للكاتب والفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي كتاب بعنوان «الكتابة بالقفز والوثب»، وهذا العنوان يشبه تماماً ما يفعله عبد اللطيف في مجموعته، بدءاً من أول قصة «شهوة الملاك» التي تحكي عن جريمة اغتصاب حدثت في حي المعادي الهادئ في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي. تبدأ القصة بمشهد إعدام صلاح أبو وردة، ثم يتم ذكر شخص آخر هو عاطف البطل الثاني للقصة. تبدأ الأخيرة بنهاية أحداثها بدون تمهيد لما سيحدث. يقفز عبد اللطيف بالسرد بعنف شديد من حدث إلى آخر. ورغم هذا لا تفقد القصة بناءها السردي رغم هذا التنقل العنيف.
ثم يظهر الفنان حمدي الوزير، وهو أحد ممثلي الدرجة الثانية في مصر في ثمانينيات القرن الماضي. ثم تظهر فتاة باسم «عتاب» ممثّلة لكلمة الشهوة، وممثّلة لتأمل مصيرَي صلاح أبو وردة بطل القصة وحمدي الوزير. يصبح للقصة معنى آخر فتتجاوز مقاربة تيري إيغلتون، أو تجبر القارئ على أن يهتم بكون هذه القصة أدباً صافياً ولا يهم التفريق بين «الواقع» أو «التخييل». تجبره أيضاً على تجاوز فكرة التقييم الزمني الذي لا يحبّذ إيغلتون الخضوع له في تقييم ما إن كان ما يُكتب أدباً أم لا. تشتبك مع المجتمع وتحلله عن طريق المقاربة بين حادثة الاغتصاب الحقيقية والصورة الساخرة المنسوبة إلى حمدي الوزير أخيراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحصره في أدوار الاغتصاب أو الصورة الكاريكاتورية المنسوبة إليه وهو شبق لممارسة الجنس. وهنا ينتقل بنا السرد لا عبر القفز بالأحداث فقط، بل عن طريق القفز بالزمن أيضاً من خلال تحليل مراحل حياة فنان درجة ثانية أو بطل ثانٍ كما ذكر عبد اللطيف في القصة، ومقاربة ما آل إليه بتحوله من شخص كان محمياً في سلطة أبيه الصول فتحي أبو وردة، إلى شخص جبان يتبوّل على نفسه عند الإعدام. يصوّر عبد اللطيف أن السلطة شهوة مثلما الجنس شهوة أيضاً. ويتكرر القفز بالسرد على مدار مجموعته، مع تحليل المجتمع وتحولاته العنيفة عن طريق الفن مثلما حدث في قصتَي «موسم الأوقات العالية» و«دراسة في العشق الأوديبي».
لا تفقد القصة بناءها السرديّ رغم التنقّل العنيف
عبد اللطيف المقيم خارج مصر، سألته مرة الشاعرة هدى عمران عن الأثر الذي تتركه الغربة على اللغة، وما إذا كان الكاتب يتحول، في لحظات الاغتراب، إلى سارد أم شاعر، فأجابها بأنّ «هناك لحظات لهذا ولحظات لذاك، كما في أي مكان. بالنسبة إلي، الشعر هو ما يتصفّى من الخبرة في النهاية». ربما معنى إجابته يظهر بوضوح في أول أعماله «ناس وأحجار» الذي يُظهر شاعرية لغته بوضوح. تظهر هذه الشاعرية أيضاً في «موسم الأوقات العالية». يظهر المكان بوضوح في أعمال «البلد». لا يفصل بين اللغة والمكان شيء في كتابة عبد اللطيف، وما قاله عن المكان ينطبق على اللغة أيضاً، بل يضاف إليهما عنصر آخر: عيناه اللتان تشبهان كاميرا متنقّلة، تصطدمان بالمكان لا لتكتبا عنه فقط، بل لتصنعا عوالم مكتملة يصعب التفريق ما إن كانت تنتمي إلى الخيال أم إلى الواقع. تتكرر ثيمة المكان في كل أعماله بشكل مختلف، مرة لتأريخ المكان بصفة منعزلة عن الزمن، ومرة يستخدم المكان واللغة في التأريخ لزمن منقض. لذا، ربما ما عناه أيضاً من جملة أنّ ما يتصفّى من الخبرة في النهاية هو الشعر، أن الفيصل في النهاية هو ما يتبقّى بعد الكتابة... أن يسأل الكاتب نفسه: هل ما قُدم هو أدبٌ أم لا؟ ولأن الشعر هو الأدب لا جنسٌ منه، ربما لذلك ذكره عبد اللطيف. وربما لذلك يصبح إيغلتون محقاً في عزوفه عن تلك المقاربة بين الواقع والتخييل.