تحضر فلسطين كخلفية لموضوع شخصي في رواية سليم البيك الجديدة «عين الديك» (دار هاشيت أنطوان ــ 2022) عبر علاقته بامرأتين، واحدة فرنسية هي لويز والأخرى فلسطينية هي هديل. تبدو حكاية خروج جده من ترشيحا كأنها أحد تلك الخطوط التي يحيك فيها حكايته بكل شيءـ لنرى كيف يستعيد هو بذاته كل مرة هذه الذاكرة وكيف يتركها تدخل في تفاصيل حياته، فلا يمكنه فصلها عن واقعه في باريس، ولا عن موضوع الرواية أيضاً. نذهب معه إلى خلفية الرواية، لنرى كيف يحيك تفاصيلها فيطلعنا على طريقة تفكيره بكتابتها، وكيف تبدو له الذكريات والخيال والشخصيات كأنها حكاية أخرى موازية لحكاية فلسطينيته، أي أنها حكاية حقيقية بأسئلتها اليومية والشخصية.تبدو باريس كأنها مكان آخر بالنسبة إلى سمير الذي عاش في سوريا ولبنان، وفي مخيمين هما اليرموك ومار الياس، فهي أليفة بغرابتها، ولا يود سمير أن يعتبرها استعارة أو مجازاً لعلاقته بالمرأتين، فلم تكن المرأة بالنسبة إليه وطناً أو مكاناً، لكننا نشعر رغم ذلك بأنّ هناك شرقاً وغرباً يمتزجان في هاتين العلاقتين، وأنه يحبّ هديل الفلسطينية صاحبة الغاليري بالقدر نفسه الذي يحب لويز الفرنسية الرسامة التي تود عرض لوحاتها في غاليري هديل. تبدو هويته الفلسطينية هنا متصالحة مع العالم حولها، بل إنّ سمير يحاول اكتشافها في التفاصيل الصغيرة حوله وفي الأحاديث والنقاشات والذكريات التي لا تغادر المشهد. لكن حكاية جده التي تجنب روايتها، تشكل قلقاً لسمير الذي تجنب أيضاً تسجيلها، ربما لشعور داخله بالألم، وهو ما جعله دائماً يعود إلى حكايته بالمرأتين.


نتتبع على طول الرواية كيف تتقاطع حكاية جده مع حكايته مع المرأتين، أو كيف تحضر الحكاية الأخرى وكيف تغيب، كأن الرواية هي البحث عن هذا الخيط الرقيق بين الحكايتين، خصوصاً أنّه يحاول أن يطرح أسئلة الرواية وطريقة تفكيره بها، فنشعر كيف يفكّر سمير بهويته، وكيف يختار أن يكتب تفاصيلها في روايته. فتحضر كسؤال عن معنى وجوده في العالم، معنى الحب والفن، لينفتح على ذاكرته بطريقة أقوى، فيقول إنه بابتعاده المكاني عن فلسطين، وبخروجه من المخيم، اقترب أكثر من فلسطين. وها هو يحمل أسئلته الخاصة عن فلسطينيته داخل الرواية، فيتساءل إن كانت شخصيات روايته فلسطينية، أو أن حكاية روايته فلسطينية، وما معنى أن تكون فلسطينية وتحدث في باريس؟
يصل إلى جواب ما أنها فلسطينية لأنها حكاية فلسطيني، مهما تضمنت هذه الفلسطيني من قلق وهشاشة وتشكك. لذلك يفكر أن تعود تلك الشخصيات إلى مكان فلسطيني، إلى رام الله مثلاً، ليتزوج زياد بهديل. نطرح مع الكاتب تلك الأسئلة لنقترح نهاية ما، لنعود معه إلى روايته الشخصية التي لا تنفصل عن حكايته كفلسطيني، بل تسائله أكثر عن هويته وعن حكاية جده. يظهر له أن موضوع النجاة هو نجاة من فكرة فلسطين وصورتها. فها هو يعود في باريس إليها لكي يكتشف معناها من جديد.
ما يجعلنا نتشوق لتتبع مسار الرواية والشخصيات هو اهتمامنا بأسئلتها التي تستمر حتى النهاية، والتي يصرّ الراوي على جعلها واضحة ويهتم بكتابتها منذ البداية، فليس سهلاً العثور على تلك الحبكة رغم بساطة الأسلوب. كأننا هنا نشترك في عملية الكتابة، فيصبح القارئ كاتباً آخر، مهتمّاً بتفاصيل كتابة الرواية لأنها جزء من الرواية نفسها. السؤال أهم بكثير من الجواب، وهذا ما يجعل الكاتب والراوي أساسياً في الرواية، ليدفعنا إلى البحث عن الخيوط التي تعقد الشخصيات ببعضها، كما الأمكنة والتي نصل فيها إلى استنتاجات الكاتب وانطباعاته عن غربته. ولكنه يجعل تلك الانطباعات والخلاصات رغم أهميتها هامشيةً، لأن الحياة تلهمه هناك بالسؤال والبحث، وهذا جزء مهم من هويته.
فلسطين التي يراها زياد، مختلفة عن فلسطين التي يراها سمير في ذهنه، فهي كانت دوماً ترشيحا، لا المخيم الذي يعرفه، هو يذهب إلى تعريف آخر لها، إلى معناها الحقيقي داخله، كأنه يبحث من جديد عنها ويلتقي بها كلقائه بهاتين المرأتين. هذا الاختلاف هو جوهر البحث والحفر داخل هذه الهوية. وهنا يذكر الكاتب أيضاً قصيدة «طباق» من محمود درويش إلى إدوارد سعيد، يقول له: «أنا من هنا/ ولست هناك ولست هنا». والقصيدة هنا تدخل إلى جوهر هذه الأسئلة حيث يطرحها محمود درويش بطريقة أخرى قائلاً: «دم ودم ودم في بلادك، في اسمي وفي اسمك، في زهرة اللوز، في قشرة الموز»...
تبقى حكاية الجد الذي خرج من ترشيحا عالقةً في المناخ السردي


وبالعودة إلى موضوع المرأتين، ها هو يعود إلى حياته اليومية، فنقتنع أن الرواية لا تنفصل عن تفاصيلها اليومية مهما كان الموضوع أبعد من ذلك ويتعلق بالهوية والوطن. فهذا الانزياح المقصود هو أيضاً جوهر الرواية، التي تستفز التفكير بمعنى كونك فلسطينياً. فلويز وهديل ليسا تفصيلاً هامشياً، بل إنّ الرواية تدور حولهما، تبدأ بهما وتنتهي بهما. لكن مع ذلك، فهي قادرة على صوغ هموم أخرى داخل هذه القصة الشخصية. فلا تبدو فلسطين بعيدة عن مشاغلنا اليومية ولو حاولنا ذلك أو أقنعتنا الحياة بذلك. في النهاية، تبقى حكاية الجد الذي خرج من ترشيحا عالقةً في الجو السردي للرواية. يحاول الكاتب أن يعود إلى حكاية جده لكن من دون أن يرويها لأنه كما يقول يريد للنكبة رواية مكتملة وحقيقية. وهذه الرغبة واضحة في الرواية التي تحفز التفكير في رواية النكبة التي لم تكتب حتى الآن بعد. هذه الرواية هي سؤال عن الحكاية الحقيقية التي تظهر كل مرة بقوة بين ثنايا الحياة لتعيد صياغة الأسئلة المتعلقة بالهوية بطريقة أخرى وبأبعاد جديدة.