كان ذلك في حرب تموز 2006، في اليوم الخامس إذا لم تخنّي الذاكرة. كنا قد نزحنا إلى بيت في أعلى تلة «الصيفي» في الأشرفية وهياكل بيوتنا تلوح لنا من بعيد، يرتطم بها الصاروخ، فيطير الأثاث في الجو: كنبة هنا وسرير من هناك وكفن وجهاز عروس إلى آخر أشيائنا الحميمة. اتصل بي أحد معارفي وبدأ يمهد للخبر السيء بالجُمل المعتادة: «الحجر مش أهم من البشر»، أخبرني أن بيتنا قرب محلة «الإمداد» قد سوّته الطائرات بالأرض، هو وثلاثة من جيرانه. لمحت دمعة في عين أبي المريض، أردفها بجملة وحيدة «مش أسفان إلا على المكتبة». شيء ما بداخلي كان يقول إنّ البناية لا تزال في مكانها، أخذت قراراً متهوّراً بأن أسرق مفتاح سيارة قريبي وتوجهت نحو الضاحية. كان الطيران يأخذ فترة استراحة من لحمنا وبيوتنا، فضغطت على دواسة البنزين بأقصى سرعة لأصل إلى أول بئر العبد وأرى البناية واقفة في مكانها. «أريد أن أحضر الدليل لأبي»، قلت في نفسي، والدليل ليس سوى كتاب «خطط جبل عامل» للسيد محسن الأمين، كان أبي يضعه في رفّ خاص ويخفي فيه شيئاً نقله معه في كل الحروب القديمة من المنازل المهدّمة إلى المنازل المؤقتة: ورقتين باللون الأصفر يحرص عليهما حرصه على أولاده. سحبت الكتاب وودّعت الضاحية ورجعت لأضع الكتاب بين يديه كدليل على أنّ المكتبة سالمة. حمل الكتاب كمن يحمل شتلة زيتون صغيرة في يديه وسحب الورقتين ليفردهما على الطاولة: كانت قصيدة «الدردارة» لحسن عبدالله (1944 ــــ 2022) بنسختها الأولى التي صدرت في جريدة «النداء» عام 1981. من حينها بدأت علاقتي بشعر حسن عبدالله تأخذ منحى حميمياً وشخصياً أبعد مما كنت أسمعه في «أجمل الأمهات» و«من أين أدخل في الوطن» التي كنا ننصت إليها في كاسيتات مارسيل خليفة. صارت «الدردارة» رفيقتي في الحرب، ألفت حروفها كما ألِف صاحبها التراب الجنوبي، فسيّله شعراً أقرب إلى جبل حرمون المطلّ على الخيام: «كلوا جميعاً من شواء الروح/ أنتِ يا منازل/ يا جداول/ يا جنائن/ يا قفار/ كُل أنت أيها الجبل الحمار/ وتذكّروني»، وإلى سهل مرجعيون الممتنع الذي شوت فيه المقاومة بصواريخ الكورنيت دزينةً من الدبابات: «وتظلمُ الأرجاء/ يختنق الهواء بالبارود/ والتراب بالدماء/ ولم تزل تجرّ إسرائيل رجلها العرجاء/ فوق ثرى الجنوب المظلم ــ المضاء/ بالنار ــ بنت الشمس/ في يد المقاومين»، وتلك السهولة في جعل الأرض الجنوبية تسيل شعراً: «دائماً كان الطريق عبر التين/ من جهة الحمار/ وينتهي في بيتنا/ متقدماً في التين/ في القش القديم/ أتى أبي/ ورمى عرانيس أمام الباب/ صلّى ركعتين سريعتين/ وغاب في أحد الكتب/ وأخي الكبير أحبّ/ فامتلأت حديقة بيتنا كرزاً/ وأجراساً/ وأمي أطلقتني في براري الصيف»..كانت قصة المكتبة و«الدردارة» مدخلاً لتعارفي المباشر بحسن عبدالله منذ سنوات خمس، أول عهدي بالكتابة في «كلمات»، بعدما أعدنا طباعة «الدردارة» في عدد خاص من «الأخبار» بتحرير الجنوب بعدما نفدت طبعتها الأولى عن «دار الفارابي» وصار العثور على نسخة منها أشبه بالعثور على الكبريت الأحمر ولم يخلُ اللقاء الأول مما عرف عن سرعة بديهة (راعي الضباب) وشغفه باللغة العربية، ولا سيما السورة القرآنية عن الزيتونة في سورة النور، وحكايات مدرسة البنات في صيدا حتى وصلنا إلى مهدي: هنا غصّ حسن عبدالله وخيّل إليّ أن اللقاء قد انتهى، ليعيدني إلى مقعدي ويروي قصة الفتاة التي شدّت مهدي من قميصه في قصيدة «ذكرى من صيدا». تتابعت اللقاءات من بعدها، في مقهى «الكوستا» (الروسا لاحقاً) وفي محترف الفنانة خيرات الزين مع رغبة من طاقم التحرير في «الأخبار» بأن يكتب صاحب «أذكر أنني أحببت» بصورة أسبوعية في الملحق الثقافي، وحسن يجيبني بالجملة ذاتها: «سأكتب حين يصفو هذا المزاج». صفا المزاج أخيراً، صار لحسن عمود أسبوعي بعنوان «موجز القول» في «كلمات». كنت أحس بالكهرباء ذاتها في يدي حين أستلم الأوراق التي كتب عليها مادته الأسبوعية والتي ننشر ما تبقى منها اليوم، إضافة إلى ما كتبه في صديقه حسن حمدان (مهدي عامل)... مثل ذلك المسّ الذي أحسسته في ملمس الورقتين الكبيرتين في كتاب أبي. «ليس الهواء هو الذي أسقط أوراق الشجرة بل الموت!»، دوّن حسن بخط مرتجف على إحدى أوراقه. كنت أظن أنّ الموت لا يجرؤ على الذي قال يوماً: «هنالك دائماً نور/ لنجم يرفع الظلمات عنا وهو مستور/ هنالك دائماً قوة/ ترافقنا/ وتدركنا/ ونحن على فم الهوّة/ هنالك دائماً حب/ يفاجئنا/ بدفئ غير منتظر/ إذا ما أقفر القلب/ هنالك دائماً نسمة/ تهب على جروح الروح/ حتى تنجلي الغمّة/ونحن نعيش/ ما ينفك يحرسنا/ ويلمسنا بلطف غامض ما ليس مرئياً/ وإلا/ ما الذي يبقي الفتى حيّاً». إلا أنّ الموت بدأ يتسلل إلى الديوان ذاته (راعي الضباب) الذي افتتحه حسن بهذه القصيدة، لا سيما أن طيف مهدي الصريع برصاصات غادرة في بيروت، كان يطلّ فيه بين القصيدة والأخرى: «أين مهدي؟/ إذا جاء مهدي/ فقولوا له إنني بانتظاره/ قرب أعلى حجَر/ حجرٌ هو قبر/ حجَرٌ هو بيت من الشِعر/ أقفله شاعر مسرعٌ ذات يوم/ على ميّتٍ/ ومضى/ في صفاء المساء»: في الاتصال الأخير بيننا يوم الأربعاء الفائت، أخبرني حسن عبدالله أنه زار الخيام وعاد. هاتفٌ في داخلي أقرب إلى خط اليأس هذه المرة كان يحثني على أن أطيل المكالمة قليلاً، أن أستزيد من تلك اللكنة الجنوبية الأقرب إلى الماء يحمل تيناً وصفصافاً: كان الشاعر منهكاً وقد انتزع الأنبوب الذي يصله بماكينة الأوكسجين الفارغة. ناداه مهدي من بعيد، وهناك في سماء الجنوب الصافية فوق الدردارة، كطائرين، كنجمتين، كغيمتين، التقى الحبيبُ بحبيبه.

«موجز القول»: النصوص الأخيرة

◄ لقاء الأشباح
في الماضي، منذ أكثر من ثلاثين سنة، كان الواحد منّا، مناضلاً حقيقياً، في عالم يكتظّ بالمناضلين الحقيقيين، من أجل قضايا وطنية واجتماعية حقيقية.
كانت جلسات البيوت جلسات نضال عابقة ببخار الشاي ودخان السجائر، وكذلك جلسات المقهى. وكان معظم نادلي المقاهي مناضلين مثلنا، وغالبية نزلاء الفنادق، ونزلاء السجون والباعة المتجولين، كانوا ينتمون إلى الحزب الذي ننتمي إليه، أو إلى أحد الأحزاب المجاورة.
وكان من المستحيل في تلك الأيام، على رجُل أن يعشق امرأة من تنظيم غير تنظيمه. وكانت المرأة تأنف أن تمنح قبلة لرجل لا يشاطرها موقفها من القضية الفلسطينية، أو أي قضية من قضايا الثورات الأفريقية. ولم تكن الفتاة الشيوعية تتزوج شابّاً من منظمة العمل الشيوعي؛ كذلك كان تجاذُب الإناث والذكور بين منظمتي «الصاعقة» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» محدوداً جداً، إن لم نقل معدوماً.
كان صاحب البيت الفخم يخجل من استقبال رفاقه الفقراء في بيته، وكان الذي يتقاضى راتباً كبيراً يحسدُ أحياناً الذي يتقاضى راتباً ضئيلاً لأن الاستعداد الثوري للمرء كان مرتبطاً بعمق بؤسه الاجتماعي، وكان الذي يسعى من أجل الترقية في هذه الوظيفة أو تلك منحرفاً وشاذّاً؛ أما اليوم، فإنك تلتقي برفيق لك من ذلك العالم، فتشعر بأنه غير حقيقي، كما تشعر بأنك أنت أيضاً غير حقيقي، وأنّ لقاءك به في الماضي قد حدث في حالة تُشبه أحلام النوم. لذلك تتصافحان كما يصافح شبحٌ شبحاً، وتتحدثان للحظات حديثاً أشبه ما يكون بحديث الأشباح، ثم تفترقان، ليتلاشى كل منكما في ضباب مشاغله وهمومه.

◄ كلمات في الحب
الطبيعة تعرف كيف تعاقِب
أولئك الذين وظّفوا الجنس
لغير غاية الحفاظ على النوع
إنها تجعل منهم عشّاقاً!
■ ■ ■
كانت قد توقفت عن حبّه
ووجدَت أن من واجبها أن تخبره بذلك
وعندما فعَلتْ
اكتشفَتْ أنه يبادلها الشعور نفسه
وبدل أن تسرّ بذلك،
صفعته وخرجَت باكية!
■ ■ ■
لا يكون حبّاً حقيقياً
ذلك الذي لا يتجاوز الشخص المحبوب
إلى المدى اللامتناهي الذي يمتد وراءه
■ ■ ■
إذا ركَضَ عاشقٌ وراء الحبيب الذي هجرَهُ
فثلاثة أرباع ركضه
هي من أجل استعادة مسروقاته!
أوّلُ الحب
آخِرُه!
■ ■ ■
حيثما توجد «لام»
فإن أحداً ينبغي أن يقع في الحب
وبعد وقت قليل…في الجنون!
■ ■ ■
كانت تجيئني في أحلام النوم
فأستأنس بها
ولا أدري بماذا أكون قد أسأتُ إليها
حتى توقّفَتْ عن ذلك!
■ ■ ■
الذهاب بعيداً في الحُب
مثل الذهاب بعيداً في غابة
جاذبية الاكتشاف
ممتزجة بجاذبية الخوف!
■ ■ ■
مع الرجال
أتحدّث عمّا أعانيه مع النساء
ومع النساء
أتحدّث عما أعانيه مع الرجال.
■ ■ ■
أعقد حاجات الإنسان
هي حاجته إلى إنسان آخَر.
■ ■ ■
الغصن الذي نقف عليه
أوهن من أن يحمل طائراً ثالثاً
فإمّا أن أطير أنا أو تطيري أنتِ.
■ ■ ■
وضعتُ يدي على كتفها
وتابعتُ نحو ظهرها
ثمّ جذبتُها برفقٍ نحوي
فقالت «أرجوك»، فتوقّفْت.
-توقّفتَ لأنها قالت أرجوك؟
- نعم
- حمار!

حسن عبدالله


◄ في المشهد الطبيعي
في ليالي الصيف الصافية
عندما نكون على شرفة البيت
أو في العراء
فإننا نادراً ما نرفع رؤوسنا
ونتأمل نجوم السماء
وإذا فعلنا، فكم يستمرّ تأملنا للنجوم؟
فسرعان ما سنشعر بالألم في أعناقنا
والتعب في أعيننا
لأننا توقّفنا من زمن بعيد عن النظر إلى أعلى
وأمسينا كائنات لا تكاد تحوّل نظَرها عن الأرض
تفحصُها وتتشمّمها
لتظفَر بما يمكن أن يظفر به أي كائن
عاقلاً كان أم غير عاقل.
■ ■ ■
مضمومة الأجنحة
تندفع عصافير الدوري
من شجرة التين إلى شجرة الجوز
كأنّ هناك من يراشق بها!
■ ■ ■
المثلّثات اللامتناهية التي يرسمها
طيران ثلاث فراشات بيضاء
فوق الحقل الأخضر
■ ■ ■
الزهرة الواحدة
مرئية بعيون مليار إنسان
هي مليار زهرة!
■ ■ ■
لا يوجد حزن في الطبيعة
يوجد فقط، الخوف والألم واللذة…
الحزن عاطفة
من اختصاص الإنسان
■ ■ ■
ليس المكان فقط هو الذي يخضرّ في الربيع
بل الزمان أيضاً!
■ ■ ■
تسليتي المفضّلة في هذه الأيام
هي الجلوس إلى النافذة
ومراقبة شجرة الحياة
تتساقط أوراقها!
■ ■ ■
عندما أتوقّف عن الدهشة أمام مشهد الوردة
فسأذهب للبحث عن القانون
الذي يقبع وراءها
■ ■ ■
انفجار «البيغ بانغ» نفسه
قد لا يكون بأهمية انفجار
برعم زهرة!

إنه وهم نسمة
أكثر مما هو نسمة حقيقية
ذلك الذي جعل أوراق الشجرة تتساقط
حتى من دون أن تشعر أغصانها بذلك
ومع أنني شاعر أشجار أكثر مما أنا شاعر أي شيء آخر
فلم أتمكن من التعليق على المشهد
فليحاول القارئ ــ مشكوراً ــ أن يعتمد على نفسه هذه المرة ويسجّل التعليق الذي يريد
فإذا لم يستطع
فلهُ أن يقول:
ليس الهواء هو الذي أسقط أوراق الشجرة
بل الموت!

من مجموعة «الدردارة» (1981)

◄ مهدي في شأنه المائي
لا بدّ لي من ذكر هذا الشيء:
أمي ساعدتني في كتابة هذه الكلمات،
ساعدني كذلك تابعي المعروف باسم حسَن خليل
وأبو علي
والمرأة السوداء
والولد اليتيم
وذلك الشخص الذي غمز الهواء بسيفه
فأماتني ضحِكاً
وتينٌ طافحٌ عسلاً
وصفصافٌ يسيل
وساعدتني صرخةٌ في الليل
والولَدان طارا في انفجار واحدٍ
وفتاة عصر السبت
كافحَ هؤلاء جميعهم ليجيء هذا الشِعر مبتكَراً
ولن ننسى أخيراً سيّداً يدعونهُ:
مهدي
(سيعظُم شأنهُ المائيُّ فيما بعد…)
فيما بعد
سيكون مهدي أحد الثلاثة،
واثنان منهم يخسران دماً
وأفكاراً
ودبابات…
■ ■ ■
جريان ماء
جريان أيام وأوهام، تعبتُ تعبتُ من هذا التراب
وقد تضرّج بالتصاميم الدنيئة والدماء
وتصبّ في وجهي يتيمات الغروب وصُفرة الشجر الخراب
وتصبّ في وجهي ميازيب السراب
وتصب نار مدافعٍ لمعَت على كتف الهضاب
أين السماء على البحيرة
أين ماء البيتِ
هل من فيلسوفٍ؟
أين مهدي؟
أين يا مهدي السماء على البحيرة
أين باب البيت؟
مهدي رأى وسكَتْ
مهدي رأى السمكة
في قبضة الشبكة
ورأتهُ واضطرَبَت
مهدي رأى… وسكَتْ
مهدي رأى التينة
منهوبة الزينة
ورأتهُ ثمّ بكَت
مهدي رأى… وسكَت
مهدي رأى ورأى
مهدي رأى ونطَق
لكن بقاف الحق!

مهدي عامل


من مجموعة «راعي الضباب» (1999)

◄ ذكرى من صيدا
أتذكرينها؟ الطالبة التي دعتنا للغداء
في بستان جدّها
وقدّمت لنا السمك؟
شقراء
ساقاها رفيعتان
ثعلبية العينين
فوق صدرها مجرّةٌ من النمَش
لا تعلمين أبداً متى تغِشْ!
تزوّجَت… سمعتُ أنها تزوّجَت
من ضابطٍ في «جبهة النضال»
وهي الآن في اليمَن…
ما اتّصلَت برجُلٍ إلا وجُنّْ!
أتعرفين أنها تسبّبت
بمقتل اثنين من المقاوميِنَ
عنصرٌ من «أمل»
وعنصرٌ من «المخيمات»؟
ولم تحرّك هذه المأساة ذرّةً من الندمْ
في قلبها
بل شوهدَت
تفرقعُ «العِلكَ» الذي في فمها
وتبتسِم!
نعم دعتنا للغداءِ
في العراءِ
فوق العشبِ
بين البرتقال
تحت الشمس في الربيع
في بستان جدّها
وقدّمت لنا السمكْ…
ما كان مهدي ليجيء معنا
سألتُها… قالت دعتهُ
قالت جذبته من قميصهِ
لكنّه أبى…
وظلَّ ممسكاً بقلمهْ!
كان جميلاً ذلك اليومُ
ابتهجنا بهجةً قويةً
ها هي ذي تعود حيّةً
رائحة النعناع والبقدونس المفرومِ
بيننا قطّة، بل قطتان
تفحصان في جذوع شجرة الرمّان
وكانت الشمس التي تضيئنا
تضيء في الفضاء نفسه سحابة الزّيزان
فوق قمم الأشجار في البستان…
وكان، ما أخفّنا خِلّان
فمنشدٌ كأنّ في حلقومه حسك
أطربنا!
وضاربٌ بحجَرٍ على التنك
رقّصَنا!
وفجأةً أطلّ مهدي
دافعاً أمامه
أسلوبه الرهيب
في المراح والمزاح والضحكْ
فازّلزل المكان!
قد كان مهدي آنذاك
لا يزالُ
حيّاً…

من مجموعة «راعي الضباب»

◄ الطبيب الكبير
فاطمة
وغياب عميق لمهدي كأن مات
أما أنا
فيقول الطبيب...
قال لي
قال لي
بعدما جسّ صدري
وحدّق في سقف حلقي
وأصغى إلى وصلة من سعالي
انتبه! قال
أنت تموت رويداً رويداً
وقال:
-لا تدخّن
ولا تشرب الخمر
• والشاي؟
• والشاي...
لا تنفعل!
لا تفكّر!
ونَم باكراً وعميقاً
وإياك والخوف من أي شيء!
فاطمة
وغياب عميق لمهدي كأن مات
أما أنا، فالنهارُ
النهارُ
النهار
كنت غادرتُ ليل العيادة
منتشياً بإرادة
أنْ لن أطيع الطبيب
وخبأت في جيب محفظتي
فكرة الانتحار
الأصحّاءُ في الضوء
ضوء الصباح الشديد
نشاط وعافية وازدهار
إنها لحظة لندخّن
نحن الرجال الظلال
لحظة لنفكّر فيها
بأن الجسوم التي حملت ثقل أرواحنا
عملت كالبغال...

قصائد الفراق

◄ أ-مرَّ مهدي
مر مهدي ولم يرها
مر بين الثلاثاء والأربعاء
لم يرَ بشراً
لم يرَ حجراً أو شجر
ورأى فكرة هي:
(إن السماء تملأ البحرَ)
ثم اختفى…
واصفٌ وصفا
قال صيدا جميلة
وأشار إلى قامتي الذابلة
وسط الاحتفال.

◄ ب- وهو مهدي
وهو مهدي
وهي الندم القارض العمر
فكّرَ بي ونهاني عن الشعر
قلت له: إنها…
ولنسيانها
أهَ احتاج عشرين رطلاً
من العضلات!

◄ ج- لا لمهدي
لا لمهدي
ولها
كلّ هذا الهواء الذي لم يعُد جسداً
كلماتي الطوالُ وصمتي العريضُ
وما هدَمَ القلبُ أو شيّدا
من نساءٍ سدى
من نساءٍ صدى
لهواء يديها وأثوابها
لا لمهدي…

◄ مقطع من «قبر حرب»
لا أفكّر بالمرأة احترقت
والقُرى خرجت حافية
لا أفكّر بالأحمر المبتعد
لا أفكّر بالورد
لست حزيناً إلى ذلك الحدّ
روحي مصفّحةٌ
بسواد كثيف
وأمس تهدّم بيتي عليّ
ولم أنتبه!
لا أفكر بي
لا أفكر به
وأفكّر حيث يفكّر مهدي
ومهدي يفكر بالخضرة النائمة
حيث لا توجد الغيمة القادمة
أين مهدي؟
إذا جاء مهدي
فقولوا له إنني بانتظاره
قربَ أبعد قبر
بقَفْر
يحار القطا فيهِ
قولوا لمهدي يحار القطا فيه
قولوا: يحارْ
فلاةٌ مدوّرةٌ
ومدىً ناشفٌ
ونهارٌ ضعيف النظرْ
لا يرى
أنه
سوف يَعثر بعد ثوانٍ بقبرْ!
أين مهدي؟؟
سيأتي ليجبل طيناً بدَم
وسيأخذ عظماً ويكسره فوق ركبتيه
ليرينا البياض الأهمّ!
وسيمنعنا أن نحكّ
على موضع الشكّ
في العين والذاكرة
ونموت…
ويحملنا الحاملون إليه
فلا يتألّم
لا يتكلّمُ
لا يشتري وردةً
لا يفلسفُ عَظْم!
ويعود من المقبرة
ويجرّ إلى شاطئ البحر كرسيّه
ويدخّن سيجارة حائرة

-أين مهدي؟
إذا جاء مهدي
فقولوا له إنني بانتظاره
قرب أعلى حجَر
حجرٌ هو قبر
حجَرٌ هو بيت من الشِعر
أقفله شاعر مسرعٌ ذات يوم
على ميّتٍ
ومضى
في صفاء المساء
وفي ذلك البيت:
قَفر
وفي القفرِ:
قبر
ووقفتُ
وقلتُ: قفا…
وقفا
قلتُ: نبكي
بكينا
وترجّلتُ عن فرسي
وسقطتُ
على القبرِ
أسأله وأعيد…
أين مهدي
إذا جاء قولوا له
إنني قمت بالخطوة التالية
ورفعت الحجارة عنه
فلم ينبعث!
وتصاعد من عتمة القبر
صوتٌ مليءٌ
أبالسة وشتائم!
حاملاً روحهُ
زينةً
وشعاراً
أطبقُ القبر خلفي
وأخرج…

في ذكرى مرور أسبوع على رحيل حسن عبدالله، يُقام مجلس عزاء ابتداءً من الرابعة من بعد ظهر اليوم في منزله الكائن في بلدة الخيام (جنوب لبنان)، وتُقبل التعازي في بيروت بدءاً من الثالثة من بعد ظهر يوم الثلاثاء 28 حزيران (يونيو) في «جمعية التخصّص والتوجيه العلمي» (الرملة البيضاء ـ جانب بناية خطيب وعلمي) ـــ لتقديم العزاء عبر الهاتف: 03/582493