تنطلق رواية «نحو الجمال» للكاتب الفرنسي ديفيد فوينكينوس (1974) من اللحظة التي يقرّر فيها أنطوان دوريس أن يترك وظيفته أستاذاً لتاريخ الفن في ليون ويتقدم للعمل كحارس صالة في «متحف أورسيه» في باريس. خيار أنطوان الغامض سيقود السرد الذي سيتخذ طريقين؛ في الأول نرى الأستاذ وقد تأثرت حياته بانتحار إحدى طالباته. ثم يكشف الكاتب أسرار حياة الطالبة نفسها، الشخصية الأساسية الثانية في الرواية التي نُشرت للمرة الأولى عام 2018، وصدرت حديثاً ضمن سلسلة «إبداعات عالمية» بترجمة محمود المقداد، ضمن إصدارات «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» في الكويت.يبرّر الأستاذ تغيير عمله من محاضر إلى حارس بالقول: «لديَّ رغبةٌ بكلّ بساطةٍ بأن أجلس في صالةٍ وسط لوحات». ورغم أنّ مسؤولة التوظيف تدرك تماماً أنّ مؤهلاته أكبر من أن يعمل حارساً، لكنها تمنحه فرصة العمل. يتّضح سريعاً أنَّ قرار أنطوان كان انفعالياً، فلا يستمر سوى أيامٍ في وظيفته الجديدة حتى يقرّر العودة مجدداً إلى مدينته ليون.


في أيام حراسته القليلة، التي تتمثّل مهمته الأساس خلالها في منع اقتراب الناس من اللوحات أكثر من الحدّ المسموح به، يكتشف الفارق المعرفي والثقافي الهائل الفاصل بينه وبين زملائه، وأيضاً بينه وبين الأدلّاء المشرفين على مجموعات الزوّار. حتى إنَّه لا يستطيع منع نفسه من التدخّل لتصحيح معلوماتهم، أو إضافة تفاصيل جديدة إلى ما يقولونه، بخاصّة أنَّ المعرض الأوّل الذي أقيم بعد توظيفه كان لموديلياني، الذي كتب أنطوان أطروحة عن أعماله، ما خلق له مشكلات مع إدارة المتحف، بسبب الشكاوى التي قدّمها الأدلّاء لما اعتبروه إحراجاً لهم وتدخلاً في عملهم.
لدى عودته إلى ليون، يزور أنطوان قبر شابة في الثامنة عشرة من عمرها، تُدعى كاميل بروتان. نعرف في هذه اللحظة من السرد أنّ موتها هو ما دفعه إلى الرحيل. نكتشف في القسم الثالث من الرواية أنَّ كاميل كانت فنانةً واعدةً وطالبةً متميزةً في معهد الفنون، وهذا هو القسم الأطول الذي يحوّل العمل إلى رواية عن كاميل، فقصّتها تسير إلى جانب قصة أنطوان، إلى أن تلتقي الحكايتان في المعهد بعد التحاقها به. هذه ليست المرة الأولى التي يجعل المؤلف من فنانة عاشت التجربة والمعاناة بطلةً لرواياته، فقد تناول سيرة الرسامة الألمانية اليهودية شارلوت سالومون، التي أعدمها النازيون في أفران الغاز، في روايةٍ حملت اسمها.
ما قارب بين هاتين الشخصيتين المتباعدتين في العمر والمتقاربتين في الميول الفنية، هو الحزن الداخلي والألم الناتج عن الانكسار الذي يعيشه كلٌّ منهما، مع الفارق الكبير في المسبّب في كلتا الحالتين، فانطوان ما زال يعيش آلام انفصاله عن لويز بعد علاقة استمرت سبعة أعوام. أما كاميل، فقد تعرضت في سن السادسة عشرة للاغتصاب من قِبل زوج صديقة أمها، وأستاذها في الرسم الذي كان يشرف على تطوير موهبتها الفنية باقتراحٍ من والدتها.
يجعل المؤلف من فنانة عاشت التجربة والمعاناة بطلةً لرواياته


تتّضح مكانة أنطوان عند كاميل من خلال طلبها منه إعطاء رأيه في أعمالها والإشراف عليها، وهي المكانة التي كان يحتلها مغتصبها إيفان، الذي تسلبها مجرد رؤيته أو سماع اسمه نشاطها، معيدةً إياها إلى السلبيّة والخمول. وقد استمرّ إيفان في تهديدها إن تكلّمت وفضحته، ما أجبرها على اختيار الصمت، فتفاقمت معاناتها النفسية التي تُرجمت بأشكالٍ عديدةٍ، من التشوّش الذهني، إلى قلّة التركيز، وصولاً إلى الدخول في علاقاتٍ متعددةٍ مع شبّان في مثل سنّها. ولكن هذه المعاناة فجّرت في المقابل إبداعها في لوحاتٍ عكست موهبتها الأصيلة.
كانت الطالبة تثق برأي أستاذها أنطوان وتعتبره مرشدها، وكان بناء هذه الثقة مع أستاذها أمراً معقداً بالنظر إلى تجربتها. وحين انتقد مقالة كتبتها كإحدى الواجبات المطلوبة في المحاضرة، انتحرت كاميل في صباح اليوم التالي، تاركة أستاذها مع شعور عميق بالذنب والحيرة. كان يعلم أنها تهتم برأيه بقوة وتحمل له قيمة خاصة، فهل كانت من الهشاشة بحيث لم تحتمل انتقاده؟ هذا هو السر في أننا نجده باحثاً عن عمل في المتحف الباريسي هارباً من ليون التي فقد فيها طالبته صاحبة الموهبة الفذّة التي كانت تعيش اكتئاباً لم يكن يدرك عمقه.
في الوقت الذي حمّل فيه كلٌّ من كاميل وأمها وأنطوان أنفسهم المسؤولية عن الاغتصاب وعمّا جرى بعده، بقي إيفان المغتصب محافظاً على بروده الظاهري أمام الناس، وأمام كاميل خاصةً، كأنّه لم يسبب لها أيَّ أذى، الأمر الذي يُخرجها عن طريق التعافي، بعدما بدأت السير فيه بمساعدة طبيبةٍ نفسيةٍ لجأت إليها بمفردها، لتختار أخيراً الخروج من العالم الذي ينبذ الجمال والساعين نحوه.