يحتفي الأكاديمي والمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي (1945) بالنسيان كجزء من الكتابة والقراءة. يأتي أسلوبه الشيّق ليروي قصصاً عن الفلاسفة، ويؤكّد أنّ الفلسفة ترتبط بالحياة وتمتزج بها ولا تعيش في معزل عنها. في بداية كتابه «قراءات من أجل النسيان» (منشورات المتوسط)، يذكر بنعبد العالي قصة لبورخيس عن شاب فقد القدرة على النسيان على إثر سقوطه عن ظهر حصان. فأخذ يتذكّر تفاصيل كثيرة، وقد أصبح غير قادر على التفكير لأنّ التفكير هو القدرة على تناسي الاختلافات الجزئية. في هذه القصة كما يستخلص الكاتب، يفقد هذا الشاب القدرة على أخذ المسافة من الحاضر، كأننا نعود إلى اقتباس لبورخيس ذكره الكاتب في الصفحة الأولى «ما ندعوه إبداعاً هو مزيج من نسيان ما قرأناه وما نتذكره».
ينتقل صاحب «الكتابة بالقفز والوثب» من فصل إلى فصل كما لو كان يقفز فعلاً، فلا يشرح بل يُشير ويومئ، ليلفت نظرنا نحو موضوع آخر يتعلّق بالنسيان بطريقة ربما حساسة ومهمة وهي «قراءات الفلاسفة». يذكرنا أنها لم تكن قراءات من أجل تحصيل معلومات أو خضمّ إنتاج، بل كانت قراءات من أجل خروج وانفصال، وليس من أجل شحن الذاكرة بل من أجل النسيان.


هكذا ينتقل بنا الكاتب إلى فصل آخر بعنوان «شعرية الاقتباس»، ليردّ فيه على صديق يسأله عن سبب عدم ذكره المراجع والصفحات التي يقتبس منها، فيذكر فقط اسم صاحبها. كانت الإجابة بوصف لماهية الاقتباس وكيف تصبح الكتابة هي «استنساخات تنسى أنها كذلك»، فالاقتباس يصبح شغالاً في النص و«يد الكاتب هي دوماً يد ثانية».
يبدو للقارئ هنا أنّ الكتابة اقتباس داخل اقتباس، كأن النسيان يعمل بطريقة عكسية، فيجعلنا نستحضر أقوالاً ونبني عليها تأويلاتنا وأفكارنا، وأحياناً نبني جملاً آتية من جمل أخرى من دون أن نعلم.
تحضر في الذهن، أثناء قراءة بنعبد العالي، الكثير من الأسئلة الراهنة التي تتعلّق بالتراث والذاكرة والتاريخ، فيطرحها الكاتب في سياق السرد، لنشعر أننا هنا في حضرة كتابة تستفزّ التفكير، فيسأل أسئلة نيتشه في فصل بعنوان «من أجل تاريخ تقويضي»: ما مكانة الماضي من الحاضر؟ وإلى أيّ حد تكون الحياة بحاجة إلى التاريخ من غير أن ترزح تحت ثقله؟ ربما تكون الإجابة كما هو الاقتباس لجيل دولوز في بداية الفصل: «الذاكرة قدرة على استبعاد الماضي لا على استعادته». وتكون إجابة نيتشه التي يذكرها الكاتب أنّ الحياة تتطلّب فهماً آخر للماضي، فيضع مقابل ما يدعوه الغريزة التراثية، ما يسميه الغريزة الكلاسيكية، فالغريزة التراثية تُخضع الماضي إلى معالجة فنية، وتساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي.
يعطي الكاتب مساحة واسعة للحوارات، فيضمّن حواراً مع الفيلسوف تزيفيتان تودوروف، ودومينيك بيستر، وميشال سير، وجاك دريدا عن الفلسفة والإبداع والحياة والعلم والتقنية. ففي حوار مع ميشال سير، يقول في جوابه عن سؤال: «هل الخطأ من صميم الفكر؟» إنه من يحدّد ما هو إنساني، فالإنسان هو من يرتكب أخطاء. هنا يشعر القارئ أن الكتاب يحتفي بالطريقة التي يفكر بها الفيلسوف أو المبدع الذي يرى الإنسان من أخطائه ونسيانه وتجربته الخاصة في الحياة. وفي فصل آخر، يمتدح البطء مقابل السرعة التي يروّجها العالم الحديث والمشي الذي هو صلاة وعبادة وليست رياضة، فيطرح سؤاله: هل ما زلنا نمشي؟.
لا ينسى صاحب «انتعاشة اللغة» الترجمة كأداة تحديث، فيطرح الأسئلة الجوهرية عنها، عن مأسستها، أو الإبقاء عليها كعمل فردي إبداعي واختياري وكيفية تحديد النصوص الأمهات أو الكتب المرجعية بالنسبة للثقافة العربية، ليخلص إلى سؤال مهم هو «ما هي النصوص التي تجعل من الفلسفة أسساً لفكر عربي حديث؟» فهذا هو السؤال الذي نعتقد أنه سيسهم في ترجمة الجديد والملهم لمستقبلنا.
الغريزة التراثية تُخضع الماضي إلى معالجة فنية


في فصل «الكتابة بلسان مفلوق»، يذكر بنعبد العالي ما قاله المفكر والكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطيو إنه طوال فترة تدريسه في الجامعة باللغة الفرنسية، لم يتحدث العربية مع الطلاب، وكان يمزّق أوراق التحضير كي لا يبقى شيء من كلامه الأكاديمي. كما أنّ كيليطيو لم ينشر أي دراسة عن الأدب الفرنسي كأن الأدب الفرنسي لا يحتاجه. يقرأ بنعبد العالي ذلك على أنه رغبة في القطيعة، ويسأل: هل يستطيع كيليطيو أن يمحو الأثر الذي تركه الأدب الفرنسي عليه؟ يرى الكاتب أنّ الانفتاح على الأدب الأوروبي قد يرسم طريقاً جديداً لقراءة الأدب العربي، ولكنه يخلص من قراءة أفكار كيليطيو حول الكتابة إلى أنه لا يريد أن يكتب كالأوروبيّين، ويريد أن يختلف في الوقت نفسه عن الكتّاب العرب أي «لا يريد أن يكتب كهؤلاء ولا أولئك».
في هذا الكتاب، رغبة في تتبّع خطوط النسيان وأثره على التفكير والكتابة، وكأنه عالم واسع من المواقف. فهو الطريق إلى إعادة قراءة الماضي وأخذ مسافة من الحاضر والإبداع بحد ذاته. وربما هو جزء من الذاكرة كما يقول بلانشو في اقتباس في بداية الكتاب: «يتكلّم الشاعر كما لو كان يتذكر، لكن إن كان يتذكر فبفعل النسيان». نحن هنا أمام الأسئلة التي نتأمّلها ونحن نطارد إجاباتها، فلا تأتي جاهزة وكأننا أمام محطات مختلفة يكون النسيان فيها أساساً للمعرفة والقراءة والأهم الانفصال للعودة بطريقة أجمل.