في كتابه الجديد «بين الفقه والفن: النزاع على الصورة» (المركز الثقافي العربي ــ بيروت/ الدار البيضاء، 2022)، يستكمل الشاعر والباحث اللبناني في الأدبيات والجماليات شربل داغر (1952) اشتغاله التاريخي والجمالي والفني في مسائل ثقافة الصورة في العالم العربي والإسلامي ليكون الحلقة الرابعة في سلسلة بدأت مع «مذاهب الحسن» (1998)، وبعده «اللوحة العربية بين سياق وأفق» (2003) ثم «العين واللوحة» (2006). وإن كانت كتب داغر الثلاثة الأولى وغيرها قد خاضت في مسائل الفن الإسلامي والعربي الحديث، وتوقفت عند تاريخه، وعند أساليبه ومناحيه الفنية، إلا أنّ الكتاب الأخير يتناول الإشكالية من أساسها: هل الفن محرَّم في الإسلام مثلما ينساق مسلمون إلى قوله، وما يردّده معهم غربيون كثر في زمن «شكّلت الصورة ذات المرجعية الإسلامية في السنوات الأخيرة، وجهاً أو علامة على صراع مكشوف، دموي، في غير مدينة أوروبية وعربية وإسلامية، من دون أن يتبيّن الدرس في صورة وافية ومناسبة، أسباب اندلاع هذا العنف» كما يُشير داغر في المقدمة. حول الكتاب الذي يشكل إحدى الدراسات الجدية القليلة التي تغوص في الفتاوى الإسلامية حول الفن والصورة وتضع الإشكالية الفقهية حولهما في سياقاتها التاريخية والسياسية بأسلوب أكاديمي وبحثي محترف، كان هذا الحوار.
شربل داغر: حكم الموقف الإسلامي الفقهي من الصورة (وإنتاجات الفنون المختلفة) الموقفُ من الوثنية ومترتباته

لماذا تناولت الصورة والتصوير ضمن سياق المدونة الفقهية المغربية تحديداً قبل عهد الحماية الأجنبية للمغرب وأثناءها؟ ولماذا معالجتها ضمن فقه «النوازل» في الفقه المالكي؟
ــ عبارة مأثورة تقول: «التاريخ بمصادره»، وهي تناسب تماماً موضوع كتابي، إذ لا يتوافر الكثير عن مسألة الفن والفقه في المدونة الإسلامية القديمة. هذا ما قاله أكثر من دارس غربي؛ وهو ما تحقّقت منه بنفسي. لهذا كان وقوعي على هذه المدونة المغربية ــ المتأخرة واقعاً ـــ حدثاً سعيداً ومناسباً. وهو ما عملتُ عليه، وتوصّلت إلى تجميع مواد الفتاوى هذه، وهو ما لم يكن مجموعاً في السابق، بل جرى تناول بعض فتاويه في سياقات بحثية مغايرة لما قمتُ به. أما عن «فقه النوازل»، فهو ما تتكفل بدرسه المعالجة الفقهية في المغرب الأقصى... إلا أنني لم أكتف بهذا، بل أخضعتُ درس المدونة لمقاربات تنهل من العلوم الإنسانية، مثل المقاربات التاريخية والسياسية والفنية وغيرها. ذلك أنني تنبّهتُ إلى أنّ الدرس السليم للمدونة المخصوصة بالبحث، يحتاج أو يتطلّب ربطه بالصراع مع الجار الأوروبي، على إثر سقوط الإمارة الإسلامية الأخيرة في الأندلس، إمارة غرناطة، عام 1492. بل تنبّهَ الدرسُ إلى أن الإفتاء في مسألة الصورة تعدّى الفن تماماً، وارتبط بـ «الحرب الشاملة»، كما أسميتُها، أي بأشكال الصراع المختلفة مع ثقافات واعتقادات وإنتاجات الجار الأوروبي «المتربص» و«المتوثب» للسيطرة على المغرب.

هل كانت أحكام الفقهاء في فترة الدرس حديدية وصارمة حول تحريم الصورة أم أن هناك براغماتية معينة كما وصفها الفقيه المغربي محمد الحجوي بمسوغات الضرورة تفتح باباً لموقف أكثر تحرراً من الصورة الفنية؟
ــ وجب التنبّه إلى أن الفتاوى، أو كتب الرحلات المشمولة في المدونة، اختلفت وتعددت وتنوعت بين التجليات الأولى لهذا الصراع، وبين ما انتهت إليه في عهد «الحماية» مع الفقيه الحجوي وغيره. فالمغرب لم يكن جزءاً من السلطنة العثمانية، وتكفل، من ناحيته، بأسباب صراع متعدد الوجهات مع أكثر من دولة أوروبية، من إسبانيا إلى فرنسا وإنكلترا وغيرها. هذا ما تجلّى في جدلٍ تركزَ، في جانب منه، حول الصورة وقابليات التعامل المختلف بخصوصها. ثم بلغ، في أطوار تالية، تحريم المنتجات التجارية الأوروبية التي تشتمل، في ماديّتها، على صور مثل عِلَب عيدان الكبريت، على سبيل المثال وغيرها. ثم انتقل هذا الصراع، عشية التمكن الاستعماري من المغرب، إلى الموقف من الصورة الفنية بإنتاجاتها المختلفة. وقد يكون لهذا الصراع، طوال قرون عدة، ما أوجب مظاهر التشدد في الفقه المالكي، أكثر من غيره في مدارس الفقه الإسلامي. وهو ما نعرفه في إنتاج الفن في السلالات المختلفة التي حكمت المغرب الأقصى، حيث إننا لم نعثر -إلا في النادر- على صور في المخطوطات، على سبيل المثال.

هل توقّف التناول الفقهي لمسألة الصورة على السياق النبوي لمحاربتها كرمز للوثنية ومضاهاة الله في خلقه، أم أمكنه معاينتها في زمان إنتاجها على مختلف أشكالها (صورة، تمثال، فوتوغراف) والتعامل معها في سياق الفن والاستيتيقا؟
ــ حكم الموقفَ الإسلامي الفقهي من الصورة (وإنتاجات الفنون المختلفة) الموقفُ من الوثنية ومترتباته، من مضاهاة الله في خلقه وغيرها. فالمجتمعات الإسلامية، في عهود السلالات الحاكمة المختلفة، عرفت إنتاج الصورة، كما وصلت إلينا أسماء بعض مصوريها، ما نجد أخباره في كتب التاريخ، والشعر، والمرويات وغيرها. وإذا كان لمحاربة الصورة، في عهد النبي محمد، أسبابها العقيدية البيّنة، فإنها لم تنتقل، في العهود التالية، لكي تطاول فنية الصورة، على الرغم من سقوط الوثنية... أما موقف الفقهاء المغاربة -في ما خلا الحجوي- فقد كان متشدداً للأسباب المذكورة، والتي عنتْ، في جانب منها، موقفاً بات يضطلع به الفقيه إزاء السلطان، ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واتّسمَ بمحاربة الفقيه لما بدا «ضعفاً» أو «تهاوناً» من قبل السلطان المغربي إزاء الضغط الأوروبي المتعاظم.
موقف الحجوي مختلف، مثل موقف الإمام محمد عبده قبله، بين قلة قليلة من الفقهاء المسلمين، إذ راحوا ينظرون إلى منتجات الصورة الفنية نظرة مواكبة للزمن، ولتلقّيه الثقافي المختلف، هو الآخر: اللوحة، أو التمثال، أو الصورة الفوتوغرافية، لم تعد إنتاجات تُضاهي الله في خلقه، بل باتت إنتاجات «نافعة»، مفيدة في التربية ودراسة التاريخ الغابر، كما تعامل معها هذان الفقيهان.
الإمام محمد الحجوي نظر إلى منتجات الصورة الفنية نظرةً مواكبة للزمن


من خلال دراستك للنص القرآني والأحاديث النبوية ومدونات الفقهاء الأوائل، هل وجدت في الممارسات الإسلامية تساهلاً ما في موضوع التصوير، كغض النظر الذي مارسه النبي العربي مثلاً عن لعب عائشة ووسادتيها؟ وغض النظر في ما بعد عن تصوير الرسول نفسه؟
ما يمكن ملاحظته هو أنّ المجتمعات غير العربية بدت أقل تشدداً وأكثر انفتاحاً من المجتمعات العربية في تعاملها مع الصورة. ولهذا تفاسير متعدّدة ومختلفة. لعل بعضها يعود إلى تقاليد محلية سابقة، كما في تركيا والهند وبلاد فارس... وقد يعود إلى القيام المتأخر لهذه الحكومات الإسلامية (أي بعد قرون على الخلافة الأموية أو العباسية)، عندما باتت للحكم هيئة ديبلوماسية تتمثل في لزوم رسم هيئة السلطان... وقد يعود إلى ضعف التقليد الفقهي في هذه الحكومات، وانفراد السلطان أكثر بالسياسات، وحاجاته إلى إظهار روعة بلاطه على أنها من أسباب قوته... وهي مباحث تاريخية وفنية لا تتوافر الأجوبة التحليلية عنها، بكلّ أسف.

عالجتَ في الكتاب مدونات الرحالة المغاربة ولا سيما الديبلوماسيين منهم وتعاملهم مع الصورة ضمن سياق الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، هل اختلف موقف الأدب عن موقف الفقه؟
ــ لا يمكن الحديث عن اختلافات في المواقف، العربية خصوصاً، من الأدب والفن الأوروبيين قبل مطالع القرن التاسع عشر. أما الممانعات في الأدب فقد ظهرت، وطاولت بشكل خاص المسرح كما الرواية. وقد تكافل أدباء وفقهاء في الوقوف ضد هذين النوعين: وقفوا ضد المسرح بسبب ما يبيحه من اختلاط بين الذكور والنساء، وهو ما جعل الجبرتي يصف «الكمدي» (أي المسرح، حسب لفظه المنقول عن الفرنسية)، بأنها تبيح «الخلاعة» و«الفجور». وهو السبب الاجتماعي الضمني الذي جعل فقهاء في دمشق يعترضون لدى الباب العالي عندما سمح أبو خليل القباني لشبان بأداء دور نساء في أحد أعماله المسرحية، ما جعل الباب العالي يوقف عروضه المسرحية... أما مع الرواية، فلم تنتشر ترجمةً وكتابة ونشراً، بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، إلا في أوساط كتاب مسيحيين، لبنانيين وسوريين، إذ كانت الرواية، في نظر كتاب وفقهاء مسلمين، مفسدةً للأخلاق العامة: كيف كان لهم أن يسمحوا بروايةٍ تصف وتعمّم بالتالي مناخات اجتماعية، ولا سيما بين الجنسين، ما لم يكن مسموحاً به اجتماعياً!؟ هذا ما سقط مع كلام محمد عبده عن «فوائد» الرواية... وهذا ما جعل محمد حسنين هيكل، أول روائي مصري ومسلم، يكتب رواية عام 1910، من دون أن ينشرها باسمه الصريح، بل تحت اسم «فلاح مصري»، ومن دون أن ينسبها إلى فن الرواية، بل كتب تحت عنوانها أنها «مناظر وأخلاق ريفية»: إنها رواية «زينب»، التي ما لبث هيكل أن وضع اسمه الصريح عليها، وإنها رواية، في طبعتها الثانية.


كان للإمام محمد عبده موقف جديد من الصورة بوصفها فناً، ما شجع على قبول ثقافة الفن في مصر، هلّا شرحت لنا هذه النقطة؟
ــ تناول محمد عبده هذه المسألة، بعد رحلة له إلى جزيرة مالطة، كما تأثر على الأرجح بإقامته في باريس وبمشاهداته للصورة الفنية فيها، ولا سيما مكانتها في المتاحف وصالات العرض وزينة المباني الرسمية والساحات العمومية والقصور والبيوت. وقد انتقدَ عبده بشكل ضمني، في موقفه هذا، غياب الصورة السابق في المجتمعات الإسلامية: فلو كانت موجودة، لكان في الإمكان معرفة المزيد عن الماضي العربي والإسلامي وأعلامه وأحداثه وغيرها.
كان لموقف عبده أثره الأكيد في إقبال مسلمِين على قبول الصورة، وتعلمِ إنتاجها، واقتنائها، وبناءِ المؤسسات لها. هذا ما كان له أثره الأكيد في رفع عائق فقهي أمام الصورة، ولا سيما من قبل مفتي الديار المصرية؛ كما وفّر تسويغاً ثقافياً وفنياً للصورة... ولقد كان من المتوقع، لفقيهٍ مثله، أن يبيحها من باب «الفائدة» وحدها، فيما لم يُعر انتباهاً لمبدأ «المتعة»، وهو أساسٌ للذائقة في الأدب والفن الحديثين.
إلّا أنه يتوجب الانتباه إلى أنّ مناخات البلاط منذ محمد علي، وطلبِ بعض الأمراء وكبار الأعيان في جبل لبنان، كما التجار والمتعلمين العصريين، هنا وهناك، كانت قد تقبلت الصورة قبل ذلك، ودعت إلى تعلّمها، وإلى رفعها فوق الجدران الداخلية في قصور ودور. هذا، من دون أن ننسى أن الصورة كانت ماثلة، عبر الأيقونة واللوحة والتمثال والصور الطباعية، في الكنائس المسيحية المختلفة في مدن وقرى عربية عديدة...

أشرتَ في الكتاب إلى ظهور سلطان «مثقف» في تاريخ المغرب، مولاي عبد العزيز، الذي كان مولعاً بالتصوير الفوتوغرافي ونسخ بعض مخطوطات الرسم التي لم يبرع فيه. هل كان ذلك نوعاً من التطبيع النخبوي مع الغرب، وهل للسلطان أو الحاكم سلطة أكبر من سلطة الفقيه في إطلاق الفنون أو قبضها؟
ـــ لم أتمكّنَ، في كتابي هذا، من التأكدُ أكثر من مدى تأثير سلوكات هذا السلطان أبعد من قصوره وسلوكاته نفسها. إلا أنّ ما يَظهر في سياسات المغاربة، وإقبالهم على التصوير، يعود خصوصاً إلى ما أشاعته الإدارة الاستعمارية الإسبانية في شمال المغرب، والإدارة الاستعمارية الفرنسية في جنوب المغرب، من افتتان بالصورة ومنتجاتها. كما يتوجب الانتباه إلى أنّ الصورة الفوتوغرافية هي التي سهَّلت دخول اللوحة الزيتية ولمعانَها في العلانية الاجتماعية في كثير من المدن العربية... فالصورة الفوتوغرافية هي التي سبقت اللوحة من دون شك؛ وهو ما تعزّز مع لزوم بروز الصورة الفوتوغرافية في جوازات السفر...
هكذا باتت تبرز الصورة في العلانية الاجتماعية، وفي ظهورات متعدّدة ومختلفة، بين الجريدة، وأغلفة الكتب، وصور المشاهير والأعيان، بما فيها صور الحكام «الرسمية»... ذلك أننا عرفنا، خاصة في البلاط العثماني، أن السلاطين كانوا يَطلبون الصور الوجهية، أو المناظر البحرية وغيرها، ولكنهم احتفظوا بها في قاعات الاستقبال، فيما كان التجار الأتراك وغيرهم من العوام، في استانبول، يتذمرون من الصورة في تعاملاتهم مع الرحالة الأوروبيين، كما يتحدث هؤلاء عن ذلك في كتبهم وتقاريرهم.
تناول كتابي الموقف الصفوي، ولا سيما الموقف الإيراني الحالي، أو الموقف الشيعي من إجازة الصورة


أشرتَ في فصل من الكتاب إلى عودة التحريم في الفن بصورة مقنّعة عبر اعتماد بعض الفنانين المغاربة الرواد منذ ستينيات القرن الماضي لفن هو التجريدية والخط والزخرفة أقرب منه إلى الفن الفولكلوري الاستشراقي. هل الأمر دليل عافية أم أنها أصولية فنية؟
ــــ هي ليست بالعودة الظافرة من دون شك، إذ اندرجت في سياق قبول الصورة، ولا سيما الفنية، وفي تنمية حضورها المحلي. وقد تأتّى اعتماد الفنانين الرواد المغاربة للأسلوب التجريدي من جملة أسباب متضافرة. منها أن هؤلاء طلبوا اعتماد أسلوب فني، غير المدرسة الاستشراقية، التي كان يَطلبها ويُقبل عليها فنانون فرنسيون، في المغرب أو تونس أو الجزائر... فقد نظرَ هؤلاء الفنانون المغاربة إلى هذه المدرسة بوصفها استعمارية، من جهة، وفولكلورية، من جهة ثانية. هذا ما جعل فنانين، أمثال محمد المليحي وفريد بلكاهية ومحمد شبعة وغيرهم، يُقدمون على رفع سجادة مغربية في محترفات الطلبة الذين كانوا يشرفون على تعليمهم وتدريبهم في الدار البيضاء، بوصفها الفن المطلوب الاستيحاء منه، بدل صور لوحات ومنحوتات كلاسيكية أو استشراقية وغيرها من المتن الفني الأوروبي.
كما يتوجب التنبه إلى وجه آخر في هذا السياق التاريخي والفني، هو أن هؤلاء الفنانين المغاربة قد شهدوا، أثناء دراستهم في معاهد أوروبية أو أميركية، بروز الفن التجريدي، ولا سيما الغنائي أو اللاشكلي أو البصري منه، بوصفه النزعة الطليعية في موجات الفن الحديث. هذا ما جمع، في خياراتهم، بين أسباب محلية صرفة، وأسباب عالمية متحررة من الإرث الكلاسيكي.

لم يتعامل الإسلام مع الصورة بوصفها جزءاً من الإنتاج الديني كالتصوير الأيقوني في المسيحية، إلا أن رسوم الإسلام الشيعي مثلاً تصوّر أئمتهم مع هالات حول رؤوسهم: هل تمثّل هذه الخروقات اختلافاً في النظرة الفقهية أم إنها نتاج تأثيرات حضارية (فارسية مثلاً)؟
ـــ يجب البحث أكثر في أسباب عدم ظهور الصورة في الطقوس الدينية الإسلامية، أو في زينة القصور والدُّور وغيرها، في العهدَين الأموي والعباسي. هذا ينطلق من محاربة الديانة الناشئة العقيدة الوثنية بتجليّاتها المختلفة، ولا سيما محاربة الصور والأنصاب وغيرهما في أداء الطقوس المختلفة. إلّا أنّ ما يظهر كذلك هو أنّ الخلافة، ولا سيما في العهد الأموي، قبل العباسي، كان لها أن تستمر في سياسات «الفتح»، ولا سيما أمام أسوار القسطنطينية. وهو ما جعل، على الأرجح، من الصورة علامة خلافية، بل صراعية، حادة، بين المتنازعين.
أما ما ظهر في ممالك إسلامية أخرى، غير عربية، وفي عهود تالية، فقد يعود، في بعضه، إلى إحياء تقاليد ثقافية وفنية، سابقة على الإسلام نفسه، كما يظهر ذلك بجلاء في الهند أو في بلاد فارس. وهو ما كان يجذب الحكام، ويُعلي من مكاناتهم، ويدرجهم في تاريخ البطولة القديمة، والممتدة (كما في كتب «الشاهنامه»، على سبيل المثال). وقد تعود أسباب ذلك أيضاً إلى طلب توكيد صورة للحاكم، متمايزة عمّا كان معمولاً به في السابق...

اندلع أكثر من نزاع على الصورة في الآونة الأخيرة، من رسوم الكاريكاتور التي اعتبرت مسيئة للنبي في الدنمارك وفرنسا وما رافقها من عنف مقابل، وتوظيف داعش للصورة «المعولمة» في البروباغندا والترويع. هل خرجت الصورة من المجال الفني والشخصي لتدخل في المجال الهوياتي والسياسي من جديد؟
ـــ توقفت، في كتابي، عند هذا النزاع الأخير. وهو يعود إلى توظيف الديني في السياسي والإيديولوجي من دون شك، ومن قبل جماعات تتوخى السيطرة العنيفة والميسرة، إذا جاز القول، على جمهور مسلم. وهو ما تأكد خصوصاً في سياق العولمة، المسرِّع للأخبار، والمتّكل على الصورة أكثر.

هل من مشروع قادم لدراسة الصورة في سياقات فقهية أخرى، كالعثماني أو الصفوي لكي يكتمل المشهد؟
ـــ تناولت في كتابي، موضوع المقابلة، الموقف الصفوي، ولا سيما الموقف الإيراني الحالي، أو الموقف الشيعي من إجازة الصورة، فيما تناولت، في كتب أخرى، السياق العثماني لقبول الصورة. ما أريد أن أشدّد عليه، هو أن الممالك الإسلامية، منذ قيام السلطنة العثمانية، تعاملت بصورة مختلفة مع الصورة، ولا سيما صورة الحاكم. وهذا يعود إلى اندراج السياسات العثمانية وغيرها في سياق ديبلوماسي ورسمي بات يحتاج إلى إبراز صورة الحاكم، في التعاملات الديبلوماسية بين الدول، ولاحقاً إلى صورة الحاكم فوق أوراق النقد. إلا أنّ الأكيد هو أن سياسات الحكم هي التي كانت توجب هذه السياسة الفنية أو تلك، قبل إجازات الفقهاء أو فتاويهم.
هذا يحتاج، من دون شك، إلى مباحث قد أنصرفُ إليها في قادم الوقت، إن تمكنتُ من استجلاء هذه المسألة الشائكة، وهي: لماذا بقي الفقه الإسلامي، بمدارسه كلها، يُشدد، في «الكراهية» أو «المنع» وغيرهما، على ما هو، في أساسه، موقف من الوثنية، لا من فنون الصورة؟ أيعود هذا إلى تقليد فقهي محدود في مادته، ومتشدّد في معالجته؟ وقد يكون السؤال الأنسب هو التالي: متى بات «تحريم» الصورة موقفاً عقيديّاً بهذا التشدّد في الفقه الإسلامي، ولو اختلف -كما أظهرتُ ذلك في كتابي- بين مدرسة فقهية وأخرى؟

كتابك «بين الفقه والفن» هو الرابع بعد «مذاهب الحسن» (1998)، و«اللوحة العربية بين سياق وأفق» (2003) و«العين واللوحة» (2006). هل نحن أمام مشروع كامل للإحاطة بالفنون الإسلامية؟ ماذا أضاف الكتاب الأخير لهذا المشروع؟
ـــ هذا الكتاب سعى إلى البحث في ما بات «معضلة»، وهو: هل الفن محرَّم في الإسلام (مثلما ينساق مسلمون إلى قوله، وما يردده معهم غربيون كثر)؟ هذا ما طلبتُ درسه منذ سنوات بعيدة، ولم أتمكّن من معالجته قبل هذا الكتاب. فكتبي التي تعدّت العشرة، في مسائل الفن الإسلامي والعربي الحديث، توقّفت عند تاريخه، وعند أساليبه ومناحيه الفنية. وكنت أتحيّن -بالمعنى البحثي- معالجة هذه المعضلة؛ وهو ما توافر لي في السنوات الأخيرة...
أما عن «الخطة»، فقد رسمتُ معالمها منذ أكثر من عشرين سنة، ويمكن تلخيصها في وجهة تحليلية عامة: العمل على تاريخية الفن الإسلامي أو العربي الحديث. ولقد كان لي، في هذه المباحث المختلفة، أن أعمل على وضع الفن في سياقه السياسي والديني والاجتماعي، معوّلاً، في ذلك، ليس على الإنتاج الفني فقط، وإنما على العودة إلى الخطاب العربي القديم نفسه، بما فيها خطاب الأدب نفسه. وهو ما قادني في كتبي الأخرى التي تبحث عن «ظهور اللوحة»، وفق كتابي الأهم في هذا المجال، أي التوقّف، ليس عند سير الفنانين (كما هو حاصل في كتب كثيرة رائجة)، وإنما عند سياقات التاريخ وأحوال المجتمعات.