الإحصاءات المرتبطة بموضوع المؤلف التي قدمها الكاتب، تعكس نظرة الاستعمارين، البريطاني والفرنسي، التقسيمية أرضاً ومجتمعاً، لمجمل البلاد العربية، شرقاً وفق مؤامرة سايكس بيكو المعروفة التي ضمت مختلف دول الخليج الفارسي، وكان رديفها في ليبيا، خطة بيفن-سفورزا، لتقسيمها إلى ثلاث دويلات هي طرابلس وبرقة وفزان. لقد اتبع الاستعمار هذا المنهج التقسيمي التناحري في مواجهة الجامعة العثمانية الحداثية التي عملت الثورة في اسطنبول على تنميتها، وسبق لنا الإشارة إلى هذا عندما عرضنا كتاب ميشيل كمبُس «أخوة عثمانيين» (الأخبار: 5/12/ 2015).
يعتمد الكاتب على الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية التي توثق أعدادهم
هذا الجانب ضروري ذكره في هذا العرض لأننا نرى أن جداول عديدة، مهمة طبعاً، أوردها الكاتب في عمله تشير إلى أعداد مختلف الطوائف الدينية و«العرقية».
الفصل الثاني «الإرث الاستعماري وتأثيره في يهود العراق» خصصه الكاتب للحديث في التدخلات الاستعمارية البريطانية في البنية الاجتماعية العراقية وسعيها المحموم إلى تسهيل عمل المنظمات الصهيونية، التي هي في الأصل، إشكنازية، أي أوروبية، غريبة عن حياة يهود المشرق المعروفين باسم المزراحيم، أي: المشرقيين. مشروع تحويل فلسطين إلى وطن لليهود، بريطاني في الأصل، وبدأ بانتشار الوباء الألفي الذي ساد تلك البلاد في أعقاب الثورة الفرنسية والأفكار التنويرية، إضافة إلى ممارساتها الدموية الوحشية بحق الأرستقراطية، السائدة في مختلف دول أوروبا، التي أطلقتها وهزت مختلف أنحاء غربي القارة الأوروبية، وبريطانية في المقدمة. ينهي الكاتب هذا الجزء بتأكيد إخفاق الحركة الصهيونية في سعيها لدفع يهود العراق للالتحاق بها في فلسطين، المستعمرة البريطانية، وهو أمر استمر حتى اغتصاب فلسطين وتهجير أهلها بقوة السلاح، وفق مؤامرة ما يسمى حرب فلسطين، التي كانت في حقيقتها حرب تقاسم فلسطين بين أنظمة سايكس-بيكو، وكيان العدو أحدها. وهذا الأمر موضوع الفصل الثالث «تهيئة المشهد للهجرة والتمسك بالبقاء». هنا تحديداً نرى تغيراً محدوداً في المزاج العام بين يهود العراق: يوضح الكاتب بالأرقام أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين المحتلة بين عامي 1948 و1952، ليس من العراق فقط، وإنما من مصر ومستعمرة عدن أيضاً. شكل تمكن العدو الصهيوني من اغتصاب معظم أراضي فلسطين (الانتداب) وطرد أهلها منها نقطة تحول في المزاج العام تجاه «اليهود» في العراق وغيره، وهو أمر قد يبدو طبيعياً بسبب الخطاب الديني السائد، التقسيمي في جوهره، وهو ما منح الحركة الصهيونية فرص نجاح في انتزاع اليهود العرب من جذورهم التاريخية واستخدامهم دروعاً بشرية (سنعود إلى هذا الموضوع في عرضنا كتاب «العصبية وسياسية الخوف في إسرائيل»، وفق مفاهيمها العنصرية، وهو موضوع الفصلين الرابع «حيثيات قانون إسقاط الجنسية»، والخامس «الهجرة الجماعية»).
قانون إسقاط الجنسية الذي أصدره العراق المستعمَر شكل منطلقاً لمساعدة كيان العدو الوليد، وفق عملية «تبادل سكاني» اقترحتها لندن بهدف القضاء نهائياً على قضية شعب طرد من وطنه؛ ما فاجأنا أن الكاتب لم يستعن بمؤلف ماري ولسن الذي يتطرق إلى المسألة بالعلاقة مع حاكم شرق الأردن العميل، عبد الله (الأول) ودوره في تسهيل إخراج يهود العراق من بلادهم عبر إمارته الكاريكاتورية والأجر الذي قبضه ثمناً لجريمته هذه بحق العراق ويهودها العرب وفلسطين. في الفصل الأخير، استعرض الكاتب المؤثرات الداخلية في دفع اليهود للهجرة، طوعاً أو قسراً، تلا ذلك ملحق يحوي مجموعة مهمة من الوثائق ذات الصلة بمادة المؤلف.
ملاحظة أخيراً، الزميل عباس شبلاق لم يميز، على نحو واضح، الهجرة الطوعية الحقيقية التي تتم لأسباب شخصية فردية، من «الطوعية» الأخرى التي تتم بسبب قيام الجهة المستقبِلة بجذب المهاجرين المحتملين، وهو أمر مهم لفت الانتباه إليه أهل الاختصاص وسبق لنا الإشارة إليه في عرضنا كتاب «نزف العقول الدائم» في عدد الأخبار 2786 الصادر بتاريخ 13 كانون الثاني 2016.