ولدت بياتريس كما حكت لي قبل ستة عقود في فونكا، وكانت تعمل منذ طفولتها لدى تاجر عربي. تعلّمتْ هناك الكثير من تقاليد الأندلسيين ومن لغتهم أيضاً. وحين غادر المسلمون تلك البقاع، سافرتْ شمالاً باتجاه مدن أخرى أكثر أماناً في مملكتي قشتالة وليون، وانتقلت من بيت إلى بيت، إلى أن انتهت في منزل السيد بانفيلو دورانتيس. كانت مربية أندريس في طفولته، وحين انتقل قبل عامين إلى هذا البيت، رافقته لتُدير شؤون حياته وتسهر على راحته هو وزوجته الجميلة ماريا.حين عرفت بياتريس البلاد التي جئتُ منها أشفقت عليّ كثيراً، وصارت بالنسبة إليّ طوال سنواتي على ضفة البحر الشامي تلك الأمّ التي فقدتُها على حافة بحر الظلمات. كانت تضع الكلمات الإسبانية في فمي، مثلما تضع أمّ لقم الطعام في فم وليدها، وكنت ألوك هذه الكلمات وأزيد عليها كلّ يوم بشغفِ رجلٍ يريد أن يتعلم كل شيء وفي أسرع وقت ممكن. بياتريس علمتني كل شيء تقريباً: كيف أخدم الضيوف، وكيف أكلّم الناس، كيف أخاطب المرأة وكيف أخاطب الرجل، كيف أقف وكيف أجلس، كيف أسمع الموسيقى وأُطرب لها. كيف أحمل الشمعدان وأسير في ردهات البيت الكبير. تعلّمت منها الابتسامة أيضاً. حفظت منها الكلام الذي يُناسب كل وضع وكل حالة في عالم كان يبدو لي في الوهلات الأولى مختلفاً إلى أبعد حدّ عن عالمي الأول.

تحصينات أزمور في المغرب على نهر «أم الربيع» (من بطاقة بريدية تعود إلى بداية القرن العشرين)

لم أكن العبد الوحيد هنا، كان الكثير من أشباهي يشتغلون خدماً في البيوت وحرّاساً للمخازن، وعمالاً في البناء ومزارعين، وحدّادين ونسّاجين وحمّالين يشحنون السفن ويفرغونها. وبعضهم كان ينقل المراسلات بين النبلاء. وكثيرون منهم صاروا جنوداً في جيش إسبانيا. لم تكن قادس المدينة الوحيدة التي يُباع فيها العبيد القادمون من أفريقيا، بل انتشرت أسواق النخاسة في إشبيلية وبلنسية وبرشلونة وغيرها. أما نحن في بيخار، فكنّا نسرق ساعة في اليوم أو اليومين لنلتقي كي نتحدث بلغتنا، يحكي كل واحد منا حكايته، نشكو ونتحسّر، ثم نغني إذا حضر مزاج الغناء. غالباً ما كنّا نلتقي ليلاً خلف دير سان فرانسيسكو أو في مشاع قريب من كنيسة القديسة مريم، وحين يغيب أحدنا نسأل إن كان قد مرض أو مات أو لاذ بالفرار من هذا الجحيم.
في المدن الكبيرة كان الهروب ممكناً، وكان شراء الحرية أيضاً ممكناً، تشكّلت بعض الأخويات من العبيد المعتَقين الذين عملوا على جمع المال لتحرير الآخرين. كانوا يستغلون كل عيد أو حفلة ليجمعوا التبرعات، وبالرغم من ذلك لم يكن عِتق الجميع ممكناً، فالعبيد كُثر والمال قليل.
كانت مهمتي الأولى هي مرافقة أندريس في كل خرجاته، بل صار ضرورياً أن أضع قدميّ حيثما وضع قدميه، في الأسواق والمشارب والزيارات. بل كنت رفيقه في مجالس النبلاء. وكانت متعتي تتضاعف كلما طالت المسافة وسافرنا بعيداً عن بيخار وعن سالمانكا سواء باتجاه طليطلة وسط البلاد، أو باتجاه مرسية وبلنسية على البحر الشامي، أو باتجاه فراغة وقلمرية على بحر الظلمات.
وحين مات الحوذي كريستوبال، صرتُ سائق عربته وناقلَ مراسلاته ورفيقه الذي يرتاح إليه. نشأتِ الألفة بيننا وتنامت، وصرتُ مخبأ أسراره، وحامل أفكاره، بل غدوتُ أدرك ما يدور في رأسه قبل أن تصل الكلمات إلى لسانه.
لم أعد مجرد عبد بيع في أزمور بحفنة مال وأعيدَ بيعه في قادس بحفنتين ليخدم سيده في بيخار، بل صرت صديقاً للسيد أندريس، وصار هذا الدوق النبيل صديقاً لي. وهذا ما كنت أبحث عنه. لم أكن معنياً هنا بما يملأ بطني ويحميني من البرد كأيّ عبد آخر، بل كنت أبحث عن حياة تليق بمنكبيّ العريضين وبهامتي التي ترفض الانحناء، وبعينيّ اللتين يتّقد فيهما الحماس والشغف. وهذا ما بدأت أصل إليه بالتدريج.
كانت متعتي هي مرافقة أندريس في كل خرجاته القريبة والبعيدة. وكان يلحّ علي في ارتداء الملابس الأنيقة التي تليق بمرافق الدوق، خصوصاً في تردّدنا الدائم على دار بيخار، حيث الدوق الأول ألبارو دي ثونيخا. كنت أرافق أندريس أيضاً إلى مسرح المدينة، وأحفظ معه قطعاً من الملاحم القديمة ومن الشعر، وكنت أتقاسم معه شغفه بالخرائط ومعرفة مواقع البلدان وما يميزها عن بعضها. تعلمت منه أصول المبارزة بالسيف، وكنا في الكثير من الأوقات نُرى ونحن نتبارز في باحة البيت أو على طرف الغابة المجاورة.
رافقته كثيراً في رحلات الصيد، تعلمتُ منه أيضاً كيف أمسك بالريشة وأضعها في الدواة، ثم أُنزلها برفق على القرطاس لأكتب الحرف الأول من اسمي. كان شديد الإعجاب بقدرتي على تعلّم الأشياء التي يحبّ، والتقاط الأفكار من عيون الناس وملامحهم قبل أن تتحول إلى كلمات على أطراف ألسنتهم.
- أنت ذكي، لكنّ ذكاءك يشبه خنجراً أصيلاً يحتاج لمن يسنّه.
- أنت المِسَنّ.
جملتان قيلتا على طاولة العشاء، كانتا كفيلتين بأن تشتد بسببهما المودة والثقة بيننا.
طرقت بياتريس باب بيت الحديقة، وأخبرتني أن السيد خصّص لي غرفة داخل البيت الكبير، وعليّ جمع أغراضي والانتقال إليها. كانت في الطابق السفلي بمحاذاة المكتبة. كأنما أراد أندريس مني أن أعتني بالجار، بالكتب، لا لترتيبها وتنظيفها من الغبار، بل لفتحها، ومحاولة فكّ ألغازها. فقد كان كل حرف فيها يشكل لغزاً بالنسبة إلي أنا الذي تعلمت الكثير من الكلمات، لكن بلغتي فحسب طيلة سنوات من ترددي زمن الطفولة على كتّاب الشيخ عبد الرحمن.
- اسمع صديقي، بإمكانك أن تكون ما تريد.
- إن عبداً أسود ليس بإمكانه شيء، أنت رجل كريم وعطوف، لكن الناس مهما دنوتُ منك ودنوتَ مني سيقولون: عبد السيد دورانتيس، لا صديقه.
- دعك من الناس، هل تعرف كريستوبال دي منسيس؟
- لا. من يكون؟
- هل تعرف ليوناردو أورتيز؟
- من هذا أيضاً؟
- هل تعرف خوان دي باريخا وسيباستيان غوميز؟
- لا، من هما؟
- الأول قسّ، والثاني محام، والآخران رسامان. هؤلاء يا صديقي من الأفارقة السود الذين كانوا عبيداً قبل سنوات في إسبانيا، لم يكن أي منهم ذا شأن، لكنّ كلّ واحد صار ما يريد، فقط لأنه أبصر المكان الذي يرغب في أن يصل إليه، ثم اندفع نحوه غير آبه بالأشواك والأحجار والمطبات التي تملأ الطريق.
كانت كلمات أندريس تجعلني أحسّ كما لو أن قدميّ ترتفعان عن الأرض، وكنت أقف أمامه صامتاً وضائعاً بين الأمل الذي يسحبني إليه واليأس الذي يُعيد قدميّ إلى الأرض.
كنت في تلك الأيام أبحث عن نفسي الضائعة في أكثر من متاهة. كنت أريد أن أعرف وجهتي، إلى أين ستذهب بي الأيام؟ وماذا أريد أنا من هذه الحياة؟ وماذا تريد الحياة مني؟ لذلك صرتُ أختلي بنفسي وراء الأديرة والكنائس والأسوار القديمة لأفكر في إجابات لأسئلتي. كثيراً ما أخذتُ العربة وقدتها وحيداً بدون وجهة، سواء عبر باب مورال في الطريق التي تنتهي إلى سالامنكا، أو عبر الطريق التي تقطع لاكوريديرا وتربط بيخار بآبيل، أو الطريق التي تنطلق من باب البيكو وتمتد نزولاً على تل سان لاثرو، لتفضي إلى أكستريمادورا. صرتُ أشبه ذلك العابد الذي يعتزل الناس ويختلي في الكهوف والمغارات ليعرف حقيقة الله. أنا لم أكن في خرجاتي وعزلاتي الكثيرة والخاطفة تلك أبحث عن حقيقة الله، كنت أبحث فقط عن حقيقتي.

(*) فصل من رواية بالعنوان نفسه، صدرت الأسبوع الماضي عن «منشورات المتوسط».
(**) المغرب