصائدي...
لو ضاعت كلّ قصائدي
فإنّ الحقيقة الصّغيرة اللّألاءة فيها
ستتأبّد فيها، كما هي، متجسّدة في حجر رماديّ
على حافّة الماء، أو في عشب أخضر.

لو ضاعت كلّ قصائدي
فإنّ النّار ستواصل تسميتها دونما انقطاع
خالصة من كلّ شائبة، وسيعود الشّعر الأبديّ
شادياً، مرّة أخرى، مع أوان الفجر.

8. أنشودة
أفكّر أحياناً
أنّ النّهار سيشرق تماماً بنفس الطّريقة
عندما سأموت.

حبّات التّبر نفسها،
الأمطار الغزيرة نفسها.

أفكّر أحياناً
أنّ الشّمس الّتي أراها
هي الشّمس نفسها
الّتي لن يراها الأموات.

فهم،
وأنا، والآخرون
الّذين سيأتون
في ما بعد،
أحياء وأمواتاً،
كالشّخص نفسه
وهو ينظر إلى الشّمس
نفسها.

9. لحظة بعدئذ
«ذاك الّذي يشفيك بعدم اكتراثه» [سينتيو فيتير]
لحظة عقب
موتي.

أحاول تخيّلها.
فأقول لها: دثّريني
كقماشة، خذيني
كحجر.

لحظة عقب
موتي
سيكون للبرتقالة العبق نفسه
وستحمل النّملة جاهدة
نتفة جناحها المثلّث.

10. شجرة مشذّبة
لم تعد هذه الشّجرة تشبه الشّجر.
تركوها بلا ذراعين، بلا رأس.
تنظر بعين واحدة، عنيدة،
إلى بيت محروس، بيقظة عاليّة، خلف السّياجات.

تبدو، ليلاً، كفزّاعة
وعندما يخترقها النّور القاسي
فحتّى الرّأفة تختفي من الأركان
بحيث تبقى، متخشّبة، تهدهدها الأحزان.

فأيّ سرّ نابع من أرواحنا تحفظينه،
متوثّبة للتّشذيب، متوثّبة لإعلان الحرب حتّى الموت
من أجل ملاذ جميل، من أجل هدوء ظليل.
فأنتم تحبّون الشّمس خارجاً فحسب.

تتماهين فقط مع راحة اليد،
أي زهرة الصّحراء، القويّة، الوحيدة، المتفتّحة
على النّور، المتخلّصة من كلّ ذبول.
انظروا بأيّ حنق تنفض عنها الورقة الهرمة.

11. نباتات
[إلى روني بورتوكارّير]
سأمتدح نجاحك
كنموذج
فريد،
عينك
هادئة لإعصار
النّباتات،
أي مينرفا
المتفكّرة
سأمتدح
المقايضة البدائيّة
للجواهر
بالنّباتات،
للتّفكّر
بالتّبرعم
اللّانهائيّ،
سيّدتي،
لا خطأ ثمّة،
حرّة
حتميّة
تسكّعي
كتجلّ،
تبتكرين،
وأنت تحومين،
كائنات خالصة،
لست
زخرفاً رقيقاً
أيّتها الفرحانة الموهوبة،
خوذتك الّتي من نباتات
خوذة حرب،
أي مينرفا
عينك، هذه الشّمس
المثبّتة في الكينونة
صيرورة،
راهن
مستقبل
وتقول (شاكرة):
سأحيا
بعد الخراب،
بلا توقّف،
إلى الأبد،
فأنا راية النّصر.
هذا ما ينبغي أن يحدث:
فانتظروا.

مصادر النصوص:
Diálogos: Artes, Letras, Ciencias humanas, Vol. 15, No. 3 (87) (mayo-junio 1979).
Latin American Literary Review, Vol. 11, No. 21 (Fall-Winter, 1982).
Fina García Marruz: Antología poética, Fondo de cultura económica de España, 2002.