لدينا نقش مهم نُشر حديثاً من منطقة «تيماء» في الجزيرة العربية. وأهميّته تنبع من أنه مكتوب، في ما يبدو، بثلاث أبجديات لا أبجدية واحدة. صحيح أنه نقش صغير، لكن العثور على نقش ثلاثيّ الأبجدية ليس أمراً قليل الشأن.النقش مكوّن عملياً من ثلاثة نقوش: واحد قرب رأس الحيوان، واثنان تحت أرجله.



النقشان الثاني والثالث متشابهان مع اختلافات قليلة. وبسبب الشبه والاختلاف، فقد افترض ناشر النقش، وهو هاوٍ في ما يبدو، أنّ الكاتب أخطأ في كتابة نقشه، فاضطر لإعادة كتابته من جديد، وهذا ما أعطانا نقشين متشابهين. لكنّ الأمر لا يتعلق في الحقيقة بنقشين يصحّح أحدهما الآخر، بل بجملة واحدة كتبها الكاتب بأبجديّتَين مختلفتَين لكن قريبتَين إلى حدّ بعيد من بعضهما. أي أنه كان، وبشكل ما، يستعرض معرفته بالأجديّتين، وباللغتين، أو اللهجتين اللتين تمثلانهما.



وقد قرأ الناشر النقشين من اليسار إلى اليمين. وهذا غير سليم في اعتقادي. فهما يُقرآن من اليمين إلى الشمال. أما النقش الأول قرب رأس الحيوان، فيُقرأ بالفعل من اليسار إلى اليمين. لكنّ الناشر لم يعرض لهذا النقش الذي لم يلفت انتباهه.
الحرف الأول في النقشَين إضافة إلى الحروف الثلاثة الأخيرة متشابهة تماماً. بذا، فالنقشان يختلفان في الحرفين الثاني والثالث فقط. لكنني سأقترح أن الحرف الثالث في النقشين هو الحرف نفسه، مع اختلاف في الشكل.

الحرف الثالث في النقشين


أما الأسفل منهما، فهو لام بكل تأكيد. فهي خط مستقيم مثل اللام في الخطين الثمودي سي والصفائي. لكن الأعلى لام أيضاً في ما نقدّر. ونحن نعرف أنّ حرف اللام في شكله الأقدم كان يميل نحو أن يكون لولبياً أو مدوراً في نهايته. وأدناه نماذج من حرف اللام في النقوش السينائية.

أشكال حرف اللام في النقوش السينائية، هاملتون 128-129


وكما نرى في الصورة أعلاه، فاللام تنتهي بحلقة مقفلة أو شبه مقفلة. أما الحرف الذي نتحدث عنه، فقد جعل الخط الذي أقفل الحلقة يمتد في الجهة الأخرى، بحيث بدا وكأنه حرف الصاد في شمال الجزيرة العربية. وقد رسمنا تحته لاماً لم يمتد خط حلقتها ولاماً أخرى امتد خط حلقتها.



ووجود اللام التي تنتهي بحلقة دليل قوي على قدم النقش الذي نتعامل معه. فهذه اللام لم تعد موجودة في نقوش الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً ربما منذ القرن السادس قبل الميلاد على أقل تقدير، وهو ما يُشير إلى أن نقشنا يعود إلى فترة أبعد من هذه الفترة في الزمن.
بناء عليه، يتبقّى لدينا حرف واحد مختلف في النقشَين هو الحرف الثاني.

الحرف الثاني في النقشين


أما الحرف الأدنى فهو الحاء. لكنّ نظيره الأعلى ليس حاء بكل تأكيد. فلم يسبق لنا أن عثرنا على حاء تمثل خطاً مستقيماً. الخط المستقيم محجوز للنون، أو للام في بعض الأحيان. وبما أنّنا رأينا اللام ذات الحلقة في النقش ذاته، فإنه يمكن الحكم أنّ هذا الحرف هو حرف النون.
بذا فالنقشان يقرآن هكذا:
الثاني: شن لتفع
الثالث: شح لتفع
ويبدو لي أنّ الكلمة الأولى في النقشين تمثل اسم إشارة رغم أننا لا نعرف اسم إشارة على كل شكل «شن» أو «شح» في العربية.

كلمتا «شن» و«شح»


لكن لدينا اسم إشارة بالعامية الشامية هو «شحو» لا يعرف أصله بدقة. فهل يكون اسم الإشارة في هذا النقش هو أصل اسم الإشارة العامي «شحو»؟ هذا محتمل، بل ومحتمل جداً.
أما بخصوص «شن»، فلم ترد كاسم إشارة على حدّ علمي. لكن لدينا اسم الإشارة «زن» في الجزيرة العربية. فهل تكون «شن» في النقش لهجة من «زن» هذه؟ ربما. لكن هناك كلمة «شن» تُستخدم في مناطق متعدّدة من البوادي الفلسطينية بمعنى: انظر، أو ها هو، أو إليك. بذا فمن المحتمل أنّ هذه الكلمة على علاقة بالكلمة التي في النقش.
أما الاسم «تفع»، فربما كان يجب أن يُقرأ هكذا: تافع، أو تفاع. وهو اسم الكتاب كما يظهر. بذا فالنقشان يقولان بلهجتين مختلفتين: «هذا لـ تافع».
وإذا صحّ أنّ «شن» و«شح» اسما إشارة في لغتين، أو لهجتين، مختلفتين في الجزيرة العربية، فلا بد أنهما يشيران إلى الشيء ذاته. وليس في الصورة شيء يُشار إليه سوى الحيوان المحفور. بذا، فـ«تافع؟» يخبرنا أنه هو من حفر هذا الحيوان. أي أنه حين قال: «شن لتفع»، أو «شح لتفع»، كان يعني أن هذا الرسم أو الحفر هو من صنع تافع.
ومع أنّ رسم الحيوان مؤسلب بقوة بشكل يجعل التعرف عليه أمراً غير يسير، لكن يبدو لي أنه ثعلب. ويبدو أن النقش الذي قرب رأس الحيوان يؤيد هذا الاستخلاص.



ورغم أنّ حروف هذا النقش صغيرة الحجم وليست بوضوح حروف النقشَين الأسفلين، فإنه يبدو لنا كأنه مكتوب بأبجدية ثالثة مختلفة ذات طابع خليط. وتبدو هذه الأبجدية قريبة من الأبجديات الفينيقية-الكنعانية.
والنقش مكوّن من ثلاثة حروف، ويُقرأ من اليسار إلى اليمين، على عكس النقشين الآخرين. الحرف الأول من اليسار هو حرف الصاد الفينيقي-الكنعاني مع تنويع بسيط.



الحرف الثاني هو الدال الفينيقية.



أما الحرف الثالث فهو نون مثل النون الحسمائية والحسائية من شمال الجزيرة العربية، وهي نون تتكون من خط عمودي بجواره نقطة.



بذا فالنقش خليط من الأبجدية الفينيقية وأبجديات شمال الجزيرة العربية. أما الكلمة كلها فتُقرأ هكذا: «صدن». وبإضافة حروف العلة القصيرة والطويلة، فإن الكلمة تُقرأ هكذا: صَيْدَن.



فماذا تعني هذه الكلمة الغريبة؟
هذه الكلمة اسم عربي قديم جداً للثعلب لم يعد مستعملاً: «الصيدن: الثعلب، وقيل: من أسماء الثعالب... وأورد الجوهري هذا البيت، بيت كُثيّر، شاهدا على الصيدن دويبة تعمل لنفسها بيتاً في الأرض وتعميه. قال ابن بري: الصيدن هنا عند الجمهور الثعلب كما أوردناه عن العلماء. وقال ابن خالويه: لم يجئ الصيدن إلا في شعر كثيّر، يعني في هذا البيت. قال الأصمعي: وليس بشيء» (لسان العرب). ويبدو أن الأصمعي على خطأ في رأيه، فها هو نقشنا يذكر الصيدن الذي يبدو من الرسم أنه الثعلب، وإن كان شكل رأسه لا يعطينا فرصة لتأكيد ذلك نهائياً. فهو يأخذ شكل دائرة من دون أذنين. بالتالي، نقول إنه ثعلب من دون تأكيد. ذلك أنه يمكن أن يكون نوعاً من السنّوريات كالوشق مثلاً. وابن بري يتحدث عن دابة تحفر بيتها في الأرض وتعميه لكنه لا يخبرنا بشيء عن هذه الدابة. على أي حال، فالثعالب تحفر بيوتها في أحيان كثيرة.
إذاً، وانطلاقاً ممّا عرضناه، يمكن استخلاص هذه النتائج:
أولاً: أن لدينا نقشاً من شمال الجزيرة العربية مكتوب بثلاثة خطوط مختلفة.
ثانياً: أنّ اثنين من هذه الخطوط من خطوط شمال الجزيرة العربية. أما الثالث فيبدو أقرب إلى الخط الكنعاني- الفينيقي.
ثالثاً: أن النقش يذكر اسمَي إشارة لا وجود لهما في العربية. لكنهما موجودان في لهجات بلاد الشام في ما يبدو.
رابعاً: أنّ الكاتب كان يتقن الخطوط الثلاثة. ويبدو أنه كان يتقن لغاتها ولهجاتها أيضاً.
خامساً: ووجود الخط الفينيقي مع خطَين من شمال الجزيرة يذكران اسمَي إشارة ليسا موجودين في العربية، يُشير إلى قدم النقش المثلّث كله. ولعله يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد أو فترة قريبة منها. وإذا صحّ هذا، فإنّ هذا النقش قد يكون واحداً من أقدم النقوش التي بين أيدينا في شمال الجزيرة العربية.

* شاعر فلسطيني