يُنسب للسكان الأصليّين في شمال أميركا أنّهم يسمّون أبناءهم باسم ما يصادفونه عند خروجهم من بيوتهم ساعة مولد هؤلاء الأبناء: غراب، غيمة، ثور، دب، إلخ. لكن لدينا أخبار تبيّن أنّ هذا التقليد كان موجوداً عند عرب الجاهلية. وخذ هذا الخبر الذي ينقله لنا ابن دريد: «الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمخّض [تلد]، فيسمي ابنه بأول ما يلقاه من ذلك، نحو: ثعلب وثعلبة، وضب وضبة، وخزز [أرنب]، وضبيعة، وكلب... وكذلك أيضاً يسمى بأول ما يسنح أو يبرح لها من الطير، نحو: غراب وصرد، وما أشبه ذلك»... وأخبرنا السَّكَن بن سعيد، عن العباس بن هاشم، عن المسيَّب التميمي، قال: «خرج تميم بن مُرّ وامرأتُه سَلمى بنت كعب تمخّض، فإذا هو بوادٍ قد انبثق عليه لم يشعر به، فقال: اللَّيل والسَّيل! فرجع وقد ولَدْت غلاماً، فقال: لأجعلنَّه لإلهي، فسماه زيد مناة... ثم خرج [في حادثة أخرى] وهي تمخّض، فإذا هو بمُكَّاء يغرِّد على عَوسَجةٍ قد يبِس نصفُها وبقي نصفُها [أخضر]، فقال: لئن كنتِ قد أثريتِ وأسريتِ لقد أجحدتِ وأكدَيْتِ. فولدت غلاماً، فسمَّاه الحارث، وهم [أبناء الحارث] أقلُّ تميمٍ عدداً» (ابن دريد، الاشتقاق).


وكما نرى، فحين يخرج الرجل من بيته وامرأته تحت الطلق ويصادف ثعلباً، يسمي ابنه ثعلباً، وحين يُصادف ضباً، يسميه ضبّاً. ويبدو أنّ الخروج وقت طلق الزوجة تقليد. أي أنه لا يجري مصادفة، بل يجري تخطيطاً، وبهدف العثور على اسم للمولود. وهذا يعني أنّ الاسم لا يكون معدّاً للمولود من قبل كما يحصل الآن. فهو إشارة من الآلهة تحصل في وقتها، أي في وقت الطلق والولادة. كما يعني أنّ الأهل كانوا لا يتعبون كثيراً في الحصول على أسماء أولادهم كما تقول أغنية فيروز: «أسامينا، شو تعبوا أهالينا تَ لاقوها».
أما تميم بن مرة، فكان يتبع هذا التقليد. فكلما أوشك أن يولد له ولد، خرج من بيته قاصداً أن يسميه باسم أول ما يصادفه. لكن لأن قصة تميم ذات مغزى ديني عميق، فمن المحتمل أن مغزاها سيفوت القارئ، ولن يتمكن من فهم الأسماء التي سمّى بها تميم أولاده. فحين خرج خرجته الأولى، صادفه سيل جارٍ في وادٍ، فسمّى ابنه زيد مناة. وسيسأل القارئ: لقد صادفه سيل، فلماذا سمى ابنه إذن زيد مناة؟ لقد كان عليه أن يسمّيه «سيلاً» أو «وادياً» تبعاً للفرضية التي حدّثنا عنها ابن دريد.
والسؤال شرعي تماماً. لكن الجواب عليه سهل في ظني. فمن الواضح أنّ السيل رمز للإله «مناة». لذا عندما صادف السيل تميماً في خرجته الأولى، سمى ابنه زيد مناة. فقد فهم أنّ ظهور السيل الفجائي أمامه، كان إشارة من السماء بأنّ عليه أن يكرّس ابنه الذي سيسقط من رحم أمه للإله مناة، وأن يسميه اسماً له علاقة بهذا الإله. وهكذا سماه «زيد مناة». وهو ما يعني أنّ «مناة» إله شتوي مرتبط بالأمطار وسيولها. بذا، فالقصة تحسم لنا طابع الإله مناة الذي هو ثالث الثالوث المكي (اللات، العزى، مناة). انطلاقاً من ذلك، فقصة تميم مع السيل تمثل نصاً دينياً مهماً.
ولم يكن «مناة» هو الولد الوحيد الذي يولد لتميم. فقد حملت امرأته ثانية وتمخّضت، فخرج تميم خرجة أخرى، فصادف طائر مُكّاء (يسمى المكاء أم سالم في بعض أنحاء العالم العربي) يغني على عوسجة، فسمى مولوده «الحارث». وهذا أيضاً سيدفع القارئ إلى التساؤل: لماذا لم يسمه «مُكّاء» وقد صادفه طائر المكاء؟
والجواب على هذا السؤال هو أنه يمكن، ميثولوجياً، وضع علامة مساواة بين المكاء والحارث (مكاء = حارث). ولا بد من أن يكون هذا الحارث مرتبطاً بالحرث والزرع، بدليل اسمه ذاته. وهو في ظني إله معاكس في طبيعته لمناة الشتوي. أي أنه إله صيفي مرتبط بالماء السفلي لا الماء العلوي، ماء الأمطار، الذي يشكّل السيول. والماء السفلي هو ماء الينابيع والآبار، التي على مائها تنهض الزراعة والحرث في شمال الجزيرة العربية.
أما العوسجة التي يبس نصفها بينما بقي النصف الآخر أخضر، فربما تكون رمزاً لطائر المكّاء ذاته. ذلك أنّ المكاء يُدعى بالأخرج. والخرج هو اشتباك لونين واختلاطهما معاً، وخاصة البياض والسواد: «الخَرَجُ، بالتحريك: لَوْنانِ سوادٌ وبياض؛ نعامة خَرْجَاءُ، وظَلِيمٌ أَخْرَجُ بَيِّنُ الخَرَجِ... قال الليث: هو الذي لوّن سواده أَكثر من بياضه كلون الرماد وسمّي بذلك لأن به بلقاً، أي أنه يخلط سواده ببياضه» (لسان العرب). ولسنا ندري إن التكرار في جملة «خرج خرجة» على علاقة بخرج المكّاء، أي بلونه الخليط.
يُنسب للسكان الأصليّين في شمال أميركا أنهم يسمون أبناءهم باسم ما يصادفونه عند خروجهم من بيوتهم ساعة مولد هؤلاء الأبناء


على أي حال، فهناك خرجات أخرى أقل غموضاً من الخرجات التي عرضنا لها. وهي خرجات ينقلها لنا ابن دريد نفسه في مقتبس آخر. لكن الأب هنا وائل بن قاسط وليس تميم بن مرّ:
«حدثنا السَّكن بن سعيد الجُرموزيِّ عن العباس بن هاشم الكلبي، عن خراش قال: خرجَ وائلُ بن قاسطٍ وامرأتُه تَمخَّضُ وهو يريد أن يرى شيئاً يسمِّي به، فإذا هو ببَكْرٍ [جمل فتي بكر] قد عَرضَ له، فرجَعَ وقد ولدت غلاماً، فسمَّاه بكراً، ثم خرج خَرجةً أخرى وهي تمخّض فرأى عنزاً من الظباء فرجع وقد ولدَتْ غلاماً، فسماه عَنْزاً، وهو مع خَثعَم بالسَّراة وبالكوفةِ وفِلَسطين، ثم خرج خرجة أخرى فإذا هو بشُخَيصٍ قد ارتفَعَ له ولم يتبيَّنْه نظراً فسماه الشُّخَيص، وهم أبياتٌ مع بني ثعلبة بن بكرٍ بالكوفة، ومنهم بقيةٌ في الجزيرة» (ابن دريد، الاشتقاق).
وكما نرى فالأمور هنا واضحة جداً. فحين صادف الرجل بكراً، أي جملاً فتياً، سمى ابنه بكراً. وحين صادف عنزاً سمى ابنه الآخر عنزاً، وحين صادف شاخصاً في الطبيعة سمى ابنه شخيصاً.
لكن ابن دريد يكمل عن خرجة ثالثة لتميم، ويطرح لنا اسماً ليس سهلاً تفسيره: «ثم خرجَ خرجةً أخرى وهي تمخّض فإذا هو بضبعٍ تجرُّ كاهلَ جَزور فقال: أعثى به رَثْية، يأوي إلى رُكنٍ شديد– أعثى، يعني الضَّبع والرَّثْية يعني الضَّرَع - فولدت عَمْروا» (ابن دريد، الاشتقاق). ولست أعرف بدقة الرابط بين الاسم «عمرو» وبين الضبع. لكنني مقتنع أنه لا بد من علاقة بينهما. ولعل كنية الضبع دليل على ذلك. فالضبع يُقال لها «أم عامر». قال الشنفرى:
ولا تقبروني إن دفني محرّم
عليكم، ولكن أبشري أم عامر
وكما نرى، فالشنفرى يفضّل أن تأكل الضبع جسده على أن يُدفن في قبر.
وليس هناك فرق كبير حقاً بين «عمرو» و«عامر». عليه، يبدو أن قاسطاً سمّى ابنه عمراً، أي الضبع أو ابن الضبع.

* شاعر فلسطيني