منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، يقف منصف الوهايبي (1949) كعلامة فارقة في المشهد الشعري التونسي؛ ارتبط اسمه بمدينة القيروان وشكّل في السبعينيات لغاية مطلع الثمانينيات «ثنائياً» شعرياً مع محمد الغزي. توالت أعماله الشعرية والأكاديمية والروائية التي يعتبرها «ما زاد عن الشعر» على حد تعبيره ولا تستوعبه القصيدة. ما يحاول شاعرنا أن يفعله منذ عقدين أو أكثر أن يبني النص كصورة مركّبة تحفل بالأصوات والألوان واللغة، وفق ما يقول لنا، بينما يعود إلى ذاكرة الأسئلة الأولى لأبناء جيله، وعلاقة تجاربهم الشعرية بـ «الالتزام»، وبما هو يومي ومعاش من جهة، وصوفي ورمزي من جهة أخرى، مؤكداً أنه لا يلتفت إلى شعر الصوفيين بل نثرهم. تعددت اهتماماته بين الكتابة الشعرية والنقدية إلى جانب كتابة السيناريو لأعمال سينمائية عدة، وتجريبه في الرواية في ثلاث محاولات. درس الشعر العربي قديمه وحديثه وكتب فيه أطروحتين، الأولى عن أدونيس والثانية عن أبي تمام، وظهرت ملامح قصيدته الشغوفة بما يسميه صفاء اللغة وتوظيف الصورة منذ ديوانه الثاني «من البحر تأتي الجبال» (1991)، إذ أصدر أكثر من عشر مجموعات أحدثها «بالكأس ما قبل الأخيرة» (دار مسكيلياني ـــ 2019). أجرينا هذا الحوار قبل تعرّض شاعرنا لحادث سير مؤسف في تونس أودى بحياة زوجته، وتركه ببعض الإصابات. إذ نتقدّم منه بخالص العزاء على مصابه، نتمنى له الشفاء العاجل
منصف الوهايبي: الالتزام، لا الإيديولوجيا، هو الذي يعزو إلى الأدب واجب التدخّل المباشر في شؤون العالم


قبل حوالى خمسين عاماً، بدأت تجربتك الشعرية بمنحى صوفي، كيف تنظر إلى تلك البدايات اليوم؟
ـــ الحقّ أنا بدأت أنشر قصائدي في أواخر الستينيات، عندما التحقت بالجامعة التونسيّة. وكان ذلك في مجلّة «الفكر» للوزير الأوّل الراحل محمّد مزالي، ورئيس تحريرها البشير بن سلامة. وقد فتحت لنا ونحن طلبة، منبرها. وكانت هذه القصائد «ملتزمة» في مجملها، أو هي تنحو منحى «يساريّاً». إذ كنت أيّامها منتمياً إلى حركة «برسبكتيف/ آفاق» السريّة؛ وكان من الطبيعي أن أكتب في هذا الأفق «الالتزام»، وأن أطرح مع أبناء جيلي الأسئلة التي كانت تؤرّقنا: باسم ماذا يلتزم الشاعر؟ وباسم من؟ وهل يعرف الشاعر حقّاً «الطبقة» أو الجمهور الذي يتوجّه إليه بأدبه، أو الذين يعتبرهم لسان حاله؟ وكيف؟ بدأت ملتزماً، وإن مازجت هذا الالتزام مؤثّرات من «الوجوديّة» التي كنّا نقبل على قراءتها، لا الصوفيّة. والالتزام، لا الإيديولوجيا، هو الذي يعزو إلى الأدب واجب التدخّل المباشر في شؤون العالم وأشيائه وحالاته أي في «ما لا يعنيه» بعبارة سارتر، وإلزام الكاتب مغادرة وضع العزلة. والكاتب أو الشاعر أو المبدع عامّة «ملتزم» كلّما كان واعياً بكونه مورّطاً، فينقل ساعتذاك الالتزام من العفويّ إلى التبصّر. والحقّ أنا أميل إلى الكاتب أو الشاعر الذي يختار موقفه أي عصره، بدلَ أن يختاره العصر. وشتّان بين «الإيديولوجيا» وهي وهم، والالتزام وهو محكوم بالمخاطرة والمجهول أو اللامتوقّع. وأمّا الصوفيّة، فأنا لم أكن صوفيّاً قطّ، ولن أكون. بل قد تستغرب إذا قلت لك إنّي لا أحبّ الشعر الصوفي، وإنّما تجارب المتصوّفة ونثرهم مثل «المواقف والمخاطبات» للنفّري. وكنّا أيّامها ننشد نوعاً من «الصفاء اللغوي» أو «الصفائيّة» الجماليّة، أي الحرص المفرط على صفاء اللغة والأسلوب، فوجدنا ضالّتنا في هذا المعجم الصوفي، على نحو ما فعل صلاح عبد الصبور وأدونيس والبيّاتي. على أنّي منذ كتابي الشعري الثاني «من البحر تأتي الجبال» الصادر أواخر الثمانينيات، صرت أميل وقد شغلني عالم اليومي والمعيش، إلى استخدام مصطلح «النصّ القوي» المنشدّ إلى قضايا الإنسان الكبرى، وكتابة نصّ تتعالق فيه الفنون جميعها وخاصّة الرسم والموسيقى. وقد يقول القائل: وكيف؟ ولكلّ من الشعر والرسم مثلاً لغته، ولكلّ عالمه المميّز. فكيف لهما إذن أن ينضمّا ويندمجا؟ فإذا سوّغنا أنّ هذا بإمكانهما، فأين موقعه: عمل الشاعر أم عمل الرسّام؟ بل هل يمكن أن نعقد حواراً بين هذين الفنّين أو التعبيرين؟ ما أحاول فعله منذ عقدين أو أكثر بقليل، أن أبني النصّ من حيث هو صورة مركّبة، أي الصورة على نحو ما يستخدم الرّسام «الدّخلة» أي مزج الألوان وتخليطها، ليأخذ منها لوناً آخر.

في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ظهر مصطلح «المدرسة القيروانية» التي ضمت معك محمد الغزي وعلي اللواتي وغيرهما، كيف ترى هذه التجربة في سياق تحولات التجربة الشعرية التونسية؟
ــ هذه تسمية أطلقها بعض أصدقائنا على الشعراء الذين ذكرت. وهي في تقديري غير دقيقة. مع ذلك، فهي تشير إلى ما نسمّيه «شعريّة اللغة» عند هؤلاء. إذ ترد الكلمة في سياق من التحوّل الأدبي، هو في جانب منه، من تحوّل اللغة الداخليّ. ولا بدّ من دراسة توضّح الكيفيّة التي يستثمر بها هؤلاء الشعراء على اختلاف عربيّاتهم نظام «التحوّل الداخلي» في العربيّة الأمّ وما قد يكون من أثر اللغات الأجنبيّة. والشاعر إنّما ينشأ في ظلّ تقاليد نوعيّة مخصوصة، أو في ضوئها، لكنّ عمله لا يُقاس بها فحسب، وإنّما أيضاً بما يذكي من احتمالات وإمكانات لغويّة فيها. والمدوّنة الشعريّة المقصودة بـ «مدرسة القيروان» تحفل إجمالاً بأعمال استوعبت منجزات الحداثة، وطلّقت ثلاثاً الاتجاه التعبيري القائم على التصريح بالمعنى، في شكله المحدّد، وحرّرت العبارة من علائق المجاورة المتعاودة والتجانس المألوف بين الصفة والموصوف، وهدمت المواضعات اللغويّة القديمة المتواترة حيث الصورة ظلّ اللغة وهي تتوكّأ على متخيّل داثر، وتسترسل إلى نوع من التدفّق الوجداني؛ وليست اللغة/ الشعر التي لا نقيض لها. ونعني تلك التي تقدح المضمر والممكن، ولا تتأبّد في مكرور الصور والتراكيب؛ حتى لا تنلحق بأشبه لها ونظائر. وبعضها يشحذ «نشوة الكلام في اللامعنى»، تلك التي نستشعرها في الفنّ الحديث المأخوذ بالتجريب، وهو ينقلنا من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة حيث المبادرة للغة. ولكن اليوم صار لكلّ من هؤلاء صوته الخاصّ وأسلوبه الخاصّ، ولم يعد من جامع شعريّ بينهم.

كيف تنظر إلى المشهد الشعري العربي بعد رحيل الكبار؟ خلال الأعوام العشرين الأخيرة أو ربما أكثر، لم يبرز شعراء كبار مقابل بروز روائيين. ما هو تفسيرك لضمور حركة الشعر العربي وانتعاش الرواية؟
ــ بدءاً، أشير إلى أنّ صفة «كبير» حكم نسبي، بل إنّ الصفة نفسها غير دقيقة؛ وهي في المنظور الديني، إنّما تعني «العظيم الجليل المتكبّر أي ذو الكبرياء». أعني ما تختصّ به الذات الإلهيّة. وأمّا في المنظور الأدبي أو الفنّي فـ «كبير»، ونحن ننقلها عن الفرنسيّة فتعني الماهر أو النابغ. وفي كلّ تاريخ الشعر عندنا وعند غيرنا، هناك شعراء استثنائيّون أو كبار إذا شئت. أقول من دون أن أضفي أيّ قداسة على أيّ منهم (الجواهري، نزار قبّاني، سعدي يوسف، محمود درويش، سميح القاسم وصلاح عبد الصبور....). والجواهري مثلاً على جلال قدره، إنّما شعريّة نصّه من «شعريّة المناويل»، ومن الوشائج التي تعقدها في الفضاء العام، حتى وهي تنفصل عنه؛ حيث تكون في «الخارج» و«الداخل» في آن؛ إذ لا ينسى الجواهري نفسه؛ تماماً كما يفعل المتنبّي، عندما يكون في حلّ من الإلزامات أو الإكراهات الاجتماعيّة أو السياسيّة.
ونزار قبّاني، أستثني قصائده التي نقلتنا من غرض الغزل بسننه وأعرافه، إلى موضوع الحبّ في علاقته باليومي والمعيش، قد لا يحتفظ التاريخ من شعره إلاّ بالقليل النادر أي «أندلسيّاته» كما يقول درويش؛ وأنا أشاطره الرأي تماماً. ومحمود درويش نفسه في تجربته الأولى، وهو نفسه لم يكن يحبّها؛ بل كان يتمنّى لو لم ينشر بعضها أو أكثرها؛ أي تلك التي تسعى إلى إشراك الشعر في السجالات والمناقشات السياسيّة والاجتماعيّة. وهذه لا يمكن إلاّ أن تصدر عن رؤية قد تنزل بالشعر في نماذج غير قليلة سهل الأباطح. وهذا لا يعني أنّي أسوّغ ما يسمّى «الاكتفاء الذاتي للأدب» أو حصر الشعر في مجرّد نشاط شكلانيّ. والحقّ أنا استثني من الراحلين سعدي يوسف ونصّه هو الأقوى والأبقى في تقديري، حيث اللغة حتّى وهي مقتصَدَة، تقول تفاصيل اليومي، مثلما يقول الرّسم ذلك، وتقولها مثلما يقول السّردُ ذلك. ولا أحبّ بهذا أن أقول إنّ القصيدة لوحة تشكيليّة؛ وإنّما فيها من مقتضيات التّشكيل البصريّ وإن بتمثّل لغويّ؛ فاللّوحة هي أيضاً تكثيف، وربّما تكون حتّى أكثر تكثيفاً من القصيدة. فمهما اتّسعت مساحة القماشة، فإنّها محدودة لا تفلت من الحقل البصريّ، لكنّها جزئيات وتفاصيل، بل أشياء مبتذلة قد لا ننتبه إليها في معهود سلوكنا اليوميّ. لأقل إنّ الشعر يسترجع مجده، عندما يطعّم اللغة ويغنيها، ولا يسترضي الجمهور أو يمالقه. وأستثني درويش، في «الجداريّة» وما تلاها مثل «كزهر اللوز أو أبعد» و«أثر الفراشة» و«لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» حيث نكتشف في الشعر قدرته على تغيير العالم، وعلى تحرير نفسه أيضاً من الإيديولوجيا.
لأقل إنّ هناك «ضموراً» ما في تقبّل النصّ الشعري، وقد يكون مردّه إلى قلّة محصول من الشعر، ومن الثقافة؛ وربّما إلى ارتباك ما في منظوماتنا التعليميّة؛ بل إلى الشعراء أيضاً. من ذلك هذه العودة المتهافتة إلى «قصيدة البيت»، ولا أقول القصيدة العموديّة لأنّها تسمية غير دقيقة؛ فعمود الشعر هو نظريّة الشعر عند العرب، وليس شكل القصيدة. ومع أنّ الوزن ليس حلية خارجيّة كما يتوهّم البعض من شعراء قصيدة النثر، وإنّما هو من كنه بنية العربيّة ونظامها الصرفي. والعربيّة لغة رياضيّة تكاد كلّ أوزانها ترجع إلى «الجذر التربيعي»، بما في ذلك الأسماء الجامدة التي أدار عليها شعراء الجاهليّة الأفذاذ قصائدهم، أو الأسماء المشتقّة أو «السائلة». وهذا الوزن مشرع على كلّ إمكانات الشعر، إذا كان الشاعر متمرّساً به وبلطائفه. وقصيدة النثر في تقديري، إنّما تكتب داخل أوزان الشعر العربي. أمّا «قصيدة البيت» اليوم لا القديمة، فهي قصيدة «باب بدفّتين» كما قال لي محمود درويش مازحاً وهو يسألني عن شاعر تونسي صديق، إذ اللغة فيها تخبر عن نفسها، بذات القدر الذي تخبر به عن تمثّل لحقيقة موجودة سلفاً أو لمعنى قائم في العالم، وشهادة لنظام ما للكون، مرتّب ملموس. وقد تكون القصيدة العموديّة المعاصرة صورة من هذا الارتداد، وردّاً على «قصيدة الباب الدوّار» كما أحبّ أن اسمّي هذا النمط من الكتابة السائبة.
فلعلّ الشعراء قبل القرّاء هم الذين يتحمّلون تراجع الشعر عامّة والذائقة الشعريّة. والمشكل في كثير من الشعر اليوم، غياب الذات الكاتبة؛ كأن لا حياة لمن يكتب، بل لا أثر؛ حتى تشابهت النصوص، كأنّ شعراءنا يكتبون بأصابع واحدة. بل ينسون أنّ مجال الشعريّة ليس اللغة، وإنّما الكلام وهو عمل الفرد ومنجزه؛ وطريقته في استجلاب المعاني الحافّة التي تتصرّف الشعريّة بمقتضاها. وهي التي تحدّ مقبوليّة النصّ من عدمها.
على أنّ الروائيّين العرب الكبار قلّة قليلة، وقد لا استثني سوى نجيب محفوظ؛ وما عداه أكثره من الهباء الذي لا يعمّر، بسبب طغيان السياسي. ونصوص الروائيّين العرب عامّة ليست بقوّة النصوص الروائيّة في الغرب أو في أميركا أو اليابان. بل هي جزء من تاريخنا السياسي والاجتماعي، وليس الإبداعي.

اهتممت بتجربة أدونيس، ما هي أهمية أدونيس في حركة التحديث العربي وطرح سؤال الشعرية؟
ــــ كان أستاذي الراحل توفيق بكّار هو الذي وجّهني منتصف الثمانينيات إلى شعر أدونيس في عملين جامعيّين «التجربة الصوفيّة في «مفرد بصيغة الجمع»» و«الجسد المرئي والجسد المتخيّل في شعر أدونيس». وكان أسّ هذين العملين البحث في «التداخل النصّي» عند أدونيس. ولديّ رسالة مطوّلة من الشاعر، تتعلّق بهذا البحث. على أنّي عدّلت قراءتي في شعره، وحاولت أن تكون رهاناً منّي على أنّ نظريّة علميّة في شعر أدونيس دون غيره من شعراء العربيّة المعاصرين، أمر ممكن جدّاً؛ بل ضرورة علميّة تقتضيها أيّ محاولة لإعادة ترتيب علاقتنا بالشعر العربي منذ أن برح مألوفاً مداراته في الثلث الأوّل من القرن العشرين. والحقّ أنّنا لا نأتي بدعةً بتأسيس علم بشعريّة أدونيس، فقد استحدث العرب منذ القرن الثالث للهجرة (التاسع ميلادي) هذا العلم في كلامهم على أبي تمّام «مذهب الطائي» وما أسمّيه «الطّائيّة» في أطروحتي «دكتوراه الدولة»؛ وقد شدّهم ما ينطوي عليه من غريب يحسر الفكر ويكدّ الذّهن، فحاولوا أنصاراً وخصوماً أن يوطّئوا السّبيل إليه، وأن يفسحوا مساربه ومضايقه. ولسنا نعرف، في شعرنا القديم، أشدّ منها عنتاً وضيقاً حيث يقع شعره في خسوف ذاك «القديم» الغابر. واستحدث هذا العلم في ما يخصّ أكثر من شاعر في بلاد الغرب. ويكفي في هذا المقام أن نستحضر هولدرلين وكيف خصّه النّقد الألمانيّ بنظريّة علميّة في الشّعر.
عليّ الإقرار بعظمة الشعر الجاهلي الذي يُضاهي «الإلياذة» و«الأوديسا»


وعليه، فإنّ الأدونيسيّة حكم منّا تأليفيّ أساسه شعر أدونيس وفكره عامّة؛ أو هي ظلّ هذا مثلما هي ظلّ ذاك. وشأنه شأن الظلّ يرسم تقاليب الضوء، ولا يستقر ّعلى حال، ولا يلبث البتّة في المكان نفسه، وإنّما هو في تحوّل أبداً، بل يغيض في العتمة كلّما غابت الشمس وجاء اللّيل. كذلك الأدونيسيّة تغيض في تلقّي طائفة من القرّاء في عتمة القصائد. وبعبارة أخرى، هل الأدونيسيّة غير صيرورة الشعر وهو يقول نفسه في «تاريخ الشعر»، وهذا تاريخ مفتوح أبداً ما دام الشّعراء يقولون الشّعر! بل نقول من دون مغالاة إنّ الشعر العربي الحديث، لا يمكن ـــ ما رمنا ترتيب علاقتنا به ـــ إلاّ أن نؤرّخ له إبداعيّاً وفكريّاً بـ «الأدونيسيّة».

منصف الوهايبي كتب الرواية أيضاً، هل تعتبرها نفسك روائياً أم هي مجرد تجربة عابرة؟
جرّبت الرواية في ثلاث محاولات، فازت إحداها وهي «عشيقة آدم» بأكبر جائزة تمنح للرواية في تونس وهي «الكومار الذهبي». وكان أستاذنا الراحل توفيق بكّار هو الذي اقترح نشرها في سلسلة «عيون المعاصرة» التابعة لـ «دار الجنوب». ثم جاءت المحاولة الثانية «هل كان بورقيبة يخشى حقّاً معيوفة بنت الضاوي؟»، فالثالثة «ليلة الإفك». ولديّ محاولة رابعة لا تزال قيد الكتابة وهي «جمهوريّة جربة» حيث أتصوّر هذه الجزيرة وقد انساحت في البحر، وأخذت تقترب من مالطا. ومع ذلك، فأنا لست روائيّاً، ولا أجاذب الروائيّين الكبار مكانتهم؛ وإنّما أكتب ما يفيض عن الشعر، أو ما لا أستطيع قوله شعراً.

لديك اطلاع واسع على حركة الشعر العربي، ما هو موقع الشعر التونسي في خارطة الشعر العربي اليوم؟
ــــ الشعر التونسي حاضر في خارطة الشعر العربي، وفي في مقال للشاعر الراحل سعدي يوسف، منشور في موقعه، وفي مجلّة «الفيصل» السعوديّة (آب/ أغسطس 2016) وصف عامّ لحال الشعر في البلاد العربيّة، لكنّه دقيق إجمالاً؛ وإن احتاج إلى قدر من تنسيب الحكم. وحاصله أنّ المشهد الحالي «مشوّش، غير مستقرّ؛ بل باهت...» بالرغم من إقراره أنّ الشعر لا يزال ديوان العرب. ولا أخفيك أنّي أشاطره الرأي، فقد استثنى الشعر التونسي، وذكر بعبارته أنّ «الحركة الشعريّة في تونس الآن هي الأعمق والأبهى في المشهد الشعريّ العربيّ»، وتمثّل بي واستثناني من بين كلّ الشعراء العرب الأحياء (وهي شهادة أعتزّ بها). وأضاف أنّ «الصورة كابية» عربيّاً؛ لأسباب ومسوّغات، أشار إليها في خطف كالنبض، وهو يحصي مميّزات الشعريّة الجاهليّة؛ مثل ماديّة الصورة واستعمال الاسم الجامد لا المشتقّ أو «السائل»، والإقلال من الفضلة، وعقد العلاقة مع الطبيعة ومع «أنا» لا نحن. وهذه تحتاج إلى بسطة في القول، لا يتّسع لها هذا الحوار. ولكنّي على إقراري بعظمة الشعر الجاهلي، وهو الذي يجاذب «الإلياذة» و«الأوديسا» مكانتهما؛ فضلاً عن أنّه «أمّ» العربيّة، وهي التي تدين له بنحوها وصرفها ومجازاتها وسائر لطائفها؛ لا أحبّ أن أجعل منه حجاباً على أوجه الاختلاف بين مراحل الشعر العربي في شرق البلاد العربيّة وغربها. فحال شعرنا اليوم، لا تدرك في سياق الزمنيّة الخطية؛ وإنّما في سياق الزمنيّة الشعريّة. وهذه لا تتوزّع إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، وإنّما هي حاضر أبديّ، ولا يحتاج الشعراء بموجبها إلى أن يعيدوا إحياء الموتى، فهم حاضرون في قصائدهم، وهم يحاورونهم باستمرار.

الروائيّون العرب الكبار قلّة قليلة، وقد لا استثني سوى نجيب محفوظ


وأكثر شعرنا اليوم، يفتقد هذا الحوار حتى يكون منشدّاً إلى نفسه مثلما هو منشدّ إلى سابقه بل لاحقه؛ إذ هو ينشأ «قرائيّاً». والقراءة نفسها استئناف لإنشائيّة الأثر، والأثر الشعري هو في صميمه ذو طبيعة «قرائيّة»؛ فهو لا ينشأ كتابةً أو تشكيلاً أو تنغيماً. ثمّ يُقرأ. إنّما هو ينشأ منذ البداية قرائيّاً، ينشأ وهو يَقْرأ موادّه وخاماتِه وكلّ ما يدور في فضائه. لكنّه يقرؤه أساساً بحسب ما تمليه عليه طبيعة جنسه، وبحسب ما يستعيره من عناصر من تراثه، أو من الأجناس الأخرى، أو المؤثّرات التي ألمّت به. وأمّا عالميّاً، فيكفي أن نتمثّل بالأنطولوجيا الصادرة عن «دار غاليمار» المحترمة ذائعة الصيت، عام 2013 والموسومة بـ «شعراء البحر الأبيض المتوسّط». فقد ضمّ قسمها الخاصّ بشعراء المغرب العربي، ليبيا فتونس فالجزائر فالمغرب. ونحن هنا نراعي الترتيب كما ورد في الكتاب: شاعر ليبيّ واحد هو محمّد الفيتوري الذي يتنازعه السودان وليبيا، وشاعران تونسيّان يكتبان بالعربيّة هما: منصف الوهايبي ومحمّد الصغيّر أولاد أحمد، وشاعران يكتبان بالفرنسيّة، وقلّما كتبا بالعربيّة هما: عبد الوهّاب المؤدّب والطاهر البكري. ومن الجزائر شاعران: حبيب تنقور (بالفرنسيّة) وربيعة الجلطي (بالعربيّة)، ومن المغرب عبد اللطيف اللعبي (بالفرنسيّة)، والطاهر بن جلّون (بالفرنسيّة)، ومحمّد بنّيس (بالعربيّة) ومحّمد الأشعري (بالعربيّة)، وحسن نجمي (بالعربيّة). ولنا أن نقيس على ذلك سائر الأنطولوجيّات الصادرة بالفرنسيّة، لنتبيّن كيف تتكرّر فيها الأسماء نفسها؛ وإن بنسب متفاوتة.