في أحد الحوارات، يقول محمود الورداني: «كل ما كتبته، لا أعتقد أنه يشكل إضافة ما، ولا أظن أنّ الإضافة كانت تعنيني مطلقاً، ما يعنيني هو الكتابة ذاتها. لا أكتب من أجل أن أضيف شيئاً أو فكرة أو موقفاً أو رأياً محدداً. الكتابة هي عملية اكتشاف. ولو كنت أكتب من أجل أن أضيف، لما كتبت شيئاً. قبل الكتابة، لا تكون الأمور واضحة... لا الشخصيات ولا ملامح الواقع ولا إلى أين تمضي الأحداث. حسب تجربتي، أنطلق من إحساس ما غامض. من عالم أو حكاية أو تصور أو معنى ما غير محدد، والمنتج النهائي هو عملية اختبار كل هذا واستكماله من خلال الكتابة». في كتابه الجديد «الإمساك بالقمر ــ فصول من سيرة زماننا» (دار الشروق ـــ مصر)، لا يلتزم الورداني بطريقة محددة للكتابة. لا يتحرك من نقطة بهدف. يتجاوز الشكل المعتاد للكتابة الذاتية. تمثل ذاته في العمل صوت راوٍ يحكي عن زمن عاش فيه.


ينتمى الورداني إلى جيل السبعينيات المصري، ونسبة كبيرة من أبناء هذا الجيل تنتمي إلى اليسار. ورغم ما أرّخ له في الكتاب، لم يقدم الورداني يساراً خالياً من الأخطاء، بل انتقده ولم يخف أخطاءه، وربما من هنا تأتى أهمية هذا العمل: إنّه سيرة زمن لا سيرة ذاتية، أقدم عليها كاتب يرى أن الجماعة المنتمي إليها ظُلمت، أو أنه ظُلم، وأن أفكارها على صواب دائماً، ينقد أفكار الجماعة من قلبها، يراجع أفكارها وأفكاره، يحاسب مواقفه كما يحاسب مواقف هذه الجماعة.
في إحدى رسائل فلوبير، قال صاحب «مدام بوفاري»: «ليس بالأمر اللذيذ أن تكون شخصاً آخر حين تكتب، لكن اللذة تكمن في أن تتقمّص كل شيء تتذكره». يلعب صاحب «أرض البرتقال» هذه اللعبة بخفة مدهشة. يتقمّص كل ما يتذكره، يحكي من قلب الجرح الغائر الذي مسّه ومسّ زمنه. في الفصل السابع من الكتاب، يقول «العم محمود» كما يُلقّب: «أريد هنا أن أؤكد مرة أخرى أنني لم أخطط لما أكتبه، بل فوجئت بكل ذلك وهو يتدفق بتفاصيله. والحقيقة أنّ كل ما أتمناه، هو أن أتمكن من الاقتراب منه واستدعائه». تدلّل هذه الفقرة على أن الكتابة في لحظة ما تأتي كألم يضغط على صاحبه ولا يخرج الألم هذا إلا بالكتابة، أو كما يقول برديائيف إنّ الأنا تجهد في الخروج من وحدتها آخذة بشتى السبل: المعرفة، الجنس، الحب، الصداقة، الحياة الاجتماعية، الفن. وربما هذا ما فعله الورداني في كتابه. خرج عن ذاته، داعياً آخرين إلى قراءة زمنه، غير متأثّر إلى أي فكر ينتمي، وربما هذه أهم ما يميز الأدب الجيد.
عندما يذكر أدب السيرة الذاتية، ينقسم القراء إلى فريقين. فريق يراه أدباً يحكي من منطلق الذاتية المتطرفة، التي تجعل الكاتب بطلاً أو مظلوماً، وبعضهم الآخر يراه هو الأدب وحده وكل ما هو موضوعي في هذا الأدب يفقده صدقيته ومغزاه. ومما يمنح «الإمساك بالقمر» قيمةً وأهمية مغايرة عن كل السير الذاتية العربية، أنه تجاوز معنى ومفهوم كلمة «الذاتية». ينقض المتعارف عليه، يتجاوز التصنيف الأدبي، والشكل المتعارف عليه في كتابة مثل هذا النوع. لا يلتزم بشكل معيّن في الكتابة، في وقت تجده فيه يحكي عن يوسف إدريس ونجيب محفوظ وصلاح عيسى. وفي وقت آخر، يحكي عن بيت الرفيقة نعمات وعنها، يقفز بالسرد من منطقة إلى أخرى، ويفقد التتابع الزمني. ورغم هذا، لا تفقد الكتابة جمالها، ولا أهميتها.
ومن هنا، يتجاوز الكتاب فكرة الرأسمالية التي تحتّم أن تكون الكتابة منتجاً أدبياً له تصنيف وشكل محدد. تمنع الكاتب من أن يغرق في نهر ما يكتب، وتحول بينه وبين صدق ما يكتب.
يقيّم نقدياً تجربة اليسار وجيل السبعينيّات


الانتماء إلى فكرة أو جماعة يحتّم على المرء أحياناً كثيرة عدم انتقادها أو انتقاد أفكارها. وكما جرت العادة في أوطاننا العربية، الانتماء إلى الأوساط الثقافية أو السياسية يصنع حالة قطبية، تمنع الموضوعية من ذكر أحداث تاريخية سابقة، وتخلق حول رموز هذه الأوساط حمايةً مطلقةً، وتعاملهم في أحيان أخرى كآلهة لا تخطئ ولا يصح انتقادها. في الكتاب، يقدم الورداني نموذجين لنقد الجماعة من قلبها. يذكر مواقف شجاعة الصحافي والمؤرخ صلاح عيسى، وفي لحظة أخرى ينتقد مواقفه السياسية قبل موته، رغم أنه ينتمي إلى فكره السياسي نفسه.
والنموذج الآخر هو القاصّ يوسف إدريس، يذكر مواقفه ومساعدته لجيله، وإسهاماته في الحياة الثقافية، ويذكر مواقفه المخزية أيضاً، وينتقدها بشدة، ويقف أمام تناقض إدريس مندهشاً مثلنا جميعاً.
لعلّ هذه ميّزة أخرى للكتاب، قلّما نجدها في عالمنا العربي اليوم، أن نكون أمام كتابة حقيقية تتجاوز الانتماءات والاعتبارات والأفكار السياسية. اختار الورداني عنواناً ربّما يبدو روائياً أكثر منه متعلقاً بسيرة زمن. لكنه يوضح سبب اختياره في بداية كتابه، مشيراً إلى أن السبب كان أنّ جيله شعر بأنه أمسك القمر عقب أحداث واعتصامات يناير 72. وهذا يضيف إلى الكتاب بعداً جمالياً آخر.