فيليب جاكوتيه (1925-1980) واحد من أهمّ شعراء فرنسا في القرن العشرين، نُشرتْ أعماله وهو ما زال حيّاً في سلسلة النشر المرموقة بلياد (Bibliothèque de la Pléiade) التي تنشر عادةً الأعمال الأدبيّة المرموقة لكبار كتّاب فرنسا، وتصدر عن «دار غاليمار». ولد جاكوتيه في مدينة مودون السويسريّة ثم انتقل لاحقاً للعيش في فرنسا. نشر أوّل مجموعة شعريّة له بعنوان «البومة وقصائد أخرى» (L›Effraie et autres poésies) عام 1953، وهو العمل الذي كرّس مكانته كأحد أهم الشعراء في ذلك الوقت. يُعدّ جاكوتيه اليوم أحد أهمّ الشعراء في أوروبا، وقد تمّ ترشيحه مرات عدة لجائزة «نوبل». وفي عام 2003، نال «جائزة غونكور للشعر» وهي أعلى جائزة للشعر في فرنسا. بالإضافة إلى أعماله الشعريّة، نشر العديد من الأعمال النثريّة، على شكل يوميّات وتأمّلات أسماها «دفاتر»، وهي شكل آخر موازٍ لقصائده. كان جاكوتيه أيضاً مترجماً كبيراً، ترجم إلى الفرنسيّة هومير من اليونانيّة، وغوته وهلدرين وريلكه وروبرت موزيل من الألمانيّة، وجاكومو ليوباردي وجوزيبي أونغاريتي من الإيطاليّة، وغيرهم الكثير من الكتّاب. حصل جاكوتيه على «الجائزة الوطنيّة الكبيرة للترجمة» عام 1987 عن مجمل أعماله الرئيسيّة في الترجمة.

ما يميّز نصوص فيليب جاكوتيه هو هاجس الدقّة في الكتابة، دقّة العبارة، ودقّة التصوير الشعريّ. فجاكوتيه الذي بدأ النشر في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة، ابتعد عن نهج الشعر السورياليّ، فكان يرى أنّه يجب «مقاومة إغراء السهولة التي تتمثّل في إطلاق الكلمات، والاستعارات الجميلة المُتدليّة عبثاً؛ لاصطحاب القارئ إلى عوالم خياليّة مُصطنعة». فالبحث المحموم عن الحقيقة هو ما يحفّز الشاعر في كتابته النثريّة والشعريّة على حدّ سواء، لذا يقف حذِراً ومتشكّكاً أمام الصورة الشعريّة، ففي أحد جوانبها «الصورة تخفي الواقع، وتشتّت العين». ويتجنّب جاكوتيه هذا الخطر المتأصّل في استخدام الصورة كما يشير الباحث بيار كامبيون، في مقالة له بعنوان «جاكوتيه : نقد للصورة الشعريّة»، عبر كتابة تعتمد في الأساس على «جماليّة القياس الدقيق وفنيّة القولِ غيرِ المُعلن»، وتتميّز في جوهرها بالبحث عن التوازن والدقّة، ما يفسّر المراجعات المتتالية والتصحيحات العديدة الموجودة في القصائد. ورغم أنّ جاكوتيه مأسور بالضوء الذي يستلهمه وتتكرّر مفرداته كثيراً في قصائده، ورغم هاجس وضوح الرؤية الملازم لنصوصه، إلا أنّ شعره يظلّ يراوح بين البساطة والغموض، ويتميّز شعره بالانتقال السلس من المقاطع الوصفيّة الغنائيّة إلى التأمّلات الشعريّة.
ويتّسم أسلوبه كذلك «بالتّواضع والتحكّم بمشاعره في مواجهة الأشياء المرئيّة والمُعاشة». ورغم أنّ هذا حكم أخلاقيّ في الأساس، إلا أنّه مبنيٌّ على فلسفة في الوجود والكتابة، لخّصها هو بكلماته «الإمّحاء طريقي للتألّق». فهناك رغبة بتبديدٍ طوعيّ للذات، ذات الشاعر المُهمّشة المتوارية التي تبقى على مسافة من الأشياء في القصيدة، مانحاً الصمت والفراغ شكلاً في نصوصه، ومانحاً الطبيعة مساحة كبيرة في تأملاته. وغياب «أنا» الشاعر في القصيدة، أو تهميشها. رغم أنّه مبنيّ على مبدأ فلسفيّ وأخلاقيّ، ورؤية في فهمه لدور الأدب، يهدف لمنح الموجودات المهمّشة حضوراً مركزيّاً في نصوصه؛ إلا أنّ بعض قصائده، كما أرى، تفتقر للتعقيد والتركيب في ظلّ غياب تموّجات وانحرافات النفس الإنسانيّة واضطراباتها التي يحدّ هو من حيّزها في نصوصه بوعي مُسبق. وهذا بالطبع توجّهٌ يظلّ قابلاً للدراسة والنقاش والذائقة الشخصيّة في نهاية الأمر.
ما يبقى راهناً من تجربة فيليب جاكوتيه اليوم، كما هي الحال بشكل خاص لدى مجايله الشاعر الفرنسيّ فرنسيس بونج (1899-1988) صاحب العبارة الشعريّة ذات اللغة الوصفيّة الواقعيّة والاستعارة الدقيقة، هو هاجس الدقّة في الكتابة، التي تغدو كأنّها عمليّة تشريح، أو كأنّها رسمٌ برأسِ قلمٍ حادّ. ويتقاسمان أيضاً الوعي الناقد والجريء في استخدام الصورة: تركيبها، وتوظيفها، وحيّزها في القصيدة. ففهم جاكوتيه العميق لآليّة عمل الصور الشعريّة، هذا الفهم المتقدّم لجماليّة وخطورة الصورة الشعريّة معاً، لحدودها وآفاقها، يسهم بدون شكّ في فهم الأزمة التي يعانيها الشعر اليوم، عربيّاً وعالميّاً. فالصورة قد تفشل في تحقيق هدفها المتمثّل في الأساس بالتمثيل البصريّ، والتكثيف الرؤيويّ، وفتح آفاق المعنى، لتصبح أداة إخفاء وتشتيت، والوقوع في ضبابيّة مصطنعة وجوفاء. فجزء كبير من أزمة الشعر المُعاصر، عربيّاً على الأقلّ، يأتي من الصورة الشعريّة، المُستعصيّة، المُقفلة، ذات التركيب البصري العشوائيّ، وذات المجانيّة في الصياغة اللغويّة، كما نرى في العديد من النماذج التي نقع عليها. بقي أن أشير في نهاية هذا التقديم إلى أنّ القصائد المترجمة هنا مقتبسة من مجموعته الشعريّة Poésie 1946-1967 الصادرة عن «دار غاليمار».

* تقديم وترجمة: أنس العيلة

«الإمّحاءُ طريقي للتألّق»
عدوٌّ معتمٌ يُقاتلنا ويُحاصِرُنا، دعني فيما تبقّى لديّ من أيام، أكرّس هشاشتي وقوّتي من أجل النور:
عساني أتحوّل إلى برقٍ في النهاية.
كلما قلّتْ الشراهةُ والثرثرةُ في أقوالنا، كان من الأفضل إهمالهما، لكي نرى العالمَ، حتى في الحيرةِ،
يضيءُ بين نشوة الصباح وخفّة المساء.
كلما قلّتْ دموعنا التي تغمرُ أعيننا، وتخفّفت ذاتنا المُحاطةٌ بالخوف، أصبحت النظراتُ أكثر وضوحاً،
ورأى التائهون بشكل أفضل الأبواب المدفونة أمامهم.
الإمّحاءُ طريقي للتألّق، والفقرُ يُثقلُ مائدتنا بالفاكهة، والموت قريباً كان أو مبهماً، كيفما شاء،
سيبقى غذاءَ النورِ الذي لا يَنْفد.

«الصبر»
في أوراقِ اللّعبِ المُلقاةِ تحتِ المصباح
مثل الفراشات المُتساقطة المُغبّرة،
على بِساط الطاولة وعبر الدخان،
أرى ما يجدرُ عدم رؤيته
عند رنين الساعة في الكؤوس
تعلنُ عن أرقٍ جديدٍ آخذٍ في الازدياد
خائفٌ من الخوفِ في ضيق الوقت،
الإنهاك في الجسم، أمنية الدفاع البعيدة
الرجلُ العجوزُ يُقصي الصور الماضية
لم يخلُ الأمرُ من قمعٍ للرعشة،
أُنظرْ
المطرُ الجليديُ يُشرعُ باب الحديقة!

الشتاء
بيدَ أنني عرفتُ كيف أعطي أجنحةً لكلماتي، رأيتها تدورُ، تتلألأ في الهواءِ، وتقودُني نحوَ الفَضاءِ المُضيء...
هل أنا إذن سجينُ شهرِ ديسمبر الجليديّ،
مثلَ عجوزٍ بلا صوتٍ، خلفَ النافذة، وكلّ ساعةٍ تزدادُ ظلاماً،
يتجوّلُ في ذاكرته، وإذا ابتسم فلأنّه يعبرُ درباً واضحاً، ويقابل ظلاً بعيون مغلقة
الآن، ومنذ سنواتٍ عديدةٍ ظلّ بارداً مثل ديسمبر...
هذه المرأة البعيدة التي تحترقُ تحت الثلج، إذا لُذتُ بالصمت؛ فمن سيقول لها أن تلمعَ مرّةً أخرى، وألّا تغرق مع الحرائق الأخرى في مقبرة الغابات؟
من سيفتح لي في هذه الظلمات طريق الندى؟
ولكن بالفعل، عبرَ أضعفِ نداءٍ تمّ تَحسّسهُ، يمكن تخمين الساعة التي تسبق الفجر في العشب!

جرحٌ يُرى من بعيد
آه، العالمُ أجملُ من هذا الدّم السيئ التغليف
الذي يبحثُ دائماً عن لحظةٍ هرب من جسم الإنسان!

من يعاني، تحرقه نظراته ويقول لا،
لم يعد عاشقاً لحركات الضوء،
يتمسّك بالأرض، لم يعد يعرف اسمه،
وفمه الذي يقول لا، يهوي في الأرض بشكلٍ مُروّع.

في جسدي تتقاطع دروب النّورِ
سوف نتذكّر حواراتنا الخفيّة لفترةٍ طويلة
لكن في بعض الأحيان يكون الميزانُ مشبوهاً، وعندما أميل أرى الأرض ملطّخة بالدماء.

هناك الكثير من الذهب، هناك الكثير من الهواء، في عشّ دبابير يلمعُ
لمن ينحني عليه مرتدياً ورقاً رديئاً.