في روايته الثانية «دموع على أرصفة الكرادة» (دار لندن للطباعة والنشر)، يبتعد الكاتب جمال حيدر عن النهاية التي رسمها في روايته الأولى «أجنحة في سماء بعيدة» التي شرعت أفقاً مفتوحاً للمحاصرين في مقبرة وادي السلام في مدينة النجف العراقية. ثمة نهاية متناقضة لكل من العملين. لكن مصائر البشر تتمحور حول الأقدار ذاتها، رغم أن العراق بانعطافاته التاريخية التي شهدها مطلع الألفية الثالثة كان حاضراً بقوة في النهاية المفتوحة للعمل الأول، والموت الذي يحاصر العمل الثاني.في «دموع على أرصفة الكرادة» يأخذنا حيدر بدعة، رغم قسوة الحدث، لنجلس في مكان مرتفع يطل على حي بغدادي، وتحديداً المجمع التجاري في حي الكرادة. تبدأ الأحداث صباح الثاني من تموز (يوليو) لغاية نهاية اليوم، وهي المساحة الزمنية التي يتبلور فيها العمل برمته. في ظهيرة قائظة في نهار رمضاني يوشك على نهايته، إذ تكتظ الأسواق عادة استعداداً للعيد: متسوقون يجوبون المحال، بائعون يعرضون بضاعتهم، ومارة من كل الأعمار، يجتمعون معاً ليشكلوا شخوص العمل، ويتحولوا تالياً إلى شهداء ارتقوا في الانفجار الإرهابي الذي استهدف المجمع التجاري والمحال المجاورة له.


يسبر الكاتب غور الشخصيات كاشفاً عن أفراحها وأتراحها، أحلامها وخيباتها، والهموم التي تحاصرها، والقلق النابع من تفاصيل حياتها. شخوص مقتطعة من المجتمع بتعدديته‫ الدينية والطائفية والقومية‬. شخوص كأنها العراق على امتداد مساحته وتنوعه. هنا يعكس الكاتب الوحدة المجتمعية حتى في المعاناة، لتبدو الرواية كمقطع عرضي للمجتمع العراقي.
بسطاء دفعهم القدر إلى المكان في تلك الليلة للتسوق للعيد المقبل بعد أيام قلائل. وهناك شباب جمعهم شغف مشاهدة مباراة كرة القدم بين ألمانيا وإيطاليا ‫في المقهى الملاصق للمجمع التجاري‬.
أفرد العمل صفحات عديدة لتحليل الشخصيات، مستعرضاً تفاصيل حياتها في ذلك النهار، مع العودة إلى منبتها، في محاولة لربط الماضي بالساعات الأخيرة من حياتها، لحظة تفجير الكرادة الإرهابي عام 2016. جاءت الأسماء حقيقية، هذا ما دوّنه الكاتب في الصفحة الأولى، مشيراً إلى أن الأسماء الواردة في الرواية هي لشهداء سقطوا في الانفجار، غير أنّ حكايتهم هي فعل روائي بحت، سوى ثلاثة شهداء التقى بعوائلهم وقدموا له الكثير من ملامح حياة أبنائهم، لتجمع الرواية بين التوثيق والسرد بكثير من الحرفية، ما يجعل الانتقال من شخصية إلى أخرى بكثير من المرونة والشغف في آن. سار معهم في ذلك النهار في طرقات الحي البغدادي، ثم جمعهم في المجمع التجاري. فلكل منهم حكاية وسبب في وجوده في ذلك المكان، تقاطعوا مع بعضهم من دون دراية أو معرفة، لكنهم احتشدوا معاً في لحظات الموت ليرتقوا إلى السماء بكثير من الألم. في هذا الإطار، ألغى حيدر البطولة الفردية دافعاً كل الشخصيات إلى جوهر الحدث، لتشارك جميعها في البطولة.
في الفصل ما قبل الأخير، نجح الكاتب في أنسنة الأشياء بعدما بعث الروح في الأرصفة ودفعها للتحدث مع المارين، راجية منهم الابتعاد إثر شعورها بالخطر المحدق القادم بعد ساعات قليلة وبحجم الفاجعة المقبلة. «أيها المارون، أيها المارون، لا أحب الموت، لا أطيقه. امكثوا في بيوتكم وأوصدوا أبوابكم، ثمة عاصفة من بكاء ستمر من هنا».(‬ص114).
في هذا الفصل ثمة شيء من التفصيل حول مكابدة الأرصفة. إذ يفشي حزنها تلك الليلة والدموع الساخنة التي تذرفها. بكت لأنها ستفتقد إيقاع المارين بأحذيتهم على جسدها. بكت لأنهم لا يعلمون شيئاً عن قلبها المتخم بالحب، لا يعلمون أنها تعرفهم وتلامس مشاعرهم من خلال إيقاع خطواتهم. بكت لأنهم لا يعيرون أهمية لعلاقتهم بها، وغالباً ما يحيرها السؤال: يسيرون على جسدي طوال حياتهم ولا يلتفتون إليّ.. هل يعقل؟ كل ما يهمهم شكلي ونظافتي من دون الغور عميقاً في روحي، إذاً من منهم يفهم روحي.. أنا الهائمة بأرواحهم؟
يفرد حيدر فصلاً كاملاً عن فتوى الدم التي سببت هذه الفاجعة، ناقلاً لنا اجتماع مجموعة من الإرهابيين العراقيين والعرب حول خارطة لمدينة بغداد مفروشة على الأرض في بيت طيني منعزل، ليحدد المسؤول منطقة الكرادة، قائلاً بكثير من التشفي: «هنا أريد الغزوة». وهو يفرش أسنانه بعود مسواك. ومنذ تلك اللحظة، بدأت القلوب العمياء بالتخطيط لقتل أبرياء وإشاعة الرعب، حيث تم اختيار أبو براء الأعظمي لتنفيذ المهمة. سلكت السيارة المفخخة الطرقات، بعدما اجتازت مدناً وقرى صغيرة وأسواقاً، لتصل إلى هدفها القاتل‪.‬ «قاد سيارته بحقد قلّ نظيره، وبعمى بصيرة من العسير الشفاء منه، بعدما تآلف مع الموت باعتباره المعادل لحياة أخرى مترعة بالملذات التي طالما حلم بها، وهفت نفسه بدناءة إليها». (ص 125).
يعكس الكاتب الوحدة المجتمعية حتى في المعاناة


في فصلها الأخير، نقلت لنا الرواية الدقائق القليلة الفاصلة عن الموت للضحايا الذين سقطوا، واصفةً لنا المعاناة الإنسانية في مواجهة عارية مع الموت، مواجهة معروفة سلفاً نتائجها. إذ بدأت الأجساد تسقط تباعاً تاركة حلم النجاة يغفو بين جفونها. «غامت الحياة أمام عيني محمد محمد هويدي بعدما دوّى عالياً صفير الموت، لم يكن يعد قادراً على الرؤية. انعدمت كلّ الأشياء أمامه. تطايرت أوراقه في الهواء.. ترنّحت وئيداً في الهواء الساخن، انتشرت في الفراغ، ثم هوت مترجفة على الأرض تفترش المكان. أوراق بيضاء محترقة الأطراف، ملطخة بخيوط من دم قان، في العتمة السوداء. شعر بلسعة النار التي اكتسحت المكان بسرعة، حبس أنفاسه، ثمة مذاق لاذع على طرف لسانه. توهج وجهه بفعل انعكاس ألسنة النار، مرت في مخيلته بسرعة خاطفة كل الأعوام الماضية» (ص 138).
في الغلاف الأخير، دوّن الكاتب ما يشير إلى السؤال الأهم الذي اعترى قلوب الناس ومشاعرهم بعد الانفجار.. سؤال سيظل ماثلاً في العقل الجمعي لغاية الآن من دون أن يجد جواباً شافياً: «احترق المجمع التجاري وزبائنه وأصحاب المحال. احترقت المقاهي المجاورة بروادها، احترقت المتاجر ببضاعتها وناسها، احترقت البسطيات والبائعون الفقراء، احترق المارة المحملون بالهدايا لاستقبال العيد. عاصفة من موت زلزلت المنطقة بأكملها، هدير الدعاء وصل عنان السماء بسلامة الناس، ولكن لا سلامة مع الموت. رعب صبغ الوجوه، وتغلغل عميقاً في المسامات حتى العظام. رعب ارتطم بالقلوب ثم ارتد محملاً بأسى لا يمكن تخيله أو معرفة عمق جذوره. احترق المجمع، لكن الحياة لا تزال تومض في صور الشهداء الموزعة على واجهته، وفي عيونهم ثمة سؤال خفي وملح: لماذا؟».

* تربوية وكاتبة سورية