ربما تكون الجرأة السابقة لزمانها والمغايرة للسائد هي ما أبعد شبلي شميّل (1850-1917) شاعراً عن الوسط الأدبي. يعيده إلى الضوء اليوم «ديوان شبلي شميّل» (الفرات) الذي حقّقه وقدّم إليه الكاتب فارس يواكيم بعدما جمع المادة من كتبه: «فلسفة النشوء والارتقاء» و«الحقيقة» و«مباحث علمية اجتماعية»، ومن مجلتَي المصرية «المقتطف» و«الهلال» وجريدة «البصير».استعادة الأدباء والمفكّرين اللبنانيين والسوريين الذين هاجروا إلى مصر وبرعوا في مجالات عديدة من الكتابة والأدب والصحافة والنشر، مهمة أخذها يواكيم على عاتقه أكثر من مرة. نشر سابقاً «ظلال الأرز في وادي النيل» و«الأسراب الشامية في السماء المصرية»، لذلك جاء تحقيقه لديوان شميّل أقرب إلى عمل توثيقي مهم وسلس ومُمتع عن الخلفيات الفكرية والأدبية السائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مصر. تظهر في كتاباته معرفته بتفاصيل أجوائها الثقافية والسياسية والفكرية، مع التوقف مطوّلاً عند كل قصيدة أوردها في الديوان، يفكّك مفاتيح قراءتها، وظروف كتابتها، وتوثيقها، وشرحها، والجدل الذي أثير حولها.


لا يختلف اثنان على أنّ شبلي شميّل فتح أبواب الشرق العربي للفلسفة الداروينية المسيطرة يومذاك في الغرب، ويُعدّ رائد نظريّة التطوّر في عصر النهضة، وقد أطلق في حينه أعنف تيار حضاري قبالة الخط الذي ترأّسه علماء الأزهر. وهكذا يُصنف بين رواد اليقظة الفكرية السياسية في الشرق العربي. وقد اعتبره المؤرخ السوداني جمال محمد أحمد في كتابه «المصادر الفكرية للقومية المصرية» من أهم الكتّاب السياسيين الذين أرسوا القومية المصرية على قواعد علمانية، على مثال أديب إسحق والشيخ محمد عبده.
كانت مي زيادة تعدّه طبيباً شاعراً رغم إرادته، تقول: «وجدت في بعض قصائده شيئاً غير البحر والسجع والروي. وجدتُ قوة شعرية لا أقول غزلية، في تلك النفس التي تدّعي احتقار الفنون، قوّة أخفتها الحياة تحت طيّات الاختبار الكثيفة وحجبتها كبرياء العلم وتعصّبه تحت أستار المادة الضخمة. هذا الساخر بالشعراء يعلّم الشعراء التحوّل في الشعر. هذا المادي يسكر لأنين العيدان، ولا يلبث أن يئنّ مع الأوتار. هو يكتب بفكره فقط. ويندر أن تسمع عواطفه متكلّمة، لأن شعره كنثره ينحدر من دماغه». ورأت أنّ هذا النوع يزيد من ثروة اللغة وجمالها.
أيّد جبران خليل جبران رأي زيادة، معتبراً شميّل واحداً من القليلين الذين أنبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق، فالشرقيون يحتاجون إلى أمثاله كردّ فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبّدون في القطرين مصر وسوريا.
أمّا عباس العقاد، فكان قريباً من رأي زيادة، ويحسب بأن شميّل ظلم شاعريته كما ظلم سائر الشعراء. ويمكن أن يكون أشعر مما كان، لو راض قريحته على معاني الشعر وعباراته، لولا شدة تعصّبه للعلم.
في هذا السياق، يرى أسعد حسني في «المجلة الجديدة» أن شميّل استوحى في شعره العلم التحقيقي والبحث الفلسفي، فأوحيا إليه بأفكار جديدة واتجاهات حديثة هي عين الخلق في الإنتاج والابتكار في الآراء.
في لبنان، لم يرَ مارون عبّود في الشميل إلا أديباً، وقصائده تعبّر عن فكره وخلاصات علميّته، وقد جاء في كتابه «رواد النهضة الحديثة»: «إذا بحثنا الشميل الأديب، فكأنا تناولنا الشميل بقضّه وقضيضه. فهو لم يفارق عمود فكرته في كلّ ما كتب، فكأنّه استعان ببيانه لإيضاح ما في وجدانه. أسلوب إنشائي تارة ينحو فيه منحى الشدياق معلم الجيل في بساطة العبارة وخفّة الروح، وحيناً ينهج نهج أديب إسحق الخطابي، فينقضّ على الموضوع انقضاضاً».
أما الفيلسوف كمال الحاج، في معرض دراسته عن الفلسفة اللبنانية وأعلامها، فيعتبر أنّ شميّل ليس أديباً إلا في بعض مبناه، في حين أنّه حلقة يجب تثبيتها في سلسلة ذهبية تضمّ الشدياق وناصيف اليازجي، وأديب إسحق، ويعقوب صروف، وجرجي زيدان، إلا أنه لم ينهج نهجهم. يستهلّ الحاج حديثه بالقول: «لا أبالغ إذا سمّيت الشميّل ذلك المجهول. إنّه مجهول حقاً في بني قومه ومن بني قومه. ولهذا الجهل عندنا سبب يعود إلى حالتنا الفكرية، وهو أن وجداننا لم يتعقلن بعد، وعقلنا لم يتوجدن. نحن في أنوثة الأدب أكثر مما نحن في رجولة الفلسفة. والشميل ليس أديباً إلا في بعض مبناه. لقد تفلسف، والفلسفة بضاعة غير مطلوبة تحت سمائنا، لذا غيّبه النسيان... فاندثرت ملامحه أو كادت. على أنه واحد من جهابذة الفلسفة اللبنانية وأئمتها. إلا أنه ذلك المجهول، فلا أدب عندنا يسترسل في الحديث عنه لأن أدبنا فواش يراهق، ولا فلسفة تؤرخه بسعة ذكر، لأن فلسفتنا ما برحت جنيناً. لكأن الشميّل سابق لزمانه بعمر بليغ عرف كيف يطارد فيه الحقائق القاسية. ويخلخل بابها المرصود فيُشرع». ومن ثمّ يبحث في ناموس التكافل والتكافؤ الذي يعدّه أساس الفلسفة الشميلية.
بالعودة إلى مقدّمة يواكيم في ديوان شميّل، يستعرض محطات سريعة من حياة شميّل، وهو صغير إخوته الستة. أرسله والده إلى مدرسة عينطورة وفيها تلقّى العلم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم التحق بالكلية السورية الإنجيلية في بيروت 1867 ليدرس الطب متخرّجاً عام 1871 وكانت رسالته في موضوع اختلاف الإنسان والحيوان بالنظر إلى الإقليم والغذاء والتربية. ثم أرسله والده إلى فرنسا للدراسة الجامعية العليا. وبعدها انتقل إلى إسطنبول واجتاز امتحان الطب، ثم انتقل إلى بيروت، فمصر عام 1875. أقام في طنطا يمارس الطب خمس سنوات ومن ثم انتقل إلى القاهرة.
ينتقل ليستعرض أبرز محطات شبلي شميل المفكّر، العلماني في تدرّج أفكاره في فصل الدين عن الدولة متخذاً من أوروبا وتقدّمها المثال على تبدّد سلطة الإكليروس. لكنّه رفض أن تمسّ حرية الاعتقاد. وعندما احتفل إيطاليو الإسكندرية بذكرى غاريبالدي ورفعوا شعاراً يقول: «لا يُدرك العلم والأدب إلا بزوال الأديان»، استنكر شميّل ذلك الأسلوب وكتب أن العلم يعلمنا حرية الفكر، فكيف يجوز أن يعلمنا الإكراه في الإلحاد؟ إنّ ذلك ضرب من التعصّب مقلوب الوضع.
يرى يواكيم أنه مع وضوح أفكار شميل العلمية والفكرية، ساد الغموض مواقفه السياسية، وتحيّر بعضهم من تفسير مواقفه المبرّرة للاحتلال البريطاني. وبخاصّة موقفه من قضية قناة السويس يومذاك، إذ اعتبر أنّها ملك العالم «فحقوق العالم فوق حقوق الفرد» تعبيراً عن أمميّته، وبلغ استهجان الناس ليستدرك ذلك في مقالات أخرى.
يعتبر يواكيم أن شميّل لا يتحمّس لفكرة الانتساب إلى الشعراء، بل يتجنّبها ولم ينشر قصائده في ديوان ولم يجمع أحد بعد رحيله قصائده المتفرّقة على صحف ومجلات عصره. بعضها قصائد كاملة وبعضها مقاطع شعرية أو قصائد قصيرة، وبعضها أبيات كان ينظمها ويضمّنها مقالاته العلمية ليشرح بالشعر فكرةً، أو ليدعمها أو ليدوّن خاطرة، في عصر كان الشعر هو اللون الأدبي الأثير عند العرب.
أحد روّاد اليقظة الفكرية السياسية في الشرق العربي


يقدم يواكيم لكل قصيدة، ظروف كتابتها ومصدر نشرها أول مرة، ومن ثم يقوم بمقاربة عامة كمدخل إليها. كذلك، يقدّم للمعارضات وسبب كتابتها، منها قصيدة «تهنئة مقدونيا ولسان حالها لنا» وهي معارضة لقصيدة أحمد شوقي «للعظة والتاريخ» الذي حزن لخسارة العثمانيين وانسحابهم من ليبيا ومن دول البلقان، مشبهاً إياها بفقدان الأندلس وخسارتها خسارة الإسلام. وعلى النقيض منه، وقف شبلي المناصر للمنحى العروبي المناهض للعثمانيين وكتب قصيدة ردّ فيها على شوقي أنها ليست خسارة الإسلام، إنّما هي هزيمة سياسية للهيمنة العثمانية. نُشرت القصيدتان في مجلة «سركيس» في تموز (يوليو) 1913.
«لا يصلح الإنسان مجتمعاً»، قصيدة نشرها في خاتمة كتاب «الحقيقة» عن تكيّفات الطبع والعقل ودورها في إعداد القابليات. من أبياتها: «لا يصلح الإنسان مجتمعاً/ ما دام فيه الدين والوطن» نشرتها جريدة «الوطن» البيروتية، فتعرّضت لانتقاد شديد وتوالى الرد من جريدة «الأخبار» في القاهرة.
كتب شميّل أيضاً قصائد ساخرة وأخرى في الإصلاح الاجتماعي ومناهج التعليم، قبل أن يرحل على إثر إحدى نوبات الربو الذي أصابه. كذلك ترجم مسرحية راسين «إيفيجيني» وصدرت بعنوان «فيجينيا في أوليد» التي أظهرت وضوح موهبته الشعرية.
ميزة شميّل الكبرى أنّه أخرج ذهنية الشرق العربي من الفرد إلى المجتمع، مُظهراً بذلك ما للعلوم الطبيعية من تأثير أوّلي في الترقّي، وقدرة الشعر على التعبير عن العلوم. لقد كان جريئاً في تناول الموضوعات التي تلامس المحرّمات.

* روائية لبنانية